في ظل التحديات المناخية العالمية المتزايدة، تشهد تونس خطوات متقدمة نحو تعزيز إستراتيجيات إزالة الكربون وتقليص الإنبعاثات الغازية ضمن مسارالإنتقال الطاقي الوطني.
وتعتبر المحاسبة الكربونية أداة علمية وإدارية محورية في هذا الإتجاه، تهدف إلى قياس الإنبعاثات الناتجة عن الأنشطة الإقتصادية وتحليل مصادرها بدقة لتعزيز الشفافية وتحسين السياسات البيئية.
المحاسبة الكربونية ودورها في دعم الإستراتيجية الوطنية
أكد المهندس، بإدارة النجاعة الطاقية في القطاع الصناعي بالوكالة الوطنية للتحكم في الطاقة، أيمن الصويعي،أن المحاسبة الكربونية تتيح للمؤسسات الصناعية فهم حجم الإنبعاثات المباشرة وغير المباشرة، مما يمكّنها من وضع خطط إستراتيجية لتقليصها. وأشار إلى أن السياسة الوطنية للإنتقال الطاقي تهدف إلى خفض الإنبعاثات بنسبة 45% بحلول عام 2030.
تشير الإحصائيات الى أن القطاع الصناعي يمثل حوالي 40% من إجمالي إستهلاك الطاقة في البلاد، مع إنبعاثات كربونية تساهم بنحو 35% من إجمالي الانبعاثات .
وأشار الصويعي إلى أهمية منظومة “آلية التعديل على الكربون عند الحدود” التي سيتم تفعيلها قريبا، والتي تهدف إلى فرض رسوم على المنتجات المستوردة وفقا لبصمتها الكربونية. ومن المتوقع أن تؤثر هذه الآلية بشكل مباشر على تنافسية المؤسسات الصناعية التونسية في الأسواق الدولية، مما يحفّزها على تبني ممارسات صديقة للبيئة.
على الصعيد العالمي، تشير بيانات برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى أن إعتماد سياسات المحاسبة الكربونية الصارمة، مثل “آلية التعديل على الكربون عند الحدود”، قد يدفع المؤسسات الصناعية إلى تقليص إنبعاثاتها بنسبة تصل إلى 25% خلال العقد المقبل، وهو ما ينسجم مع أهداف تونس المناخية ويسهم في تعزيز تنافسية الاقتصاد الوطني في الأسواق العالمية.
البصمة الكربونية و نطاقاتها
أوضح الخبير في تحليل دورة الحياة (ACV) والبصمة الكربونية، نورالدين حجاج، خلال مداخلة ألقاها في فعاليات “أيام الصحفيين سفراء الإنتقال الطاقي”، أن حساب البصمة الكربونية للمؤسسات يصنف إلى ثلاثة نطاقات رئيسية، وذلك وفقا لبروتوكول غازات الدفيئة:
النطاق الأول (Scope 1): يشمل الإنبعاثات المباشرة من مصادر مملوكة أو تحت سيطرة المؤسسة، مثل احتراق الوقود في المركبات والمولدات والعمليات الصناعية.
النطاق الثاني (Scope 2): يشمل الإنبعاثات غير المباشرة الناتجة عن إستهلاك الطاقة المشتراة مثل الكهرباء والتدفئة، حيث يتم إحتسابها على المؤسسة رغم إنتاجها في مواقع أخرى.
النطاق الثالث (Scope 3): يغطي كافة الإنبعاثات غير المباشرة الأخرى عبر سلسلة القيمة، بما في ذلك الإنبعاثات النّاتجة عن الموردين، النقل، سفر الموظفين، إستخدام المستهلكين للمنتجات، والتخلص من النفايات.
يؤكد حجاج أن التركيز على النطاق الثالث يمثل تحديا كبيرا لكنه ضروريا، حيث يشكّل غالبية الإنبعاثات في بعض القطاعات، ويستلزم تعاونا واسع النطاق مع شركاء سلسلة التوريد لتحقيق الإستدامة.
آليات دعم الإستدامة
تشكّل المنصات الرقمية مثل DECARBORAT أدوات عملية متطورة تساعد المؤسسات على إحتساب وتتبع بصمتها الكربونية بشكل دوري ومنهجي، مما يسهل اتخاذ قرارات مدروسة للحد من الانبعاثات.
إضافة إلى ذلك، تعمل الوكالة الوطنية للتحكم في الطاقة على وضع كراس شروط منظم لممارسة المحاسبة الكربونية لتعزيز المصداقية والشفافية، في ظل غياب إطار قانوني شامل لتنظيم إزالة الكربون في تونس.
المنطقة الصناعية بالفجة: نموذج ميداني للتّحول الطاقي
رصد مدير إستغلال القطب الصناعي بالفجة، محمد علي قناوة، جهود المنطقة الصناعية في التوجه نحو الطاقة النظيفة، حيث تم إطلاق الدراسات الأولية لإنشاء محطة فوطوضوئية داخل القطب. ويواجه المشروع تحديات قانونية تتعلق بضرورة إشراك الصناعيين كشركاء، بالإضافة إلى التّحديات التمويلية والتقنية.
وتشير الدراسات إلى أن تركيب محطات الطاقة الشّمسية في الأقطاب الصناعية يمكن أن يقلل من تكاليف الطاقة بنسبة تصل إلى 20-30%، بالإضافة إلى خفض الإنبعاثات بمئات الآلاف من أطنان ثاني أكسيد الكربون سنويا.
وأوضح قناوة أن أربعة مؤسسات فقط من أصل 18 بدأت بتنفيذ التدقيق الطاقي وتركيب محطات طاقة متجددة، ما يعكس الحاجة إلى زيادة الوعي وتحفيز الإستثمار في الطاقة النظيفة.
تقدّر نسبة المؤسسات الصناعية التي أجرَت تدقيقا طاقيا وتركيبات للطاقة المتجددة لا تتجاوز 22% حتى الآن، ما يعكس ضرورة تسريع وتيرة التّحول الطاقي عبر حوافز مالية وتوعوية.
وتهدف الإستراتيجية إلى تجهيز ستة أقطاب صناعية بحقول فوطوضوئية تراعي الإحتياجات الخاصة بكل قطب، لتغطية نسبة من الإستهلاك الطاقي المحلي وتحقيق الإكتفاء الذاتي الجزئي خلال عامين. هذه الخطوة من شأنها أن تقلل من تكاليف الإنتاج وتعزز القدرة التنافسية للمؤسسات التونسية، مع مساهمة فعالة في خفض الإنبعاثات.
نحو تصنيع منخفض الكربون ومستدام
في إطار المساعي لتحقيق التصنيع المستدام، يعتمد مصنع متخصص في صناعة قطع غيار السيارات بالمنطق الصناعية بالفجة على منظومات مبتكرة للحد من الانبعاثات واستخدام الطاقة الشمسية في توليد الكهرباء.
وفي هذا الصدد أكد رئيس قسم الصحة والسلامة المهنية وحماية المحيط بالمصنع، شاكر الشتوي ، أن المؤسسة شرعت منذ 2022سنة في إجراءات تقليص البصمة الكربونية، تتضمن إدراج معيار الكربون ضمن سياسات الشراء، وإطلاق محطة فوطوضوئية منتصف عام 2025. كما تم تطوير حلول نقل مستدامة للعاملين، منها توفير دراجات هوائية وحافلات مخصصة، إلى جانب تطبيق ذكي لتنسيق التنقل الجماعي بهدف تقليص الانبعاثات المرتبطة بالنقل.
تشكّل المحاسبة الكربونية خطوة ضرورية نحو الإنتقال إلى إقتصاد منخفض الكربون، غير أن نجاحها يعتمد على تطوير الأطر القانونية، توفير الدعم الفني والمالي، وتعزيز الوعي البيئي لدى المؤسسات. كما يجب تشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص لضمان استدامة المبادرات، مع ضرورة متابعة وتقييم مستمرين لضمان تحقيق الأهداف المناخية الوطنية.
رجاء الدريدي / كوسموس ميديا