سليديرمقالات

حين يخبرك الناس أن المناخ ليس أولوية … ولكنك ترى أثاره في كل مكان

عائشة ولد حبيب متخصصة في قضايا البيئة والمناخ والصحةكوسموس ميدياالجزائر

“يا بنتي، احنا خصنا نجيبو قوت يومنا… خلينا من هذ المواضيع الكبيرة” …قالها فلاح ستيني من بومرداس، وهو يمسح عرقه بكمّ قميصه المبلل بالشمس والتعب. كانت كلماته بسيطة، لكنها خرجت من قلبٍ أنهكته الأرض وجفّفه الانتظار.

تأملتُ ملامحه التي حفرتها السنين، وعيناه التائهتان بين كروم العنب الذابلة وأشجار الحمضيات التي يبست قبل أوانها. لم يكن يعلم أن كل ما يشتكي منه — من عطش الأرض وقلة المحصول وهاجس الماء الذي يطارده كل صباح — ليس سوى وجهٍ آخر لأزمة المناخ، تلك الأزمة التي تسكن حقوله بصمت وتغيّر حياته دون أن تنطق باسمها.

في تلك اللحظة، بين تشققات التراب وأنين الفلاحين، أدركتُ أن المناخ لا يحتاج إلى أن يُذكر كي يكون حاضرًا. هو في كل تفصيل من تفاصيل يومهم: في ثمرة حمضية تتساقط قبل نضوجها، وفي نارٍ تلتهم بساتين الزيتون والتين الشوكي في عزّ الصيف، وفي صمت الأرض التي كانت تنبض بالحياة يوماً ما.

كيف يمكن أن نقول إن “المناخ ليس أولوية”؟
حين تجفّ الجداول التي كانت تسقي الحقول، ويُصبح المطر ذكرى نادرة، وتتحول مواسم الخير إلى انتظار طويل لا يأتي؟

هذا المقال ليس مجرد نقاش بيئي؛ إنه حكاية الناس الذين يعيشون الأزمة دون أن يسمّوها. حكاية الأرض التي تختنق بصمت، والفلاح الذي يظن أن همه اليومي بعيد عن “المواضيع الكبيرة”، بينما الحقيقة أن حياته كلها أصبحت جزءًا منها.
إنها ببساطة قصتنا اليومية — قصة العطش، والجفاف، والرجاء بأن تمطر السماء من جديد.

هل حقًا يمكننا تجاهل المناخ؟

في صباح قائظ من تموز، كان الفلاح عبد القادر يقف في ظل شجرة زيتونٍ هرِمة يحاول أن يجد بعض الراحة من حرارةٍ تجاوزت الخمسين درجة مئوية. ينظر حوله بصمتٍ طويل، إلى بستانه الذي كان قبل سنوات قطعةً من الجنة، والآن صار أرضًا متشققةً يختلط فيها الغبار برائحة الرماد.
يقول متنهّدًا: كنا نقول إن الشمس صديقتنا، واليوم أصبحت عدوتنا.”

لم تعد حكايات الأجداد عن “شمس الصيف الحنونة” التي تنضج العنب وتمنح البرتقال حلاوته تروى في حقول شرق الجزائر. تحوّلت تلك الشمس إلى سيفٍ مسلّط فوق رؤوس المزارعين. هنا، حيث كانت الأرض تُعرف بكرمها، يروي الفلاحون اليوم قصص تعبٍ وصبرٍ وصراعٍ مع مناخٍ تغيّر وجهه.

الخبير الفلاحي إبراهيم جرايبية يلخّص المشهد بجملة حاسمة: التغير المناخي لم يعد نظرية تُناقش في المؤتمرات، بل أصبح حقيقة نحسّها في أنفاسنا ونراها في تربتنا.”

يتذكّر جرايبية صيف 2023، فيصفه وكأنه فصل من روايةٍ مأساوية:” تجاوزت الحرارة 48 درجة مئوية. لم تكن مجرّد أرقامٍ في نشرات الطقس، بل لهبًا أكل عناقيد العنب وأحرق زهور الحمضيات، فذبلت وسقطت قبل أن تنضج.”

التغير المناخي لم يعد نظرية تُناقش في المؤتمرات، بل أصبح حقيقة نحسّها في أنفاسنا ونراها في تربتنا

تؤكد الأرقام ما يرويه الواقع. فبحسب تقرير وكالة الطاقة الدولية (IEA)، ارتفع معدّل الحرارة في الجزائر بـ 0.49 درجة مئوية لكل عقد بين عامي 2000 و2023 — أي أسرع من المتوسط العالمي (0.37). وإذا استمرّت الانبعاثات بالوتيرة الحالية، فقد ترتفع الحرارة بـ 5.6 درجات مئوية بحلول نهاية القرن، ما يعني مزيدًا من الجفاف، وحرائق غاباتٍ أكثر شراسة، وانخفاضًا حادًا في الإنتاج الزراعي.

في ولاياتٍ مثل سطيف وباتنة وتيبازة، يعيش الفلاحون ما يشبه المعركة اليومية. الأرض عطشى، والسحب تمرّ دون وعد بالمطر. الأشجار المثمرة التي كانت فخر العائلة لأجيالٍ، تقف اليوم كجنودٍ متعبين في حربٍ طويلة ضد الجفاف.

“الفلاحون لا يشتكون كثيرًا،” يضيف جرايبية، “لكنهم يواجهون المستحيل: حرارة قاسية، نقص في المياه، وتقلّب في مواسم المطر. إنهم أبطال يوميون في معركةٍ صامتة.”

حتى التين الشوكي — رمز الصمود في وجه القحط — بدأ يستسلم. يروي جرايبية بأسى: “كانت موجات الحر المبكرة شديدة لدرجة أن الثمار سقطت قبل نضجها. خسرنا جزءًا كبيرًا من الإنتاج، شيء لم نكن نتصوره يومًا.”

وتكشف دراسةٌ حديثة حول إنتاج الحمضيات في الجزائر أن احتياجات الري سترتفع بنسبة 12% بحلول عام 2050، في حين تتراجع الموارد المائية المتاحة. ففي ولاية تيبازة مثلًا، لا تتجاوز كفاءة الري 63%، أي أن ثلث المياه يضيع قبل أن يصل إلى الجذور. وتزيد طبيعة التربة من حجم المأساة؛ فبينما تحتفظ ترب سهل المتيجة (fluvisols) بالماء نسبيًا، تعاني الأراضي الرملية والهشة في الهضاب من عجزٍ متزايدٍ في الرطوبة.

تكشف دراسةٌ حديثة حول إنتاج الحمضيات في الجزائر أن احتياجات الري سترتفع بنسبة 12% بحلول عام 2050

 

وسط هذا المشهد، بدأ بعض المزارعين يبحثون عن حلولٍ بديلة: أنظمة ريّ ذكية، زراعة مقاومة للجفاف، ومشاريع محلية لتخزين مياه الأمطار. لكنّ معظمهم يعلم أن الحلول الجزئية لا تكفي أمام أزمةٍ بحجم كوكب.

ربما يكون السؤال اليوم: هل يمكن للفلاح الجزائري أن يستمر في الزراعة كما عرفها أجداده؟ أم أن الزمن القادم سيفرض عليه واقعًا جديدًا، حيث يتحوّل التكيّف مع المناخ إلى مفتاح البقاء نفسه؟

ومع كل ذلك، ما زال عبد القادر يعود كل صباح إلى حقله، يسقي ما تبقّى من أشجاره القليلة، مؤمنًا أن الأرض — وإن تعبت — لا تخذل من أحبّها.

في الشرق… لهيب يحرق الرزق والذاكرة

مع بداية الصيف، لا يحتاج العربي جيلالي،المستثمر الفلاحي من شرق الجزائر، إلى نشرات الأرصاد الجوية ليعرف أن الخطر قادم. فالأرض التي ورثها عن أجداده لم تعد تعرف طراوة الربيع، ولا ندى الصباح. يقول جيلالي وهو ينظر إلى أشجار الحمضيات اليابسة: “العام الماضي وصلت الحرارة إلى خمسين درجة، كأننا نعيش وسط أفران مفتوحة. المحاصيل احترقت، والعنب اختفى قبل أن ينضج.”

لكن الحرارة ليست وحدها الجاني. فالماء، الذي كان يومًا يجري في السواقي كالشريان في الجسد، أصبح اليوم نادرًا كالأمل. يتنهد جيلالي قائلًا: “قبل عام 2016 كانت الأمطار تُنعش الأرض بأكثر من 1500 ملم سنويًا. اليوم لا نحصل إلا على 400 ملم، وبشكل متقطع يجعلنا عاجزين عن التخطيط لأي موسم زراعي.”

هذا التراجع الكبير في التساقطات جعل الفلاحين يعيشون سباقًا يوميًا مع الجفاف. بين السماء التي تبخل بالمطر، والأرض التي تتشقق من العطش، أصبح التكيف خيارًا مصيريًا لا ترفًا.

“السقي بالتنقيط أنقذ ما تبقى من بساتيننا”، يقول جيلالي بثقة، “لكننا بحاجة إلى أكثر من ذلك — إلى أفكار جديدة، إلى شباب يحملون روح الابتكار، إلى تكنولوجيا تجعلنا نزرع بذكاء لا بعشوائية.”

جيلالي قائلًا: "قبل عام 2016 كانت الأمطار تُنعش الأرض بأكثر من 1500 ملم سنويًا
العربي جيلالي قائلًا: “قبل عام 2016 كانت الأمطار تُنعش الأرض بأكثر من 1500 ملم سنويًا

في الجزائر، لا تتوزع الأمطار بعدل. ففي الشمال الشرقي، وتحديدًا على قمم جرجرة، قد تصل الكمية إلى 1800 ملم سنويًا، بينما في وادي الساحل، على بعد أقل من عشرة كيلومترات جنوبًا، لا تتجاوز 400 ملم. هذا التناقض المناخي لا يخلق فقط اختلافًا في المشهد الطبيعي، بل في فرص العيش ذاتها.
في مناطق الشرق، حيث تتساقط الأمطار بغزارة نسبية، ما زال الأمل ممكنًا. أما في الغرب والمناطق الداخلية، فالمعركة مع الجفاف أصبحت يومية، حيث تتناقص الموارد المائية، وتتكدس الرواسب في السدود، وتُجرف التربة في كل عاصفة مطرية نادرة.

ويؤكد تقرير صندوق النقد الدولي لعام 2023 أن الجزائر تقف اليوم على خط النار في مواجهة التغير المناخي. فعدد الأيام التي تتجاوز فيها درجات الحرارة 35 درجة مئوية سيرتفع بنسبة 22% قبل نهاية القرن، فيما ستطول فترات الجفاف وتشتد حدتها.
أما المياه — عصب الحياة — فقد أصبحت أكثر ندرة من أي وقت مضى: فالفرد الجزائري لا يحصل إلا على نصف الحد الأدنى العالمي للمياه الآمنة (500 متر مكعب سنويًا).

هذه الحقائق ليست مجرد أرقام جامدة، بل تهديد مباشر لقطاع الزراعة الذي يشغّل ربع اليد العاملة ويساهم بنحو 9% من الناتج المحلي الإجمالي. ومع كل موسم خاسر، تتسع دائرة القلق حول الأمن الغذائي وارتفاع الأسعار، وربما هجرة جديدة من الريف إلى المدن بحثًا عن مستقبل أكثر رحمة.

في نهاية حديثه، يرفع الخبير الفلاحي جرايبية صوته بنداء يتجاوز حدود الحقول: “علينا أن نعيد التفكير في علاقتنا بالأرض. الزراعة ليست مجرد مهنة، إنها خط الدفاع الأول عن حياتنا. حماية المناخ ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة للبقاء. فالأسر التي تطعمنا اليوم من عرق جبينها، قد تجد نفسها غدًا تبحث عن الماء قبل الطعام.”

ربما لم يعد السؤال اليوم: هل يمكننا تجاهل المناخ؟ بل أصبح: كم من الوقت تبقى لنا إن فعلنا؟

يؤكد تقرير صندوق النقد الدولي لعام 2023 أن الجزائر تقف اليوم على خط النار في مواجهة التغير المناخي
يؤكد تقرير صندوق النقد الدولي لعام 2023 أن الجزائر تقف اليوم على خط النار في مواجهة التغير المناخي

في الغرب الجزائري… البطل الأخضر يسقط أمام العدو القرمزي

في سهول الشلف وغاباتها الجافة، كانت التلال إلى وقتٍ قريب تتزين بلونٍ أخضر قاتم. هناك، كان التين الشوكي — هذا النبات الشجاع الذي قاوم الجفاف والحرائق لسنوات — يشكل سدًّا طبيعيًا أمام زحف الصحراء، فيُطلق عليه الناس اسم “البطل الأخضر.
لكن هذا البطل، الذي طالما حمى الأرض وأطعم الناس، صار اليوم ضحية حرب صامتة.

يقول الحاج عبد القادر، فلاح ستيني تفطرت يداه من خدمة التراب: “هذه النباتات كانت حياتنا. كانت تحمينا من النار والعطش… والآن تراها تموت أمام عينيّ دون حولٍ ولا قوة.”

على أوراق الصبار التي كانت خضراء يانعة، بدأت بقع بيضاء صغيرة في الظهور. لم ينتبه إليها أحد في البداية، حتى تكاثرت بسرعة مذهلة.
العدو ليس جيشًا من الجراد، بل “الحشرة القرمزية — طفيلي دقيق لكنه قاتل.

تشرح ياسمين حدّادي، مديرة المحطة الجهوية لحماية النباتات، في حديثٍ لإحدى القنوات المحلية: ” هذه الحشرة مدمرة للغاية. تلتصق بألواح الصبار وتمتص عصارتها، لتتركها رمادًا جافًا. إنها لا ترحم، وتتكاثر بسرعة في درجات الحرارة المرتفعة.”

تغير المناخ، الذي كنا نظنه شأنًا بعيدًا عن حياتنا اليومية، صار اليوم عدوًا خفيًا يفتح الأبواب أمام آفات لم تكن لتعيش في مناخ الجزائر قبل عقود.
ارتفاع درجات الحرارة، قلة الأمطار، والرياح الجافة، كلها جعلت من بيئة الشلف وولايات الغرب الجزائري أرضًا مثالية لهذا الغزو البيولوجي.

خبراء الزراعة يؤكدون أن الحشرة القرمزية، القادمة من أميركا اللاتينية، وجدت في شمال إفريقيا بيئة جديدة للانتشار منذ عام 2018، حين ظهرت أولى الإصابات في المغرب، ثم تسللت تدريجيًا نحو الجزائر وتونس. واليوم، تهدد آلاف الهكتارات من الصبار الذي كان يمثل خط الدفاع الأول ضد التصحر.

لكن التين الشوكي لم يكن مجرد نبات. في الثقافة الجزائرية، هو رمزٌ للبساطة والمقاومة. في كل صيف، ومع حلول شهر يوليو/تموز، تفيض الأسواق بصناديقه الخضراء، وتتحول الأرصفة إلى مهرجانات صغيرة للفاكهة الشائكة.
من حيّ إلى آخر، تتناثر عربات الباعة المتجولين، يصيح أحدهم: كرموس الهندي بارد اليوم!”، فيهرع إليه الصغار والكبار على حد سواء.

على الشواطئ، وفي الأحياء الشعبية، يصبح التين الشوكي فاكهة الفقراء والأغنياء معًا، ووسيلة رزق موسمية لآلاف الشباب. كثيرون منهم يوفّرون من أرباحه مصاريف الدراسة أو العيد، في قصة صيفية تتكرر كل عام منذ أجيال.

لكن هذا المشهد الشعبي، الذي يشكل جزءًا من ذاكرة الجزائريين، بدأ يتلاشى. اختفاء الصبار يعني اختفاء مورد اقتصادي ورمز اجتماعي ودرع بيئي في آنٍ واحد.
ففي الوقت الذي نحسب فيه تغير المناخ مجرد أرقام وتقارير، هناك فلاحٌ في الشلف يرى تعب عمره يتحول إلى رماد، وهناك طفل في مستغانم يفقد عمله الموسمي، وهناك أرض كانت خضراء صارت قاحلة.

تسأل ياسمين حدادي بأسى: “إذا فقدنا الصبار، فماذا سيبقى ليحمي التربة من الرياح والحرائق؟”

في النهاية، السؤال لم يعد “هل يمكننا تجاهل المناخ؟” بل: كم من الوقت بقي لنا قبل أن نفقد أبطالنا الأخضرين واحدًا تلو الآخر؟

صرخة واحدة… ومصير مشترك

في صباحٍ صيفيّ قاسٍ، يقف الفلاح عمّ صالح في وسط أرضه المتشققة، ينظر بحزن إلى سنابل القمح التي لم تكتمل. قبل سنوات، كانت هذه الأرض تُنبت خيرًا وفيرًا، أما اليوم فقد غلب عليها العطش، وكأنّها فقدت ذاكرتها الخضراء.
من تونس إلى سوريا، ومن المغرب إلى باكستان، تتشابه القصص رغم اختلاف اللغات واللهجات: الشمس أكثر قسوة، المطر أكثر خيانة، والمواسم لم تعد تعرف مواعيدها.

من الشرق إلى الغرب، تتغير المظاهر المناخية — جفاف هنا، فيضانات هناك، وحرائق غابات تلتهم مساحات شاسعة في أماكن أخرى — لكن النتيجة واحدة: معاناة الفلاح، وتهديد متزايد للأمن الغذائي والاقتصادي العالمي.

وفقًا لتقارير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO)، فقد تضاعفت موجات الجفاف في العقود الأخيرة، وأصبحت درجات الحرارة في مناطق كثيرة تتجاوز المعدلات التاريخية بنحو درجتين مئويتين أو أكثر. هذا الارتفاع، البسيط في ظاهره، يعني كوارث على الأرض:
🌾 انخفاض إنتاج القمح والذرة بنسبة قد تصل إلى 20٪ في بعض المناطق،
🐄 نفوق الماشية بسبب الإجهاد الحراري ونقص المراعي،
💧 وتراجع حاد في الموارد المائية التي تُعد شريان الحياة للريف والمدينة معًا.

لكن الصورة ليست سوداء تمامًا. فالمناخ، وإن كان يُحذّرنا بصوتٍ مرتفع، ما زال يمنحنا فرصة للفعل.
تقول FAO إن الزراعة ليست فقط ضحية لتغير المناخ، بل يمكن أن تكون جزءًا من الحل. فهي مسؤولة اليوم عن قرابة ثلث انبعاثات الغازات الدفيئة، من حرث الأراضي إلى الأسمدة والماشية، إلا أن نفس الأرض يمكن أن تتحول إلى مخزن للكربون ومصدرٍ للطاقة النظيفة إذا أحسنا إدارتها.

تجارب من إفريقيا وآسيا وأوروبا تثبت أن التغيير ممكن:

  • استخدام محاصيل مقاومة للجفاف والملوحة أعاد الحياة إلى أراضٍ كانت شبه ميّتة.
  • اعتماد الزراعة الذكية مناخيًا (Climate-Smart Agriculture) ساهم في تقليل الانبعاثات وزيادة الإنتاج في الوقت نفسه.
  • وتطوير الطاقة الحيوية من مخلّفات النباتات والكتلة الحيوية وفّر بديلًا مستدامًا للوقود الأحفوري.

إنها ليست مسألة تقنية فقط، بل قضية مصير إنساني مشترك. فعندما تتأخر الأمطار في الجنوب، ترتفع أسعار الغذاء في الشمال. وعندما تحترق الغابات في بلدٍ ما، يختنق الهواء في بلدٍ آخر. المناخ لا يعرف الحدود، ولا يعترف بالجغرافيا. لذلك، ربما حان الوقت لنسأل أنفسنا بصدق: هل يمكننا حقًا تجاهل المناخ؟ أم أن صرخته باتت أعلى من أن نتجاهلها… صرخة تحثّنا على الفعل، قبل أن يتحول الصمت إلى ندم؟

درجات الحرارة في مناطق كثيرة شمال افريقيا تتجاوز المعدلات التاريخية بنحو درجتين مئويتين أو أكثر

بصيص أمل: التّكيف في زمن الأزمة

بين حرارة الشمس اللاهبة والرياح الجافة التي تعصف بالحقول، يقف الفلاحون في مواجهة يومية مع أزمة المناخ. لم تعد مسألة التغير المناخي مجرد نقاش أكاديمي أو موضوعًا في المؤتمرات الدولية، بل أصبحت واقعًا ملموسًا يهدد رزقهم وحياتهم اليومية.

مع اشتداد موجات الحر والجفاف، تحترق الأراضي، وتهاجم الحشرات محاصيلهم كما لو كانت ساحة معركة. ومع ذلك، لم يستسلم هؤلاء الرجال والنساء الذين تربوا على الأرض. لقد أصبح التكيف مع الظروف القاسية جزءًا من حياتهم، وضرورةً ملحة أكثر من كونه ترفًا أو خيارًا.

من بين الأساليب التي تبنوها، نظام الري بالتنقيط الذي يحد من هدر المياه ويضمن وصولها إلى جذور النباتات مباشرة، وهو ما يمثل نقلة نوعية في مواجهة شح الموارد. كما بدأوا يزرعون محاصيل مقاومة للجفاف، مستفيدين من خبراتهم المتوارثة وأبحاث بسيطة تجريبية قاموا بها على أراضيهم. فحتى نباتات مثل التين الشوكي والبرسيم المحلي صارت تتطلب متابعة دقيقة، لا يمكن تحقيقها إلا بالجمع بين الحكمة التقليدية والتقنيات الحديثة.

اشتداد موجات الحر والجفاف، تساهم في ظهور الافات الزراعية و امراض الاشجار

الفلاّح كبطل في معركة المناخ

السيد العربي جيلالي، مستثمر فلاحي بارز، يصف الواقع بكل وضوح: “أصبحنا على خط المواجهة الأمامي. مواجهة موجات الحر والجفاف تتطلب أكثر من الصبر، إنها تحتاج إلى الذكاء في التخطيط والتقنية.”
جيلالي، الذي اتخذ من التطبيقات الذكية في مراقبة الري سلاحًا، يوضح: “لا نروي الأرض بالنظر أو بالحدس، بل بالأرقام. عبر تطبيقات الري الذكي، نتابع رطوبة التربة، كمية المياه المتاحة، وأوقات الري المثلى. هذا يقلل من الخسائر ويحمي المحاصيل من تداعيات الجفاف وارتفاع الحرارة.”

هؤلاء الفلاحون لا يزرعون فقط، بل يمارسون علمًا يجمع بين خبرة الأجيال السابقة وأحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا. فهم يعرفون أن التخطيط المسبق هو خط الدفاع الأول، وأن كل خطوة في الزراعة، من اختيار البذور إلى توقيت الري، قد تصنع فرقًا بين موسم ناجح وآخر كارثي.

التحدي أكبر من أن يواجهه الفلاح بمفرده. النجاح يحتاج إلى دعم جماعي، استثمار في التكنولوجيا الزراعية الحديثة، ووعي بأن أزمة المناخ ليست بعيدة عن حياتنا اليومية. وفي هذه المعركة الصامتة، يظهر الفلاح كبطل لا يُحتفى به، لكن أعماله اليومية تصنع بصيص الأمل في زمن الأزمة.

من الصمود إلى التّكيف: استراتيجيات ذكيّة في وجه التّحدي

في قلب الحقول وتحت حرارة الشمس الحارقة، يقف الفلاحون صامدين، يراقبون تغيرات الطقس كما لو كانت إشارات حية توجه حياتهم اليومية. لم يعد المناخ مجرد خلفية طبيعية، بل أصبح خصمًا ورفيقًا في آن واحد، يفرض عليهم الابتكار والتكيف للبقاء.

إلى جانب الرّي الذكي الذي يعتمد على تقنيات ترشيد استهلاك المياه مثل الحصاد المطري والري بالتنقيط، يتجه الفلاحون إلى استراتيجيات متكاملة لمواجهة التحديات المناخية. فهم يختارون أصنافًا من المحاصيل أكثر مقاومة للجفاف والحرارة، ويعيدون جدولة مواعيد الزراعة لتتناسب مع تقلبات الطقس المفاجئة، معتمدين على خبرتهم التي ورثوها عبر أجيال.

تنويع المحاصيل أصبح نهجًا استراتيجيًا لا يقل أهمية عن الماء أو التربة. إذ يقلل هذا التنويع من المخاطر إذا فشل أحد المحاصيل بسبب موجة حرارة مفاجئة أو نقص في الأمطار، بينما تعتمد بعض المزارع على نظم الظل والأغطية الطبيعية لحماية الأشجار من لهيب الشمس. وفي الوقت نفسه، تحسن المواد العضوية جودة التربة، مما يزيد من قدرتها على الاحتفاظ بالماء لأطول فترة ممكنة، ليبقى الغذاء متاحًا حتى في أصعب الظروف.

هذا النهج يعكس فهم الفلاحين العميق: التكيف ليس رفاهية، بل ضرورة للحفاظ على الأمن الغذائي وحماية مستقبل أسرهم. كما يشدد جيلالي، أحدهم، قائلاً: “التكنولوجيا وحدها لا تكفي. يجب أن يكون هناك وعي جماعي بدور المناخ في حياتنا اليومية. الماء، الطعام، الصحة، كل شيء مرتبط بالطقس والمناخ. إذا تجاهلنا هذه العلاقة، سنخسر أكثر من المحاصيل، سنخسر مستقبلنا”.

في هذا السياق، تصبح قصة الفلاحين أكثر من مجرد حديث عن الخسائر أو التحديات؛ إنها درس في المرونة والتخطيط والإرادة. كل شجرة تُزرع وكل حبة تُروى تحكي عن صمود وإصرار، وعن معرفة أن حماية المناخ ليست مسؤولية فرد، بل التزام جماعي يبدأ من البيت، حيث يمكن لكل منا ترشيد استهلاك المياه والطاقة، ويمتد إلى دعم المنتجات المحلية التي تواجه التحديات يوميًا.

في النهاية، يظل السؤال مطروحًا: هل يمكننا حقًا تجاهل مصدر غذائنا ومستقبل كوكبنا؟ فمستقبلنا، كما يؤكد الفلاحون، ينمو من هذه الأرض، ويحتاج منا إلى رعاية، حكمة، وإرادة مشتركة للحفاظ عليه.

زر الذهاب إلى الأعلى