سليديرقصص

المرأة في الوسط الريفي والواحي: قصص كفاح في وجه تغيّر المناخ.. والسياسات المنقوصة؟!

أمل ستيتي – كوسموس ميديا

“ثماني سنوات لم أقم بفحص طبي بسبب التكلفة العالية التي لا أقدر على تسديدها”  هكذا عبرت حليمة (اسم مستعار) عن معاناتها والحزن والألم باديان على وجهها.

تعاني حليمة الأربعينية أصيلة ولاية زغوان من حساسية “الجلوتين” أو بما يسمى داء “السيلياك” وهو مرض مناعي جيني بسبب “بروتين الجلوتين” الموجود في القمح والذي يسبب ضررا في خملات الأمعاء. وتصنف هذه الحساسية على أنها نوع من الاضطرابات الهضمية أي ضعف في المناعة الذاتية، حيث يؤدي تناول “الجلوتين” للمصابين بها إلى تلف دائم في الأمعاء الدقيقة.

هذه السنوات الطويلة التي لم تحصل فيها حليمة على متابعة طبية، كافية بأن تنهي حياتها بسبب المضاعفات الخطيرة الناتجة عن داء “السيلياك” مثل فقر الدم وفقدان الكالسيوم ونقص فيتامين “د” وهشاشة العظام، بالإضافة إلى مشاكل في الخصوبة والإنجاب.

وهذا المرض ليس إلا جزءََا من معاناة حليمة التي تعيشها يوميا. هذه المرأة القاطنة في منطقة المعيذر من معتمدية الناظور بولاية زغوان، تشكو دائما من عدم توفر المواد الغذائية الخالية من “الجلوتين” في منطقتها وعدم تمكنها من شرائها بسبب غلاء أسعارها، خاصة بعد انخفاض دخلها اليومي في السنوات الأخيرة بسبب تراجع العمل الفلاحي في تلك المنطقة، نتيجة التغيرات المناخية التي تشهدها البلاد التونسية وخاصة ظاهرة الشح المائي الذي أثر على عملها اليومي في مجال الفلاحة.

لا تستطيع هذه العاملة الفلاحية الأم لثلاثة أطفال، العمل إلا بضعة أيام في الأسبوع، ولبعض المواسم فقط مقابل أجر مالي زهيد بعدد ساعات طويلة وهو ما جعل وضعها غير مستقر ماديا وصحيا.

ويفيد تقرير بعنوان “النوع الاجتماعي والتغيرات المناخية”، أصدره مشروع “فينا كليمة” السنة الفارطة، بأن النساء يمثلن 70% من اليد العاملة في القطاع الفلاحي، ولكن 15% فقط منهن يعتبرن يدا عاملة قارة، علما وأن 12% فقط يتقاضين أجرا يوميا يتجاوز الـ15 دينارا، في حين تتقاضى 30% منهن أقل من 10 دنانير، و58% بين 10 و15 دينارا.

الحلّ في التأقلم؟!

البلاد التونسية ليست استثناء عن بقية دول العالم إذ تشهد منذ سنوات تفاقم ظاهرة التغيرات المناخية وما تطرحه من مخاطر وانعكاسات صحية وبيئة واقتصادية كذلك. ومع تغلغل ظواهر الاحتباس الحراري والجفاف وزيادة معدل التلوث في الهواء أصبح هذا الأمر مهددا لثروات البلاد خاصة الفلاحية والبحرية.

وتصنف تونس أكثر بلدان البحر الأبيض المتوسط تأثرا بأزمة المناخ التي أصبحت من أكبر التحديات التي يواجهها الإنسان في القرن الحالي. وأضحت اليوم تبحث على سبل للتعايش مع التغيرات المناخية وبدائل للتكيف معها لا فقط إيجاد حلول تحد من هذه التغيرات وتأثيراتها.

وتعد النساء العاملات في القطاع الفلاحي الأكثر هشاشة، إذ رغم مشقة العمل وظروفه القاسية بطبيعتها، إلا أن الوضع تأزم أكثر مع التغيرات المناخية وخاصة ظاهرة نقص المياه في كل ولايات تونس، علما وأن النساء أكثر تضررا مقارنة بالرجال.

وفقدت العديد من النساء عملهن في مجال الفلاحة بسبب هذه الظاهرة إذ هجرن أراضيهن وأصبحن عاملات بأجرة يومية. هذا ما أكدته لنا الخالة منية البالغة من العمر 50 سنة، وهي إحدى النساء اللاتي يعانين هذا المشكل بمنطقة المعيذر من ولاية زغوان.

تحدثنا الخالة منية بحسرة:  “كنت أعمل في الأرض الخاصة بي أنا وزوجي، وكنت مستقرة ماليا بفضل العائدات التي أجمعها من عملي وخاصة في موسم جني الزيتون، إلا أنني أصبحت اليوم أعمل أجيرة عند شخص آخر لساعات عمل طويلة مقابل مبلغ مالي زهيد لا يسد رمق عائلتي وهذا بسبب نقص المياه، فشجر الزيتون الذي أملكه أصبح شاحبا وتيبس معظمه.. وهذا العمل غير المضمون استعد له من الساعة الرابعة صباحا وأذهب في رحلة يومية عبر شاحنات الموت. وفي بعض الأيام لا يكون لي فيه نصيب لأعود باكية إلى منزلي لأنني لست قادرة على إطعام عائلتي.”

لعل التغيرات المناخية أثّرت على الفئات الأكثر ضعفا وحرمانا منها النساء والأطفال وكبار السن، إذ من الملاحظ تضرر جل صغار الفلاحين وخاصة الفلاحات اللواتي وجدن أنفسهن عاطلات عن العمل ومجبرات على تغيير أساليبهن الزراعية والمنتجات التي يستخدمنها مثل البذور الزراعية.

ففي تونس اليوم نساء يجدن أنفسهن مضطرات للتأقلم وتعلم أساليب زراعية جديدة تتماشى مع هذه التغيرات المناخية خاصة المتعلقة بنقص المياه، وأيضا مضطرات لتلقي دورات تكوينية في الأنشطة الفلاحية الجديدة التي يقدرن بها على توفير قوتهن اليومي، على غرار تقطير الأعشاب البرية والنبتات الطبية وتربية الدواجن وتحويل التوابل إلى مواد غذائية وتجفيف الغلال…

هذا ما أكدته نساء عديدات منتسبات إلى المجامع النسائية بولاية قبلي وسيدي بوزيد، لكوسموس ميديا، في إطار زيارة تندرج ضمن مشروع “فينا كليمة” الذي تشرف عليه “جمعية شباب تونس يؤثر” ومشروع “عدالة مناخية عدالة مائية مرأة ريفية” لجمعية حماية البيئة والتنمية المستدامة ببنزرت.

وفي بعض الأحيان تجد النساء أنفسهن مجبرات على الهجرة الداخلية من منطقة لأخرى بحثا عن عمل لتلبية حاجياتهن الأساسية.. هجرة داخلية تفرضها تأثير التغيرات المناخية على المرأة في الوسط الريفي، هذه الفئة الهشة من النساء اللواتي يتحملن نتائج لسن هن المسؤولات عنها.

هجرة قسرية للأرياف والواحات…

يعيش ما يقارب 30% من سكان البلاد التونسية في المناطق الريفية، وتحتكر الفلاحة نسبة 44% من عدد العاملين في المناطق الريفية. وفي السنوات الأخيرة انخفض عدد العاملين في المجال الفلاحي على الصعيد الوطني إلى 14.5%، مما يشير إلى هجرة السكان من المناطق الريفية، وهذا يتنافى مع حق الانسان في المياه باعتبار الماء مصدراً من مصادر الحياة والذي لا يمكن استبداله.

وأشارت دراسة أجرتها منظمة الأغذية والزراعة سنة 2018، إلى أن انخفاض الانتاج الزراعي وتزايد تجزئة الأراضي هما السببان وراء النزوح من المناطق الريفية وهجرة الشباب منذ سنة 2011 من ولايات سليانة وجندوبة ومدنين.

التغيرات المناخية ونقص الموارد المائية أثرا كذلك على الثروات الواحية في جنوب البلاد التونسية، حيث تتعرض الواحات إلى استنزاف كبير للمائدة المائية الذي يعود أساسا إلى حفر الآبار بصفة عشوائية والتي ارتفع عددها في السنوات الأخيرة. كذلك أدت لارتفاع درجات الملوحة في المياه من 4غ/ل وصولا الى 28غ/ل، حسب ما تم تأكيده في كتاب “تأثير التحولات المناخية على الوحات التونسية”، والجدير بالذكر هنا أن واحات قبلي كانت غنية بالعيون المائية التي كانت تغذي الأودية التي تشق بدورها الواحات التقليدية وتساهم في توفير مياه الري.

وأدى شح الماء وتواصل الجفاف إلى تراجع آداء المنظومة الواحية التقليدية بقبلي وانتشار مظاهر تيبس النخيل وتراجعها على مستوى الانتاج والانتاجية، بالإضافة لارتفاع ملوحة التربة بالواحات بسبب تقليص مياه الري وطول الفترة بين دوراتها.

في هذا السياق، كان الباحث والمختص في التنمية والتصرف في الموارد حسين الرحيلي قد تطرق في كتابه “تأثير التحولات المناخية على الواحات التونسية” إلى ما يلي: “انه تحت تأثير التحولات المناخية على الموارد المائية الحالية بقبلي، التي تقدر بحوالي 225 مليون متر مكعب، فإنها ستصبح فقط في أفق 2030 حوالي 157.5 مليون متر مكعب، وإذا تواصل الاستغلال بنفس الوتيرة الحالية، أي 366 مليون متر مكعب، فإن نسبة استغلال الموارد المائية الجوفية بالجهة سيكون 230% مما يعني انخراما شبه كلي للمنظومة المائية الجوفية بالجهة. مما سيكون له انعكاسات كبيرة على كلفة الضخ وبالتالي كلفة مياه الري بالنسبة للفلاحين الصغار خاصة الذين يمثلون 85% من مجموع الفلاحين بالجهة”.

الفلاحة راضية في العقد الرابع من عمرها أصيلة ولاية قبلي من الجنوب التونسي وهي إحدى المنخرطات في مجمع “نساء التحدي للتنمية الفلاحية بنويل” تسرد لنا معاناتها اليومية التي تعترضها في التنقل من منزلها إلى المجمع بسبب بعد المسافة بينهما.

تقول راضية لكوسموس ميديا: “كل يوم أنتظر الحافلة بالساعات الطويلة لنقلي إلى المجمع للعمل وجني قوت يومي لأستطيع إطعام أطفالي ولكن في بعض الأيام لا أستطيع الذهاب للعمل لأنه لايمكنني ترك ابني الصغير وحيدا في المنزل وبالنسبة لي في هذه الحالة صغيري أكثر أهمية من العمل في المجمع.”

غياب استراتجية وطنية ودراسات رسمية

أطلقت وزارتا الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن والبيئة في جانفي 2023، خطة وطنية للمرأة والتغيرات المناخية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تهدف إلى مساعدة النساء على تجاوز التأثيرات المناخية وبشكل خاص النساء اللواتي يهدد الجفاف مصادر دخلهن.

وأكدت وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن آمال بلحاج موسى حينها، أنه تم تركيز اللجنة الوطنية للنوع الاجتماعي والتغييرات المناخية لضمان حوكمة تنفيذ هذه الخطة الوطنية، داعية إلى إيلاء التمكين الاقتصادي للمرأة الأولية ضمن البرنامج التنفيذي لهذه الخطة الوطنية التي تستجيب لأولويات الحكومة خاصة على مستوى استعادة الثقة ودعم الاستثمار في مجال المناخ، إضافة إلى حماية الفئات الهشة وإدراج مسألة النوع الاجتماعي وأهداف التنمية المستدامة والتغيّرات المناخية ضمن توجهات المخطط التنموي 2023 – 2025.

ولم تنشر أي من الوزارتين تفاصيل دقيقة حول هذه الخطة الوطنية إلى حد كتابة هذه الأسطر. وهذه الاستراتيجية ليست الوحيدة التي أعلنت عنها الدولة التونسية في إطار جهودها لمجابهة التغيّرات المناخية، حيث وافق مجلس إدارة مجموعة البنك الأفريقي للتنمية، خلال اجتماعه في أبيدجان في 6 ديسمبر 2023، على تقديم قرض بقيمة 81.9 مليون أورو لتونس لتنفيذ مشروع تحسين جودة مياه الصرف الصحي المعالجة من أجل بناء القدرة على التكيف مع تغير المناخ.

ويهدف المشروع المقرر تنفيذه خلال الفترة 2024-2028، على تحسين معالجة مياه الصرف الصحي لجعلها متوافقة مع معايير إعادة استخدامها. وسيعمل المشروع على تحسين أداء المعالجة والطاقة من خلال تجديد المعدات الكهروميكانيكية والكهربائية واستخدام الطاقة الشمسية الكهروضوئية في 19 محطة لمعالجة المياه في 11 ولاية تونسية.

كما يسعى هذا المشروع إلى تحسين التوازن المائي، وبناء القدرة على التكيف مع تغير المناخ، وتحسين نوعية الحياة لأكثر من 670 ألف شخص.

لا يغيب علينا أن هذه التغيرات المناخية التي تتسبب فيها الدول المصنعة لها تأثيرات على كل دول العالم خاصة الدول الضعيفة لأنها غير قادرة على التأقلم أو مجابهة هذه التغيرات وتأثيراتها خاصة على مستوى النمو الاقتصادي.

وتمويل هذا التأقلم يتطلب احتياجات هائلة، إذ يقدر برنامج الأمم المتحدة للبيئة تكاليف التأقلم بالنسبة للبلدان النامية وحدها بنحو 300 مليار دولار سنويا بحلول عام 2030، ونحو 500 مليار دولار بحلول عام 2050.

تحرّكات المجتمع المدني

على وقع التغيرات المناخية وتأثيراتها على حياة الفئات الضعيفة في تونس خصوصا النساء العاملات في مجال الفلاحة اللاتي تغيرت حياتهن الى الأسوء، يتحرك المجتمع المدني للعمل على هذا الموضوع الذي أصبح تحديا كبيرا بالنسبة للعاملات في الأوساط الريفية إذ قامت جمعية شباب تونس يؤثر باطلاق مشروع “فينا كليمة- الجندرة والتمويل المناخي”، الممول بالشراكة مع منظمة “Akina MaMa Wa Africa” الذي يهدف الى تحسين التمويل المناخي لفائدة المتدخلين المحليين من أصحاب المشاريع الموجهة للمرأة في الوسط الريفي والواحي.

وبالشراكة مع جمعية حماية المحيط والتنمية المستدامة ببنزرت الممولة من طرف “AMWA”، تم القيام بورشة تدريبية لفائدة عدد من الشابات والشباب أشرفت عليها الناشطة في مجال المناخ أمنة الفراتي التي تمكن من خلالها المنتفعين من ملامسة التحديات والمشاكل التي تواجهها المرأة العاملة في الوسط الريفي والواحي.

وعلى إثر ذلك قامت الجمعيتان بعدد من الزيارات الميدانية لبعض ولايات تونس منها سيدي بوزيد وقبلي وسليانة وزغوان رفقة عدد من الشباب والشابات المشاركين/ات في  الدورة التكوينية المشار إليها للتعرف أكثر على الصعوبات والتحديات التي تواجهها المرأة العاملة في مجال الفلاحة خاصة في علاقة بنقص المياه الذي تشهده البلاد التونسية في الوقت الراهن، للقيام بحملة مناصرة تعنى بالتغير المناخي وتأثيره على المرأة في الوسط الريفي والواحي من خلال كتابة ورقة سياسية “Policy briefs”.

وشهدت هذه الزيارات حضور عدد من النساء المنخرطات في المجامع النسائية اللواتي عملن على التأقلم مع هذه التغيرات المناخية بكل السبل الممكنة والمتاحة لهن، وايجاد بدائل جديدة لاستمرارية نشاطهن في مجال الفلاحة. رغم إصرار المرأة على إثبات نفسها ودورها الفاعل في هذا المجال٫

وفي هذا الإطار، أكد المدير الجهوي لوكالة النهوض بالاستثمارات الفلاحية بقبلي علي القمري لكوسموس ميديا، أن نسبة المبادرة في المشاريع الاستثمارية للنساء أكثر من الرجال، لكن ملكية الأراضي بالنسبة للنساء مازال عائقا أمامها.

كما أكدت لنا رئيسة مجمع نساء التحدي بنويل بولاية قبلي إثر زيارة للمجمع، أن نساء المجمع لم تصلهن إلى حدّ تلك اللحظة، أي تمويلات مناخية، علاوة على تسجيلهن تعتيما على المعلومات التي تخص المرأة والتمويل المناخي من قبل الإدارات المعنية بالأمر في تلك الجهة.

تعاني النساء في الوسط الريفي والوسط الواحي تقريبا نفس المشاكل في الوقت الحالي وتعترضها نفس الصعوبات، ولئن اختلفت الأماكن إلا أن التحديات واحدة.

زر الذهاب إلى الأعلى