سليديرمقالات

الإرث السام للحروب

كيف تتحول النزاعات المسلحة إلى كوارث بيئية عابرة للأجيال؟

مبروكة خذيركوسموس ميدياالأردنعمان

لم تعد الحروب الحديثة تخلّف وراءها ضحايا بشرية ومدناً مدمّرة فحسب، بل باتت تزرع إرثاً ساماً يمتد أثره لعقود، مهدِّداً البيئة، والصحة العامة، وحق الشعوب في مستقبل آمن.

هذا البعد الخفي للنزاعات كان محور جلسة النقاش المعنونة الإرث السام للحرب: التداعيات البيئية في فلسطين وأوكرانيا، التي فتحت ملفاً مسكوتاً عنه في التغطيات الإعلامية، وطرحت أسئلة جوهرية حول دور الصحافة في كشف الجرائم البيئية المصاحبة للحروب.

الجلسة، التي عُقدت في اطار فعاليات الدورة 18 من مؤتمر منظمة اريج في العاصمة الأردنية عمان و  بالشراكة مع منظمة IMS، وأدارها المستشار الأول بالمنظمة هنريك غرونيت، جمعت نخبة من الصحفيين والخبراء في الإعلام البيئي والاستقصائي، من بينهم خبيرة التطوير الإعلامي في IMS جوهر خوجايان، والصحفية الاستقصائية الأوكرانية المستقلة لوبوف فيليكو، والمحررة الأولى والمدربة في شبكة أريج فرح جلاد، إضافة إلى المستشار الإعلامي والرئيس المشارك لمبادرة Covering Climate Now جايلز تريندل.

ما وراء الدمار المرئي: البيئة كضحية صامتة

ناقش المشاركون التحديات التي تواجه الصحفيين عند التحقيق في التداعيات البيئية للنزاعات المسلحة، وهي تداعيات غالباً ما تبقى في الظل خلف صور القصف والضحايا والنزوح. فالدمار البيئي لا يحدث في لحظة الانفجار فقط، بل يتراكم عبر تلوث الأراضي الزراعية، وتدمير البنية التحتية للمياه، وتسرب المواد الكيميائية والمعادن الثقيلة، وتلوّث الهواء، ما يحوّل مناطق واسعة إلى بيئات غير صالحة للحياة.

وأكد هنريك غرونيت أن التعامل مع البيئة كضحية ثانوية للحرب يفرغ التغطية الإعلامية من بعدها الإنساني العميق، موضحاً أن توثيق الأثر البيئي للنزاعات هو شرط أساسي لتحقيق العدالة البيئية، ولمساءلة الجهات المسؤولة عن تدمير الموارد الطبيعية.

التلوث كسلاح غير معلن في الحروب

أجمع المتدخلون على أن التدمير البيئي لم يعد مجرد نتيجة جانبية للنزاعات، بل أصبح في كثير من السياقات أداة ضغط ممنهجة. فاستهداف محطات الكهرباء، وشبكات المياه، والموانئ، والمصانع، ومخازن الوقود، يؤدي إلى إطلاق كميات هائلة من الملوثات في الهواء والتربة والمياه الجوفية.

ووفق تقارير بيئية دولية، ترفع النزاعات المسلحة معدلات تلوث الهواء في المناطق المتضررة بنسبة قد تصل إلى 30 و40 في المئة، نتيجة الحرائق، وانفجارات الوقود، واستخدام الذخائر الثقيلة. كما تشكل مخلفات الحرب، بما فيها الذخائر غير المنفجرة والنفايات العسكرية، أحد أخطر مصادر التلوث طويل الأمد، إذ تبقى كامنة في التربة لسنوات، مهدِّدة الزراعة والأمن الغذائي.

أوكرانيا: شبح الكارثة النووية

في مداخلة لافتة، دقّت الصحفية الاستقصائية لوبوف فيليكو ناقوس الخطر بشأن الوضع البيئي في أوكرانيا، مؤكدة أن البلاد تقف على حافة خطر غير مسبوق.

“لدينا خمس محطات نووية تتعرض لهجمات من روسيا… نحن على بعد خطوة واحدة فقط من كارثة بيئية قد لا تقتصر تداعياتها على أوكرانيا وحدها، بل ستمتد إلى دول أخرى”، تقول فيليكو.

وأضافت أن الحكومة الأوكرانية طلبت تدخّل الأمم المتحدة لإقامة مناطق آمنة حول هذه المنشآت الحيوية، باعتبارها الجهة الوحيدة المخوّلة قانونياً لحمايتها، إلا أن الاستجابة الدولية بقيت محدودة، ما يفاقم المخاوف من سيناريو بيئي كارثي في حال تعرّض أي من هذه المحطات لأضرار جسيمة أو تسرب إشعاعي.

مواقع صناعية وزراعية ملوثة… وخسائر طويلة الأمد

تناولت الجلسة أيضاً تضرّر المواقع الصناعية والزراعية، وهو ما يضاعف الكلفة البيئية للحرب. ففي أوكرانيا، أدى القصف إلى تدمير منشآت كيميائية ومخازن وقود ومناجم، ما تسبب في تسرب مواد سامة إلى الأنهار والتربة. وتشير تقديرات محلية إلى أن آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية باتت ملوثة أو غير قابلة للاستغلال بسبب الألغام والمخلفات العسكرية.

وفي فلسطين، لا سيما في قطاع غزة، تضررت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، ودُمّرت آبار المياه ومحطات المعالجة، ما فاقم أزمة المياه وأجبر السكان على استخدام مصادر ملوثة. هذه الأضرار، وفق خبراء بيئيين، تحتاج إلى سنوات طويلة لمعالجتها، إن توفرت الإمكانات أصلاً.

وفي هذا السياق، شددت جوهر خوجايان على أن “الحديث عن الدمار البيئي ليس أقل أهمية من الحديث عن الضحايا، لأن تأثيره يمتد إلى صحة الأطفال ومستقبل المجتمعات بأكملها”.

فلسطين: الإبادة البيئية وجه آخر للحرب

قدّمت فرح جلاد شهادة إنسانية ومهنية عميقة، ربطت فيها بين الإبادة الإنسانية والإبادة البيئية في غزة، مؤكدة أن الاحتلال لا يستهدف البشر فقط، بل يقوّض أيضاً مقومات الحياة على الأرض.

“الاحتلال يستخدم الإبادة الجماعية ضد الإنسان والبيئة معاً… لقد قضت إسرائيل على عناصر البيئة لدفع الفلسطيني إلى ترك أرضه”، تقول جلاد.

وأوضحت أن تدمير الأراضي الزراعية، ومصادر المياه، والبنية البيئية في غزة، ليس مجرد أثر جانبي للحرب، بل سياسة ممنهجة تهدف إلى جعل الحياة مستحيلة، وتجريد الفلسطيني من حقه في البقاء على أرضه.

الكلفة الصحية: أجساد تدفع ثمن التلوث

لم تغفل الجلسة الربط بين الدمار البيئي والكلفة الصحية. فارتفاع مستويات التلوث يرتبط بزيادة أمراض الجهاز التنفسي، والسرطان، والأمراض الجلدية، إضافة إلى آثار نفسية واجتماعية ناتجة عن العيش في بيئة ملوثة وغير آمنة.

وأكدت لوبوف فيليكو أن أي تسرب إشعاعي، حتى وإن كان محدوداً، قد يلوّث مساحات شاسعة ويجعلها غير صالحة للسكن لعقود، وهو ما يضاعف أهمية التغطية الاستقصائية المبكرة لهذه المخاطر.

غزة والأزمة الكوكبية الثلاثية

من جانبه، وضع جايلز تريندل ما يحدث في غزة ضمن إطار عالمي أوسع، مستشهداً بمفهوم الأزمة الكوكبية الثلاثية المعتمد من الأمم المتحدة، والمتمثل في تغيّر المناخ، وفقدان التنوع البيولوجي، والتلوث.

وأوضح أن هذه الأزمات تتجلى مجتمعة في غزة، حيث تشير تقديرات أممية إلى انبعاث نحو 652 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون خلال الأشهر الأربعة الأولى فقط من الحرب، نتيجة القصف وتدمير البنية التحتية، وهو رقم يعكس حجم الدمار البيئي المرتبط بالنزاع.

الصحافة البيئية في زمن الحرب: مسؤولية أخلاقية

ناقش المشاركون التحديات الأخلاقية والمهنية التي تواجه الصحفيين في مناطق النزاع، من صعوبة الوصول إلى المعلومات، وغياب الشفافية، إلى المخاطر الأمنية المباشرة. وأكدوا أن الحديث عن البيئة في سياق الحرب ليس ترفاً، بل دفاع عن الحق في الحياة والعدالة.

وأشارت فرح جلاد إلى أن الصحفيين في غزة وأوكرانيا يعملون في ظروف قاسية، حيث يمتزج الخطر المهني بالفقد الشخصي، ما يجعل توثيق الجرائم البيئية فعلاً شجاعاً ومقاوماً في حد ذاته.

البيئة كدافع خفي للصراعات: حين تُدار الحروب من أجل الموارد

في تعقيب تحليلي على مداخلات المحاضرين، قدّمت باعثة منصة كوسموس ميديا قراءة مختلفة أعادت النقاش إلى جذوره البنيوية، معتبرة أن البيئة ليست فقط ضحية للحروب، بل في كثير من الحالات أحد أسبابها الجوهرية. فالصراعات، وفق هذا المنظور، غالباً ما تُدار حول السيطرة على الموارد الطبيعية بوصفها ثروة استراتيجية: المياه، والطاقة، والأراضي الزراعية، والمعادن، والسواحل، وكل ما يضمن النفوذ الاقتصادي والسياسي في الحاضر والمستقبل.

وأوضحت أن هذه الحروب لا تُخاض دائماً بأسلحة تقليدية أو بين جيوش متقابلة، بل قد تتخذ أشكالاً أكثر تعقيداً وخفاءً، حيث تُمارَس السيطرة على البيئة كوسيلة إخضاع طويلة الأمد. وفي هذا السياق، أشارت إلى وجود حروب تُدار من قبل دول ضد شعوبها، لا يكون فيها “الخصم” عدواً خارجياً، بل مواطنين يطالبون بحقهم في بيئة سليمة وحياة آمنة.

وضربت مثالاً بما يشهده الجنوب التونسي، وتحديداً مدينة قابس، حيث يخوض الأهالي منذ سنوات صراعاً بيئياً سلمياً مع الدولة، مطالبين بإغلاق أو مراجعة نشاط وحدات صناعية ثقيلة ثبت تسببها في تلوث الهواء والمياه، وانتشار روائح خانقة، وتسجيل حالات متكررة من التسمم والاختناق، إضافة إلى ارتفاع مقلق في الأمراض المرتبطة بالجهاز التنفسي. وبيّنت أن هذه المعركة لا تُدار بالدبابات أو الطائرات، بل عبر سياسات صناعية واقتصادية تُفرض باسم التنمية، فيما تتحمل المجتمعات المحلية كلفتها الصحية والبيئية.

وأضافت أن ما يحدث في قابس يعكس نموذجاً عالمياً لما يُعرف بـ**”العنف البيئي البطيء”**، حيث لا يقع الدمار في لحظة واحدة، بل يتراكم تدريجياً، مستنزفاً البيئة والإنسان معاً. هذا النوع من الصراعات، رغم غياب صور القصف والدمار المباشر، يخلّف آثاراً لا تقل فتكاً، ويؤدي في كثير من الأحيان إلى تهجير غير معلن، وفقدان سبل العيش، وتآكل الثقة بين الدولة والمجتمع.

وشددت باعثة منصة كوسموس ميديا على أن إدراج هذه القضايا ضمن التغطية الصحفية للحروب والنزاعات البيئية هو ضرورة مهنية وأخلاقية، لأن حصر مفهوم الحرب في بعدها العسكري يحجب حقيقة صراعات عميقة تُدار حول الموارد، وتُمارَس فيها السيادة على حساب صحة الإنسان وحقه في الحياة. كما دعت إلى ربط التجارب المحلية، مثل قابس، بالسياقات العالمية في فلسطين وأوكرانيا وغيرها، باعتبارها وجوهاً متعددة لصراع واحد عنوانه: من يملك البيئة، ومن يدفع ثمن استنزافها؟

خاتمة: توثيق اليوم… لحماية الغد

خلصت الجلسة إلى رسالة واضحة مفادها أن البيئة ليست ضحية هامشية للحروب، بل جبهة كاملة من جبهات الصراع. فما يُدمَّر اليوم من تربة ومياه وهواء سيحدد شكل الحياة بعد توقف القتال، وسيؤثر على فرص التعافي والسلام والاستقرار.

إن تسليط الضوء الصحفي على الإرث السام للحروب في فلسطين وأوكرانيا ليس مجرد عمل توثيقي، بل محاولة لاستعادة صوت الطبيعة التي لا تملك منبراً تدافع به عن نفسها. وبينما تتواصل النزاعات، تبقى الصحافة البيئية أداة حاسمة لربط المأساة الإنسانية بالعدالة البيئية، وطرح السؤال الأكثر إلحاحاً: أي مستقبل يمكن بناؤه فوق أرض أنهكتها الحرب وسمّمها الدمار؟

زر الذهاب إلى الأعلى