مبروكة خذير–كوسموس ميديا–نابل
في صباحٍ هادئ، انطلقت الحافلة من وسط العاصمة تونس، محمّلةً بمجموعة من الصحفيين في رحلة نحو منطقة تاكلسة، تلك الجوهرة البحرية المختبئة بين أحضان ولاية نابل.
كان الطريق إليها وعرٌ ومتعرّج، لكن جمال الطبيعة المحيطة يجعل كل تعبٍ في الرحلة محضَ متعة — كما عبّرت الصحافية راضية الشرعبي التي شاركت ضمن وفد من الإعلاميين في زيارةٍ ميدانيةٍ إلى المنطقة.
بين الأشجار الكثيفة والصخور المتناثرة، تبدأ أمام الزائر لوحاتٌ طبيعية تأسر القلب والعين، حيث تتعانق زرقة البحر مع خضرة الجبال، مكوّنةً مشاهد خلابة تُلهب الخيال. ومع اقتراب الحافلة من الشاطئ، تنكشف لوحةٌ طبيعيةٌ مهيبة، يحدّها شمالاً جبال تاكلسة، وتمتدّ على يمينها مياه نابل اللازوردية.
كانت هذه الزيارة جزءًا من برنامجٍ صحفيٍّ ميدانيٍّ يندرج ضمن مشروع دعم الإعلام التونسي (PAMT2)، وهو مشروع طموح يهدف إلى تمكين الصحفيين التونسيين من مهارات الصحافة البيئية الحديثة لمواجهة تحديات التغير المناخي المتسارعة. وفي هذا السياق، صرّح سامي بدر الدين، المشرف على مشروع دعم مهارات الصحافيين في القضايا البيئية، قائلاً: “نحن نؤمن بأن تمكين الصحفيين من فهم القضايا البيئية على أرض الواقع هو الخطوة الأولى نحو إعلام بيئي مؤثر وقادر على تغيير السلوك والممارسات. فالتصحر، والتلوث، والتغير المناخي ليست مجرد عناوين، بل تحديات تتطلب وعياً ومتابعة ميدانية دقيقة.”
يركّز البرنامج، الذي إنطلق منذ أشهر، على تطوير قدرات الإعلاميين في معالجة القضايا البيئية بعينٍ علميةٍ وموضوعية، مستفيدين من أحدث تقنيات الصحافة والبيانات.
ويُنفَّذ هذا المشروع بالشراكة مع مشروع دعم الحوكمة البيئية والمناخية للانتقال البيئي في تونس (PAGECTE)، التابع للوكالة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ)، وبالتعاون مع وزارة البيئة وبدعم من الاتحاد الأوروبي والوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ)، في إطار برنامج تونس الخضراء والمستدامة.
بين سحر الطبيعة وخطر التدهور
لم تكن زيارة تاكلسة مجرّد نزهةٍ لاكتشاف الجمال الطبيعي، بل كانت أيضًا نافذةً لتسليط الضوء على التحديات البيئية المتزايدة في المنطقة. فقد عانت شواطئها في السنوات الأخيرة من تلوثٍ متنامٍ وانجرافٍ ساحليٍّ متواصل يهدد التوازن البيئي ويستنزف الموارد الطبيعية. وتشير التقديرات إلى أن نحو 15٪ من الخط الساحلي في ولاية نابل اختفى خلال العقدين الماضيين بفعل التعرية والتدخلات البشرية غير المستدامة.
تُضاف إلى ذلك مشكلة تراكم النفايات الصلبة، في ظل غياب منظومة فعالة لمعالجتها، ما ينعكس سلبًا على صحة المواطنين والبيئة البحرية. وقد سجّلت وزارة البيئة ارتفاعًا في نسب المواد الكيميائية والعناصر الثقيلة في مياه بعض الشواطئ، لتتجاوز الحدود المسموح بها، مهددةً التنوع البيولوجي ومصدر رزق الصيادين المحليين.
شهادات من الميدان
في حديثه مع كوسموس ميديا، قال محمد التميمي، مؤسس مبادرة Tunisian Campers:
“عندما زُرنا المكان لأول مرة، إنبهرنا بجماله الطبيعي الخلّاب، لكننا وجدناه في وضعٍ مزرٍ للغاية. النفايات كانت تُشوّه المنظر، والمنافذ المؤدية إلى الشاطئ مغلقة وصعبة الوصول. أدركنا حينها أن الجمال وحده لا يكفي، بل يجب أن نحميه. وبعد جهودٍ متواصلةٍ مع الجهات الرسمية، تمكّنا من وضع حاوياتٍ لجمع النفايات وتحسين الطريق، في خطوةٍ نعتبرها انتصارًا صغيرًا نحو دمج تاكلسة ضمن مسارات السياحة البيئية المستدامة.”
من جهته، أكّد ياسين رمزي الصغير، الخبير في البيولوجيا ورئيس جمعية TunSea، أن شواطئ تونس تواجه اليوم تهديداتٍ مضاعفة بفعل الأنشطة البشرية والظواهر الطبيعية.
“ظاهرة الإنجراف البحري تتفاقم، والتّلوث الناتج عن تصريف مياه الصرف الصحي غير المعالجة يشكّل خطرًا حقيقيًا على صحة الإنسان والحيوان. المطلوب اليوم تنسيقٌ جادّ بين البلديات والمجتمع المدني والوكالات المختصة لمواجهة هذا التحدي البيئي المتصاعد.”
تحديات الحوكمة والنظافة
تعاني بلدية تاكلسة من ضعف الإمكانيات وغياب خطةٍ مستدامةٍ لجمع النفايات. فعمليات التنظيف تتمّ على فتراتٍ متقطعةٍ وبجهودٍ محدودة، ما يجعل الوضع البيئي هشًا ومتدهورًا. ومع تزايد أعداد الزوار، تتفاقم المشكلة بسبب غياب لوحات الإرشاد والتوعية، وغياب ثقافة بيئية تحثّ على سلوكٍ مسؤولٍ تجاه الطبيعة.
هذا و تتعدد الإشكاليات البيئية وتتشابك بين ما هو طبيعي وما هو ناتج عن تدخل الإنسان. فالمنطقة، رغم ما تزخر به من ثروات طبيعية وشواطئ خلابة، تعاني من تدهور بيئي متسارع يتمثل أساسًا في تلوث البحر والمياه الساحلية بسبب تصريف المياه المستعملة والمخلفات الصناعية والزراعية دون معالجة كافية. كما تعرف تاكلسة انجرافًا حادًّا للتربة الساحلية يؤدي إلى تقلص الشريط البحري واختفاء أجزاء من الكثبان الرملية.
ويضاف إلى ذلك تراكم النفايات الصلبة في الفضاءات العامة والشواطئ في غياب منظومة فعالة للفرز والمعالجة، ما يتسبب في انبعاث روائح كريهة وتدهور المشهد الطبيعي. أما الأنشطة العمرانية العشوائية وعمليات البناء القريبة من البحر فتزيد من هشاشة النظم البيئية وتضغط على الغطاء النباتي المحلي. وتُعدّ ظاهرة التّصحر بدورها من أبرز التحديات، إذ تساهم الرياح والتغيرات المناخية في تعرية الأراضي الزراعية وتقليص خصوبتها.
كل هذه العوامل مجتمعة تجعل من تاكلسة نموذجًا حيًّا للتناقض بين جمال الطبيعة وهشاشة البيئة، ما يستدعي تدخلًا عاجلًا ومقاربة تشاركية تجمع بين السلطات المحلية والمجتمع المدني والسكان للحفاظ على هذا الإرث البيئي الفريد.
و بمناسبة زيارة الصحفيين، أُطلقت حملة تنظيف واسعة بمشاركة أعوان النظافة وممثلي المجتمع المدني ووزارة البيئة، لاستعادة نقاء الساحل.
وفي هذا السياق، قال كريم بوليفة، الممثل الجهوي لوكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي، في تصريح لـكوسموس ميديا:
“تبرز هنا الحاجة إلى إنشاء محمية طبيعية حول شاطئ المنڨع، الذي يتميز بمناخ محلي خاص ومنبع مياه عذبة وثروة بيئية فريدة. هذه المحمية ستكون خطوةً نحو تنميةٍ مستدامةٍ تحترم التنوع البيولوجي وتدعم المجتمعات المحلية.”
وحذّر بوليفة من أن تاكلسة قد تواجه نفس مصير شواطئ أخرى في الوطن القبلي إن لم تُتخذ إجراءاتٌ عاجلة للوقاية والاستباق.
على إمتداد الطريق المؤدية إلى شاطئ تاكلسة، تبدو آثار الإنجراف البحري واضحة للعيان، كندوبٍ تركها الزمن على جسد الطبيعة. فالشاطئ الذي كان يومًا فسيحًا، تغمره اليوم أمواج البحر شيئًا فشيئًا، وكأنّ المياه تزحف بصمتٍ لاستعادة ما سُلب منها. الرمال التي كانت تمتد على مدّ البصر تقلّصت، واختفت الكثبان التي كانت تحمي الساحل من المدّ، تاركةً خلفها مساحاتٍ ضيقة تتناوب عليها الأمواج في كل مدّ وجزر.
على حافة البحر، يمكن رؤية الأشجار التي إنحنى جذعها نحو الماء بعدما فقدت تربتها تماسُكها، فالتآكل أضعف الجذور وجرف معها أجزاءً من اليابسة. في بعض النقاط، اقترب البحر من الطرقات الترابية المؤدية إلى الشاطئ حتى بات العبور إليها صعبًا، فيما تآكلت أطرافها بفعل ضربات الأمواج المتكررة.
وفي الأحياء القريبة من الساحل، يروي الأهالي قصصهم عن البحر الذي “يتقدّم مترًا كل عام”، وعن الأراضي التي كانت تُزرع بالخضر والفواكه قبل أن تُغمر بمياه مالحة. لم يعد المشهد كما كان: الرمال مفقودة، والمياه أكثر ملوحة، والنباتات الساحلية التي كانت تثبّت التربة ذبلت وتراجعت، تاركة المكان عاريًا أمام الرياح والتيارات.
يقول شكري العميري، أحد الصيادين القدامى في تاكلسة، وهو ينظر إلى البحر بنظرةٍ حزينةٍ تختلط فيها الذكريات بالقلق: “كنا نصطاد هنا منذ عشرين سنة، وكان الشاطئ أوسع بكثير. اليوم، البحر تقدّم حتى ابتلع المكان الذي كنا نركن فيه قواربنا. تغيّر كل شيء… حتى طعم السمك لم يعد كما كان. البحر أصبح غاضبًا، كأنه ينتقم من الإهمال الذي لحق به.”
ثم يضيف العميري بنبرةٍ لا تخلو من الأسى: “زاد الطين بلّة أن بعض الزوار، من التونسيين الذين يأتون لقضاء عطلتهم هنا، يتركون وراءهم أكياس البلاستيك وبقايا الطعام والزجاجات الفارغة. نحن نعيش من البحر، نحترمه ونخاف عليه، لكن كثيرين يأتون ليستمتعوا بسحره ليوم واحد ثم يتركونه مريضًا بالنفايات. هذه التصرفات تؤذينا نحن قبل أن تؤذي الطبيعة.”
ومع محاولات السلطات المحلية لوقف هذا الزحف ببناء حواجز صخرية أو ضخّ الرمال لتعويض ما فقدته الشواطئ، يبقى البحر ماضيًا في حركته الهادئة والعنيدة. مظاهر الانجراف في تاكلسة لم تعد مجرّد تغيرات طبيعية، بل صارت علامة تحذيرٍ من اختلالٍ بيئيٍّ عميق، حيث تتلاقى آثار التغير المناخي بالتدخل البشري لتغيّر ملامح الساحل الجميل الذي طالما تغنّى به الزوار والسكان على حدّ سواء.
خطر التصحر وضرورة التحرك
إلى جانب التلوث والانجراف، تواجه تاكلسة اليوم خطرًا بيئيًا متفاقمًا لا يقلّ خطورة: ظاهرة التصحر. هذا الزحف الصامت يهدد الغطاء النباتي ويزيد من هشاشة التربة تحت تأثير الرياح والتغيرات المناخية، حتى بدأت الأراضي التي كانت يومًا خضراء تميل شيئًا فشيئًا إلى الجفاف. وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن نحو 80٪ من الأراضي التونسية متأثرة بدرجات متفاوتة بهذه الظاهرة، ما يجعلها من أكبر التحديات البيئية في البلاد.
في هذا السياق، تؤكد أصيلة بالغيث، ممثلة عن وزارة البيئة، خلال زيارتها الميدانية لتاكلسة، أن ما يحدث يستدعي تحركًا عاجلًا: “ما نلاحظه هنا ليس مجرد تراجع للنباتات أو انجراف للتربة، بل بداية تصحر حقيقي يهدد المنظومة البيئية المحلية. إذا لم نتحرك اليوم، فقد نجد أنفسنا خلال سنوات أمام مناطق غير صالحة للزراعة أو حتى للسكن. المطلوب هو خطة شاملة تجمع بين حماية الغطاء النباتي، وترشيد استغلال الموارد المائية، ومراقبة الأنشطة البشرية التي تسرّع هذا التدهور.”
وتضيف بالغيث أن التوعية البيئية أصبحت ضرورة لا تقل أهمية عن الحلول التقنية: “على المواطن أن يدرك أن حماية الأرض ليست مسؤولية الدولة وحدها، بل مسؤولية جماعية. فكل تصرف بسيط — من رمي النفايات إلى قطع شجرة — يترك أثرًا مباشرًا في التوازن الطبيعي الهشّ لتاكلسة.”
تمثل تاكلسة نموذجًا واقعيًا يبرز التحديات البيئية التي تواجه مناطقنا الساحلية، حيث يلتقي سحر الطبيعة بهشاشة البيئة تحت وطأة التلوث والإنجراف والتّصحر. تبقى حماية هذا الإرث البيئي مسؤولية مشتركة تستدعي تضافر جهود المجتمع المدني، السلطات المحلية، والصحافة البيئية، التي تلعب دورًا محوريًا في رفع الوعي وبث ثقافة الاستدامة.
يعتبر العمل العاجل والمستمر هو السبيل الوحيد للحفاظ على الجوهرة الزرقاء في تاكلسة، وضمان مستقبلٍ نظيفٍ وصحي لأجيال اليوم والغد.













































