مبروكة خذير – كوسموس ميديا
تحت سماءٍ تعانق أغصان الأشجار، يعبق هواؤها برائحة الأرض والنباتات، احتضن “فضاء المحيط” حدثًا استثنائيًا مزج الثقافة بالإيكولوجيا، وحوّل لحظة توقيع كتاب إلى احتفالٍ بالحياة والطبيعة.
في هذا المكان الهادئ، حيث تغنّي الطيور وتتنقّل النسائم بخفةٍ على الوجوه، قدّم الناشط البيئي عادل عزوني كتابه الجديد «حراك الجنوب» — عملٌ يستند إلى شهادات وتجارب ميدانية يرويها شباب وشابات من مختلف مناطق تونس، لتضيء من الداخل على قضية العدالة البيئية بمنظور إنساني وواقعي.
مشهد افتتاحي ملهم وجمهور متنوع
منذ اللحظة الأولى، كان المشهد مختلفًا. لم يكن الحضور مجرد جمهور مهتم بالبيئة، بل فسيفساء من الباحثين والصحافيين والناشطين والفنانين، جاء كلٌّ منهم محمّلا بشغفه ورؤيته. هذا التنوع منح الفضاء روحًا حميمية مشحونة بالأمل؛ جمهورٌ يقرأ بعين قلقة ومحبّة، ويصغي لكل شهادة كأنها دعوة صريحة للعمل والمشاركة.
جوهر الكتاب: ألبوم بشري لحراس الطبيعة
“حراك الجنوب” ليس مجرد مجموعة نصوص؛ إنه ألبوم بشري لحراس الطبيعة. شبابٌ يسردون يومياتهم، صراعاتهم، وإنجازاتهم. بين صفحاته تتقاطع قصص حماية الغابات، ورقابة السواحل، والمشاريع المحلية المتطلّعة إلى التحول الأخضر. لا تكتفي النّصوص بتشخيص الإشكاليات، بل تقترح حلولًا تنبثق من الميدان نفسه — من خبرة من ضحّوا بوقتهم وطاقتهم في سبيل بيئة أفضل.
يقول عادل عزوني في تصريح خصّ به منصة كوسموس ميديا:”هذا الكتاب لم يولد من فكرة، بل من حاجة. حاجة لأن نمنح صوتًا لكل شاب وشابة يشتغلون في الميدان يوميًا دون أن يلتفت إليهم أحد. أردتُ أن يكون «حراك الجنوب» مرآةً لحركتهم وصوتًا لنضالهم.”
إطلاق الكتاب لم يكن حدثًا ثقافيًا فحسب، بل لحظة إعتراف بحراك شبابي ظل طويلًا خارج دائرة الضوء. شباب يبحث ويجرّب ويطوّر مشاريع خضراء علّها تكون طوق نجاة للجميع أمام تغيرات مناخية تتفاقم مع الأيام. يقول عادل عزوني متحدّثًا عن جوهر كتابه: “العدالة البيئية ليست موضوعًا نظريًا، إنها حياة الناس اليومية: مياههم، هواؤهم، غذاؤهم، وصحتهم. إذا لم نتحرك اليوم، فسنكون جميعًا جزءًا من الخسارة غدًا.“
شهادات ميدانية: فصل جديد في العدالة البيئية
قدّمت الباحثة في علم الاجتماع نضال شمنقي قراءة تحليلية تربط بين البعدين الاجتماعي والبيئي، مؤكدة أن المجتمع المدني والصحوة المواطنية هما السلاحان الحاسمان في مواجهة تحديات المناخ.
وفي حوار لها مع كوسموس ميديا أكدت نضال شمنقي: “قوة الكتاب تكمن في اللحظة التاريخية التي يوثّقها: فهذا الكتاب ليس وثيقة فقط، بل لحظة توثيق لوعي جماعي جديد. القصص تكشف كيف أصبح الشباب في تونس القوة الأكثر يقظة تجاه التحديات البيئية.”
وأضافت أن ما يميّز العمل هو عمقه السوسيولوجي فكتاب «حراك الجنوب»” يقدّم البيئة من زاوية اجتماعية، يربط بين المناخ، والعدالة، والحقوق، والمواطنة. وهذا بالضبط ما نحتاجه اليوم.”
وفي كلمته عن الكتاب و انخراط الثقافة في دعم مجهود النشطاء البيئيين، شدّد عزيز شراج، مدير دار النشر «المقدمة»، على أن المعركة الراهنة هي معركة الحفاظ على الحياة على الأرض، داعيًا إلى إطلاق «صيحة فزع» جماعية تشعل الوعي من الأسرة والمدرسة إلى المجتمع بأكمله. وأكّد أن الدور الثقافي لا يقل أهمية عن العلمي والسياسي، فالكتب والنشر والإعلام أدوات أساسية لبناء وعي بيئي مستدام، خصوصًا لدى الأجيال الناشئة.
ميزة الكتاب: بعد إنساني عميق وشجاعة بيئية
و انت تتصفّح صفحات كتاب «حراك الجنوب» وتتنقّل بين قصص الجنوب التونسي في أصالتها وواقعيتها، تكتشف ميزة هذا الكتاب وتعرف أنه استثنائي ليس فقط في جمعه بين الأدب والإيكولوجيا، بل لأنه لا يُشبه الأدب البيئي التقليدي. فقد أضفى المشاركون الذين ساهموا بنصوصهم، في منح الكتاب بعدًا إنسانيًا عميقًا، حيث تحوّلت الصفحات إلى مسرحٍ للأصوات الفردية التي تتوحد في جوقةٍ من الالتزام والمسؤولية.
وهذا ما يؤكده عادل عزوني بقوله: “أردت أن يكون هذا الكتاب مساحة مفتوحة، كتابًا كتبه عشرات وليس شخصًا واحدًا. هم أصحاب القصص، وأنا فقط جمعت الضوء في كتاب واحد.”
ويضيف الكاتب مؤكّدًا طبيعة الرسالة التي يحملها العمل، قائلاً: “نحن نعيش مرحلة حساسة تتطلب شجاعة بيئية. العمل على الأرض مرهق، لكنه يثبت كل يوم أن التغيير يبدأ من مبادرات صغيرة جدًا، من روح فرد واحد قادر على إلهام محيطه.” ولا يخفي عزوزي فخره بأصل المشروع: “أشعر بالفخر لأن هذا المشروع وُلد من الجنوب، من مناطق عانت التهميش طويلًا. الجنوب اليوم لا يطالب بحقوقه فقط، بل يقود حركة إيكولوجية تُنصت لها كل تونس.”
الكلمة تلتقي بالصورة: فن يخلّد النبض البيئي
من جهته، تحدّث الفنان ياسر جريدي — مصمّم الغلاف والرسومات — عن تحديه في تحويل النصوص إلى لغة بصرية، قائلاً: “حين قرأت الشهادات، شعرت كأن كل قصة تطلب لوحة خاصة. حاولت ترجمة هذا النبض إلى صور تجمع بين الضوء والظلام، لأن الواقع البيئي نفسه مزيج من الخطر والأمل.” ويضيف: “الفن ليس عنصرًا جماليًا فقط، بل يمكن أن يكون شريكًا في التغيير. الصورة قد توقظ وعيًا أعمق مما تفعله الكلمات وحدها.”
أما مدير دار النشر عزيز شراج، فقد قدّم بدوره شهادة حول محتوى الكتاب: “ما لمسني في هذا الكتاب هو صدقه. لم نجد قصصًا مُلمَّعة، بل شهادات تشبه نبض الأرض.” ويضيف مؤكّدًا حاجة العالم العربي إلى هذا النوع من الأدب: “نحتاج كتبًا تخرج من الميدان مباشرة، تحمل الغبار، ورائحة الغابات، وصوت البحر. هذا الأدب البيئي هو ما نفتقده عربيًا.”
أمّا الجانب الفني، فقد تولّاه جريدي برسومات استوحاها من الجنوب، مانحًا صفحات الكتاب بُعدًا بصريًا يزاوج بين القسوة والأمل. وقد تحدّث في وسيلة إعلامية عن مقاربته النفسية للرسم، محاولًا عكس التعقيد الإنساني والبيئي في آنٍ واحد، ليصنع بذلك تجربة حسية تتكامل فيها الكلمة مع الصورة.
ختام أمسية مفعمة بالعزم والأمل
كانت لحظة التوقيع أكثر من احتفال بالكتاب؛ كانت إعلانًا عن جيلٍ يتمسّك بالأمل ويؤمن بإمكانية التحوّل. غادر الحضور محملين بأفكار جديدة وأدوات للتدخل، مؤمنين بأن العمل البيئي مهمة جماعية تبدأ من أبسط المبادرات اليومية، وتمتد إلى المشاريع التربوية والتنموية داخل الأحياء والمدن.
«حراك الجنوب» يبدو فاتحة لسلسلة نشرية عربية تهتم بالبيئة، كما قال شراج، ومرجعًا يوثّق كيف يتحرك الناس فعليًا من أجل كوكبهم. كل قصة فيه تحمل شرارة شغف، لحظة ألم، وخطوة نحو الحل. إنه دعوة لقراءة أعمق وفعلٍ أكثر وعيًا.
وفي ختام الأمسية، بدا أن هذا الإصدار لم يأتِ ليكون إضافة أدبية فقط، بل منصة تجمع الأكاديميا والفن والنشاط البيئي لصياغة خطاب جديد عن علاقة الإنسان بالطبيعة. من بين الكلمات والرسوم ينبعث شعور واحد: أن الصحوة البيئية ممكنة، وأن لكل فردٍ دورًا في إشعالها — وهذا ما أراد «حراك الجنوب» أن يقوله، وما تركه في نفوس الحاضرين من عزمٍ وأمل.




