تحقيقاتسليديرمقالات
أخر الأخبار

جريمة الجفاف...كيف أودت أيدي البشر بحياة تنوع بيولوجي كامل في منزل بورقيبة؟؟؟

مبروكة خذير/كوسموس ميديا/بنزرت

 

لم يكن سهلا علىّ أن أحتمل ذلك المشهد المخيف وأنا أقف وسط قلب السّد وتحت قدميّ أرض مشققة جافة شاحبة. فما بالك بمن كانوا يعيشون على مقربة من هذا السد أو أولئك الذين يقتاتون منه ويعيلون أطفالهم ويشغلون معهم أشخاصا آخرين.

في تونس قد يكون شحّ الموارد المائية قدرا تساهم فيه الطبيعة التي ظنت بأمطارها في السنوات الأخيرة، لكن الجفاف في منزل بورقيبة من ولاية بنزرت جريمة تصنعها أيدي بعض من البشر ممن يرتكبون إثما في حق تنوع بيولوجي بأكمله.

لم يكن من السهل علي ان أعاين أسماكا نافقة و بقايا سلحفاة مياه عذبة ماتت تبحث عن قطرة ماء و نباتات تفحّمت و يبست أغصانها لأن مصدر ريها لم يعد موجودا.

و من قتل حيوانا أو شجرة فكأنما قتل الناس جميعا.

صمام الموت: كيف دمرت أفعال البشر بيئة منزل بورقيبة؟

بدأت القصة منذ شهر أفريل الفارط حين تعمّد بعض من شباب جهة منزل بورقيبة من ولاية بنزرت فتح صمام السد التلي “الڤنين” ليتسرب كل مخزونه من المياه ويصبح جافا تماما مخلّفا بذلك كارثة بيئية عادت بالوبال على الأسماك التي كانت تعيش فيه وبقية الحيوانات الأخرى التي تقتات من بعضها البعض في تناغم طبيعي.

جاءنا نداء الاستغاثة لنذهب بأنفسنا ونقف على وقع كارثة في حق الكائنات الحية: إنسانا و نباتا و حيوانا.

نور منصور إبنة الجهة تتابع منذ فترة مآلات الشكاوى التي تقدم بها أهالي الجهة الى السلطات المعنية في جهة منزل بورقيبة و ما من مجيب. منذ بدايات شهر أفريل الفارط تعمّد بعض من شباب جهة منزل بورقيبة فتح صمام السد التلي وكان الهدف من ذلك تسرّب الأسماك التي يقع تربيتها داخل السد الى الأودية الصغيرة التي تربط بين فتحة السد والأراضي المحيطة بالجهة.

بدر الدين جمعة واحد من نشطاء الجهة البيئين، كان بدر الدين في الأمس القريب يصوّر وسط جبال منزل بورقيبة الحياة البرية و كان السذ التلي وجهته التي تستهوي شاشة كاميرته التي لا تفارقه.

يقف بدر الدين على هضبة مطلّة على السد يوجه بألم عدسة الكاميرا نحو أرض جرداء و مشققة. اليوم  جفاف وخواء حيثما أدار العدسة  ولكنه بالأمس القريب كان غابة خضراء. لقد تغيرت ملامح هذا المكان وغادرته كل الحيوانات والطيور التي كانت تجد فيه ضالتها من الماء. يحدثنا بدر الدين جمعة بحرقة عن الأمس القريب في هذا السد: «لم يكن يمر وقت قصير حتى أحمل معداتي للتصوير وأجهز سيارتي وآتي الى هنا الى هذا السد لمراقبة الطيور المهاجرة وإلتقاط صور لها.

“لقد كان هذا المكان بالنسبة لي جنتي الصغيرة التي أهرب إليها و أراقب ما فيها من تنوع بيولوجي جذاب. كان هذا السد بكل ما يحيط به بالنسبة لي مختبرا لأفهم طبيعة الطيور وكيف تتأقلم مع كل ما في هذا المكان من حيوانات أخرى ونسيج نباتي، انا اليوم للأسف عاجز عن تصوير أي شيء كل ما توثقه الكاميرا هي صور بقايا حيوانات نافقة واسماك متفحمة و أثار جريمة بيئية نبّهت لها منذ أشهر و لكن لا يعيرها أي أحد إهتماما. لقد قتلوا كل الأشياء الجميلة التي كنت افتخر بإلتقاط صورها ومشاركتها على مواقع التواصل الإجتماعي”.

كان المصور الفوتوغرافي للحياة البرية بدر الدين جمعة يحدثنا عن ذكرياته القريبة في المنطقة بحرقة من فقد حياة بأكملها.لم يكن السدّ بالنسبة له مجرّد مكان بل كان مختبر حياة و إفراغ السدّ من مياهه ضرب صارخ لكل أهالي الجهة ممن كانوا يجدون فيه ملاذا للبحث و مراقبة الحياة البرية و فهم ديناميكيات التفاعل بين كل عناصرها في هذا الفيديو يلخّص لنا مشاعره و هو يقف اليوم أمام صور دمار المكان.

و أنت ترافق بعضا من أهالي معتمدية منزل بورقيبة وسط سدّ جاف تتعرف على ما يمكن أن يمثله هذا المكان من أهمية في نظر هؤلاء فإن كان السد فضاء تصوير لبدر الدين جمعة فهو مصدر رزق رياض ساسي البحار الأربعيني الذي كان بالأمس القريب يعيل أطفاله الثلاثة مما يبيعه من تربية الأسماك داخل السد.

كان رياض يتجوّل بنا بين ثنايا السد الجاف ويطلعنا بحسرة كبيرة على بقايا أطنان من الأسماك الميتة التي نفقت بسبب تسرب المياه خارج السد. منذ ثلاث سنوات بدأ رياض مشروعا صغيرا لزرع الأسماك وتربيتها داخل السد. إستثمر الرجل كل ما لديه لشراء فراخ الأسماك و ازدهر مشروعه سريعا فارتفاع نسبة الملوحة داخل السد ساعده على الحصول على جودة عالية للأسماك التي كان يبيعها في أسواق مدينة منزل بورقيبة.

الجفاف كجريمة: من المسؤول عن الكارثة البيئية؟

يدرك البحار أن المهمة لم تكن سهلة في إقناع أهالي الجهة بالأهمية الإقتصادية للسد أمضي رياض ساسي سنواته الثلاث يحاول أن يفتح لنفسه ولبعض من بحارة الجهة مورد رزق جديد في ظلّ شح موارد بحار جهة بنزرت وتراجع ثروتها السمكية نتيجة إختلال التوازن الإيكولوجي البحري.

يعتبر رياض أن السد ملك الدولة و أن الإستثمار فيه مسألة إيجابية سيما في ظل عدم إستغلال مياهه زائدة الملوحة في ري المساحات الفلاحية المحيطة به. واجه الرجل محاولات كثيرة لتخريب مشروعه، قدّم شكاوى إلى السلطات الأمنية في أكثر من مناسبة بسبب ما يواجهه من تهديدات من بعض شباب الجهة ممن يريدون تخريب مشروعه و العبث بأسماكه و قطع طريق الإستثمار أمامه. كان في كل مرة يواجه لوحده محاولات سرقة اسماكه التي أمضي سنوات يرعاها.

يشعر رياض أنه تُرك وحيدا يصارع شرذمة من المخربين. حدّثنا عن تحديات كثيرة كانت تواجهه وعن غياب تام لسلطات الجهة في حماية مشروعه. وحده فقط و بعض من نشطاء الجهة يدركون قيمة السد الإقتصادية فتربية الأسماك داخل السدّ التلي “القنين” لا تمثّل فقط قيمة إقتصادية بل إن أسماك السد ذات جودة عالية لأنها حسب اعتباره بها فوائد لمن يعاني من ارتفاع الضغط  كما أن بعض الأسماك التي أصبحت موجودة في المياه العذبة مفيدة لتنقية مياه السدود فهناك أصناف من الأسماك  التي تتغذى على الناموس و الضفادع و تساهم في تنقية المياه و تطهيره من الشوائب و بالتالي فحياة الأسماك داخل السد ناجعة لخلق توازن إيكولوجي شامل علاوة على قيمتها الإقتصادية و التنموية.

يخاطب رياض ساسي موفدة كوسموس ميديا الى منزل بورقيبة فيقول بكل أسف ومرارة:” ها نحن هنا في قلب السد وهو جاف. منذ أشهر قليلة حيث نقف هنا كانت نسبة الإمتلاء كبيرة. كان إرتفاع الماء يصل الى أربعة أمتار. مساحة هذا السد 18 هكتار وهي مساحة ليست بالقليلة إن كانت فيه نسبة من الملوحة فهو مهم جدا في ظل شح الموارد المائية اليوم، يمكننا تحليته واستعماله”.

و يظيف البحار الاربعيني قائلا :” إنهم لا يدركون قيمة هذا السد لنا جميعا، لقد نسيوا أن الجميع يقتات منه، هناك طيور مهاجرة وأحياء مائية وهناك من يسترزق من هذه البحيرة التي تتبع الدولة لكنّ هياكل الدولة لم تعر إهتماما لنداءات الاستغاثة التي أطلقتها. لقد عاينت بنفسي جريمة تجفيف السد من قبل بعض شباب الجهة الذي أعرفهم فردا فردا. لقد شكوتهم لكل السلطات الأمنية و الرسمية التي تشرف على جهة منزل بورقيبة منذ اشهر و لكنهم لم يحركوا ساكنا. نحن أمام فراغ رهيب و إفلات من العقاب و هذه جريمة بيئية خطيرة.”

حاول رياض ساسي ان ينبّه في أكثر من مناسبة الى الخطر المحدق بالسد. واجه بنفسه مطامع بعض من شباب الجهة في إفراغ السد من مياه قصد دفع الأسماك الى الخروج نحو المجاري والأودية وتسهيل عملية صيدها لمصلحة ذاتية. لم ينجح لوخده في مواجهة المجرمين. باءت كل مساعيه بالفشل وخسر مشروعه وخسرت الجهة موردا من موارد المياه فيها و حتى إن تجمعت بعض الامطار مستقبلا في السد فكل المعدات داخله تم اتلافها ولا مجال اليوم لأن يستعيد المكان عافيته اذا لم تتدخل السلطة في إصلاح “الفانا” التي أصبحت معطبة تماما و هو ما يعني ان أي كميات امطار في المستقبل ستكون عملية تجميعها فاشلة بالنظر الى فقدان كل الشروط اللوجستية لتجميعها.

انها صيحة فزع يطلقها الرجل في هذا الفيديو عبر منصة كوسموس ميديا، للفت نظر السلطات لاتخاذ الإجراءات حتى لا تتكرر الجريمة في أماكن أخرى.

إلتقت موفدة كوسموس ميديا بالناشطة البيئية نور منصور، التي عبّرت عن أسفها العميق بسبب إفراغ السد التلي “القنين” في منطقة منزل بورقيبة من مياهه. وأكدت منصور على أهمية السدود في ظل شح الموارد المائية، مشيرة إلى دوره الحيوي في الحفاظ على التنوع البيولوجي. كما أوضحت منصور في حوارها مع موفدة كوسموس ميديا أن الماء هو قوام الحياة في جميع النظم البيئية، وليس فقط في المناطق الرطبة، حيث يعتمد وجود جميع الحيوانات على توفر الماء. وأشارت إلى أن تواجد الأنواع المختلفة مرتبط بتواجد الأنواع الأخرى، حيث أن موت صنف معين يؤثر على بقية الأصناف، كما حدث مع الأسماك في المنطقة.

كما تحدثت نور منصور عن بقايا السلاحف الموجودة في السد ، مشيرة إلى أن أكثر الأنواع شيوعًا هي Mauremys capisca، التي تُعتبر اكثر سلاحف المياه العذبة انتشارًا في البلاد التونسية عامة.

التنوع البيولوجي في خطر: عواقب فتح صمامات السدود

أكّدت الناشطة البيئية نور منصور أن للسدود دور هام جدا في الحفاظ على الموارد المائية والتنوع البيولوجي، مشيرة إلى تأثير إفراغ السدود على الحياة البرية سيما في ظلّ تأثير التغيرات المناخية على البيئة، وأهمية اتخاذ إجراءات فعالة للتكيف مع هذه التغيرات.

تلعب السدود دورًا حيويًا في النظم البيئية، حيث تعتبر من الإنجازات الهندسية التي تساهم في إدارة الموارد المائية. تُستخدم السدود لتخزين المياه وتنظيم تدفقها، مما يساعد في تلبية احتياجات الزراعة والشرب، خاصة في فترات الجفاف.

علاوة على ذلك، تُستخدم السدود لتوليد الطاقة الكهربائية من خلال استغلال قوة تدفق المياه، مما يجعلها مصدرًا متجددًا للطاقة. كما تسهم السدود في حماية المناطق السكنية من الفيضانات، حيث تعمل على توجيه المياه بعيدًا عن المناطق المأهولة. ومع ذلك، يجب أن تُؤخذ في الاعتبار المخاطر المحتملة المرتبطة بالسدود، مثل إنهيارها نتيجة للأحوال الجوية القاسية أو التآكل، مما قد يؤدي إلى أضرار بيئية وبشرية كبيرة. لذا، فإن الإدارة السليمة والصيانة الدورية للسدود تعتبر ضرورية للحفاظ على فوائدها البيئية والإجتماعية.

يمكن أن تعمّق جرائم تخريب السدود اليوم أزمة إدارة الموارد المائية في تونس لذلك تستغرب نور منصور صمت الدولة التونسية بكل هياكلها عن جريمة إفراغ السدّ التلي في مزل بورقيبة من مياهه سيما في ظل فقر مائي تعانيه تونس التي تعد من بين أكثر البلدان هشاشة مائية.

وهنا تصريحات نور منصور لمنصة كوسموس ميديا حول تبعات جريمة تجفيف السد التي في معتمدية منزل بورقيبة من ولاية بنزرت.

تعاني تونس من أزمة شح الموارد المائية، التي تفاقمت بفعل التغيرات المناخية وموجات الجفاف المتكررة، مما أدى إلى إعلان حالة الطوارئ المائية في البلاد. تشير التقارير إلى أن مستوى تعبئة السدود لم يتجاوز 30%، مما يهدد الأمن المائي للسكان.

تعتبر السدود من الحلول الأساسية لمواجهة هذه الأزمة، حيث تلعب دورًا حيويًا في تخزين المياه السطحية وتغذية المائدة الجوفية. و يعد تحسين إدارة السدود وتطوير البنية التحتية المائية وسيلة من وسائل زيادة كفاءة استخدام المياه، مما يساعد على تلبية احتياجات الزراعة والشرب والصناعة. غير أن قصة تجفيف منبع المياه في السد التلي و ما نتج عنه من إانعدام للحياة أزمة أخرى تكشف عجز هياكل الدولة عن حماية منشأة مائية قد لا تزن كثيرا في ميزان بقية المنشآت من السدود لكنها في ظل الفقر المائي تحتاج إلتفاتة في بلد يحتاج أكثر من أي وقت مضى الى كل قطرة ماء.

زر الذهاب إلى الأعلى