تحقيقاتسليدير

عمليات الصيانة والتنظيف للسفن: القاتل الخفي في أعماق البحار

مبروكة خذير/كوسموس ميديا :

في خليج قابس، حيث تتداخل زرقة البحر بزرقة السماء في مشهد كان يومًا لوحة طبيعية بكر، يقف أحمد بكار، البحار الذي ورث المهنة أباً عن جد، شامخًا كصارية سفينة عتيقة.

 لكن اليوم، لا يحمل نسيم البحر عبق السمك الطازج، بل رائحة كريهة تخالطها آثار زيتية لزجة تلتصق بشباكه المثقلة بالهموم أكثر من الأسماك. كثيرا ما يعود أحمد من يوم صيده إلى شاطئه الرملي، وشباكه التي يفترض أن تحمل رزق عائلته، متسخة ببقع سوداء لامعة، شاهدة صامتة على كارثة بيئية تفتك بمصدر عيشه.

يمسح أحمد بكار بيده الخشنة آثار التلوث عن الشباك، وكأنما يمسح جزءًا من روحه التي تتآكل مع كل يوم يمضي. يروي أحمد بقلب يعتصره الألم كيف أن البحر الذي منحه الحياة لأجيال، بات اليوم يضن عليه بخيراته. الثروة السمكية تراجعت بشكل مخيف، وأنواع كانت تملأ السلال أصبحت ذكرى بعيدة، والتنوع البيولوجي الذي كان يميّز خليج قابس يتلاشى أمام عينيه.

جملة واحدة رددها أحمد مرات عديدة في لقاء كوسموس ميديا معه فلخّصت كل الرواية: “كيف لنا أن نصطاد سمكًا في بحر مريض؟”

معاناة أحمد ليست فردية، بل هي صرخة بحارة خليج قابس الّذين يشاطرونه الألم، يرون بأعينهم البحر يتحول تدريجيًا إلى مقبرة لكائنات حية ومستقبلهم.

في زوايا مظلمة من عرض البحر، بعيدًا عن أعين الرقابة الصارمة، تتكشف ممارسات مؤلمة تزيد من وطأة الكارثة. يهمس بحارة قدامى بمرارة عن أولئك الذين تجردوا من ضمائرهم، أولئك الذين يعمدون إلى تفريغ خزّانات سفنهم المليئة بالزيوت الثقيلة ومخلفات التنظيف السامة في قلب المياه الزرقاء. تحت ستار الليل أو في خلوة الأمواج المتلاطمة، يلقون بحمولتهم القذرة دون أدنى إكتراث بالعواقب الوخيمة على البيئة البحرية الهشة. يصبح البحر بالنّسبة لهم مجرد مكب نفايات شاسع، متناسين أنهم بذلك يقتلون الحياة التي يقتاتون منها يهم أنفسهم ، ويسممون مستقبل عدد كبير من الصيادين بأيديهم الجشعة. إنها جريمة صامتة ترتكب في الخفاء، لكن آثارها المدمرة تطفو على السطح لاحقًا، تلتصق بشباك أحمد بكار وزملائه، وتفتك بالكائنات البحرية، وتلوّث الشواطئ التي كانت يومًا ملاذًا للجمال والهدوء. “هذا الاستهتار بحرمة البحر، هذا الطمع الآني على حساب إستدامة الحياة، يمثّل جرحًا غائرًا في جسد البيئة البحرية التونسية، ويضاعف من معاناة أولئك الذين يحترمون البحر ويستمدون منه رزقهم بشرف.” هذا ما يقوله إحمد البحار في حديثه لكوسموس ميديا.

نفايات قاتلة وأمواج ملوّثة: قصة التّلوث الزيتي في بحارنا

تؤكد دراسات منشورة في منصات بحثية مثل ResearchGate أن تونس التي يوجد فيها موانئ تستقبل وتُشحن النفط ومنتجات تجارية أخرى بحراً، معرضة أيضا لتسربات محتملة من السفن التي تمر بالقرب من سواحلها أثناء عبور البحر الأبيض المتوسط. (ResearchGate, “Prevention and abatement of marine pollution in Tunisian commercial ports”).

اذ تواجه السواحل التونسية تهديدًا بيئيًا و إقتصاديًا متزايدًا يتمثل في تلوّث البحر الناتج عن زيوت المراكب والتّسريبات النفطية. هذه المشكلة، التي تتفاقم مع مرور الوقت، لا تؤثر فقط على النظام البيئي البحري الغني و المتنوع لتونس، بل تمتد آثارها لتطال قطاعات حيوية مثل الصيد البحري و السياحة.

تعتبر حركة الملاحة النشيطة في البحر الأبيض المتوسط، والذي تحتضن تونس جزءًا هامًا من سواحله، مصدرًا رئيسيًا لهذا التّلوث. فعمليات تفريغ مياه الصابورة المحملة بالزيوت، والتنظيف غير السليم لخزانات السفن، والحوادث العرضية التي قد تسفر عن تسرب الوقود أو الزيوت، كلها عوامل تساهم في انتشار هذه المواد الضارة في المياه الإقليمية التونسية.

في زيارة قمنا بها  لميناء صفاقس تتجلى الآثار المدمرة لهذا التلوث الزيتي في صور متعددة:  أولًا، تشّكلُ طبقة زيتية على سطح الماء  مما يُعيق تبادل الأكسجين بين البحر والغلاف الجوي و يهدد الكائنات البحرية التي تعتمد على هذا الأكسجين في بقائها. ثانيًا، تتسبب هذه الزيوت في تلوث الشواطئ الرملية والصخور الساحلية، مما يؤثر سلبًا على جمالية المناطق السياحية ويقلل من جاذبيتها. 

فأما البعد الآخر لهذه الكارثة البيئية فيتمثل في تراكم المواد الهيدروكربونية السامة في الأنسجة الدهنية للأسماك والكائنات البحرية الأخرى، مما يجعلها غير صالحة للاستهلاك البشري ويضر بمصائد الأسماك التي تعتبر مصدر رزق هام للعديد من التونسيين.

بالنسبة لآمر ميناء الصيد البحري في محافظة صفاقس علي الرباعي، فانه: «على الرغم من وجود بعض التشريعات والجهود الرامية إلى مكافحة هذا النوع من التلوث، إلا أن فعاليتها لا تزال محدودة.

و هذا يجعل  الحاجة ماسة اليوم إلى تفعيل وتطبيق القوانين البيئية بشكل أكثر صرامة، وتشديد الرقابة على حركة الملاحة في المياه التونسية، وتوفير التجهيزات اللازمة للإستجابة السريعة والفعالة لحالات التّسرب الطارئة”..

هل نصمت؟ مستقبل محيطاتنا على المحك بسبب التلوث الزيتي

في قلب جزيرة جربة الساحرة، تلك البقعة المتلألئة بالجمال في جنوب العاصمة التونسية، يقف عماد بوشويشة، رجلٌ تجاوزت جذوره عمق الأرض و إمتدت صلابته كثبات شجرة زيتون عتيقة. لكن، وعلى الرغم من وقفته الشامخة، يحمل قلبه عبء بحر قضى فيه أجمل سنوات عمره.

قبل خمسة وثلاثين عامًا خلت، كانت يدا عماد تمسكان بدفة قارب صغير، ورثه عن أجداده الذين عشقوا البحر و إمتهنوا صيد سمكه. يومًا بعد يوم، أصبح عماد جزءًا لا يتجزأ من نسيج هذه الجزيرة الخالدة، حيث تتعانق زرقة البحر بدفء الشمس الذهبية. كان البحر بالنسبة له مصدر رزق، ورفيق درب، وميراث أجيال.

في هذا اليوم، كعادته، يعيد عماد شباكه من أعماق خليج قابس، الخليج الذي طالما أغدق عليه وعلى غيره من الصيادين بخيراته. لكن هذه المرة، لم تحمل الشباك سوى خيبة أمل مريرة. لم تعد الأسماك وفيرة كما عهدها.

يستشعر عماد مرارة الغبن، إحساس يتشاركه فيه أغلب بحارة الصيد التقليدي في تونس، أولئك الذين يمثلون قرابة 85 بالمائة من العاملين في هذا القطاع الحيوي. يرى عماد في رواية قصته لمنصة كوسموس ميديا،بوضوح أنهم يدفعون ثمن جشع قلة من أصحاب المراكب التجارية الكبرى، الذين لا يكترثون إلا بتحقيق أقصى الأرباح في الحاضر القريب، دون أدنى اهتمام باستدامة الثروة البحرية أو الحفاظ على هذا المورد الطبيعي الثمين للأجيال القادمة.

بصوته الخشن الذي لوّحته رياح البحر المالحة، يعبّر عماد، بصفته الكاتب العام للجامعة الجهوية للصيد البحري في منطقة مدنين، عن قلقه العميق إزاء الوضع المتدهور لخليج قابس:” هذا الخليج الذي كان يومًا مهدًا للخيرات البحرية المتنوعة، أصبح اليوم، “مرتعًا للفضلات بكل أنواعها” لقد تحوّل البحر من مصدر للحياة إلى مكان يئّن تحت وطأة التّلوث والإستنزاف. نحن نعيش هنا صرخة قطاع بأكمله يواجه خطر التهميش والإندثار. الضرورة ملحّة اليوم لإتخاذ إجراءات عاجلة وحاسمة لحماية البحر وثرواته. نحن لا نطلب غير مستقبل مستدام للصيادين التقليديين الذين حافظوا على هذه المهنة جيلاً بعد جيل، والذين يمثلون جزءًا أصيلًا من الهوية الثقافية والاقتصادية لتونس الساحلية.”

يؤمن عماد بوشويشة بأن تراجع كميات المحار هو أكبر دليل على تضرر البحر. فالزيوت وطبقات البترول تحملها الأمواج إلى الشواطئ، حيث تتغذى كميات المحار على القشريات. وبما أن تربة البحر وشواطئها ملوثة بالزيوت، فقد تراجعت أعداد المحار بشكل ملحوظ، ليصبح مؤشرًا واضحًا على تلوث بيئي وبترولي عميق.

ويرى عماد أن الدولة، على الرغم من تركيزها لحاويات تجميع الزيوت في الموانئ، إلا أن الرقابة غائبة. تمتلئ الحاويات ولا يتم تفريغها، مما يضطر البحارة إلى التخلص من زيوتهم في البحر، و هنا تكمن الطامة الكبرى. ولكن هناك أيضًا تلوث لتربة البر عندما يتخلص البحارة من زيوتهم دون رقيب أو حسيب.

يضيف عماد،الكاتب العام للجامعة الجهوية للصيد البحري في منطقة مدني، في سياق حديثه مع منصة كوسموس، أن عدم التحسيس والتوعية للبحارة يضاعف من حجم هذه الإشكالية الكبيرة. فغياب الإرشاد والتثقيف البيئي يزيد من الممارسات الخاطئة التي تضر بالبحر ومستقبله.

إنذار أحمر للشواطئ: التلوث الزيتي يهدد مستقبل السياحة والإقتصاد الساحلي

“إن الحفاظ على البيئة البحرية التونسية ليس مجرد خيار، بل هو ضرورة حتمية لضمان إستدامة القطاعات الاقتصادية الحيوية وحماية التنوع البيولوجي الفريد الذي تتمتع به البلاد. ويتطلّب الأمر تضافر جهود الحكومة والمجتمع المدني والقطاع الخاص لتبني ممارسات مستدامة والاستثمار في حلول مبتكرة لمكافحة التلوث وحماية هذا المورد الثمين للأجيال القادمة. ” هذا ما يؤمن به غسان الشلي، الناشط البيئي في جزيرة قرقنة التونسية عندما إلتقيناه في مخيم علمي كان الهذف منه التحسيس بالأثار السلبية للتّلوث البحري.

 عُرف غسان الشلي بدفاعه القوي عن البيئة البجرية ومواجهة التحديات البيئية التي تواجه الجزيرة، مثل ارتفاع منسوب سطح البحر والتلوث وتدهور الموارد الطبيعية. وتعتبر جزيرة قرقنة من أكثر المناطق التونسية تأثرًا بالتغيرات المناخية، حيث تواجه تحديات بيئية متزايدة تهدد طبيعتها الفريدة وسبل عيش سكانها.

قادنا غسان الشّلي الى مربض صغير للقوارب الصغيرة في منطقة أولاد بوعلي من جزيرة قرقنة. يعتمد الكثير من سكان قرقنة على الصيد التقليدي. يواجه هؤلاء الصيادون صعوبات متزايدة بسبب تراجع الثروة السمكية وتأثيرات التغيرات المناخية على مناطق الصيد. غير ان أكثر ما يؤرق غسان الشلي هو مشكلة التّلوث بالنفايات البلاستيكية، حيث تقدّر كميات الفضلات البلاستيكية المتراكمة سنويًا بحوالي 7 آلاف طن. 

كما أن هناك مخاوف بشأن تلوّث المياه الجوفية والمياه الساحلية بسبب رواسب زيوت المراكب. لذلك إنصهر غسّان الشلي مع مجموعة من نشطاء المجتمع المدني في تركيز حاويات لتجميع زيوت مراكب منطقة أولاد بوعلي، قصد إقناع البحّارة برمي زيوت مراكبهم داخل خزانات وتجميعها بدل التخلص منها بشكل عشوائي. 

في تونس،يجب على الموانئ التونسية توفير مرافق مخصّصة لإستقبال النّفايات الزيتية المتولدة على متن السفن، مع الإلتزام بالقوانين واللوائح المنظمة لتفريغ الزيوت والمخلّفات الزيتية الأخرى في هذه المرافق قبل مغادرة الميناء. 

يتمّ توفير هذه المرافق لضمان عدم تصريف الزّيوت في عرض البحر، مما يمنع التّلوث البيئي. تشمل عمليات جمع ونقل الزيوت المستعملة جمع الزيوت التي يتم تفريغها من السفن في خزانات مخصصة في الميناء، والتعاقد عادة مع شركات متخصصة في جمع و نقل هذه الزيوت المستعملة، حيث يتم نقل الزيوت المستعملة بواسطة هذه الشركات إلى مراكز التدوير أو إعادة المعالجة المعتمدة. 

أما بالنسبة لمعالجة وإعادة التدوير، فتخضع الزيوت المستعملة لعمليات معالجة تهدف إلى إزالة الشوائب والمواد الضارة، وبعد المعالجة، يمكن إعادة تدوير بعض هذه الزيوت لاستخدامات أخرى، مثل إنتاج زيوت أساسية مجددة أو إستخدامها في بعض الصناعات الأخرى. وفي حال كانت الزيوت غير قابلة لإعادة التدوير، يتمّ التخلص منها بطرق آمنة ومسؤولة بيئيًا ووفقًا للوائح المحلية والدّولية. 

هذا و تتولى السّلطات المينائية والجهات البيئية مسؤولية مراقبة عمليات تفريغ النّفايات من السفن لضمان الإمتثال للقوانين، ويتم إتخاذ إجراءات قانونية ضدّ السّفن التي تقوم بتفريغ الزيوت بشكل غير قانوني في البحر أو لا تلتزم بإجراءات التفريغ في المرافق المخصصة.

لكن وعلى الرغم من أهمية مبادرة تجميع زيوت المراكب المستعملة في الموانئ كخطوة أولى نحو حماية البيئة البحرية، إلا أن فعاليتها تبقى محدودة في ظل غياب آليات مراقبة صارمة وعمليات رفع دورية وشفافة لكميات الزيوت المجمعة. فبدون تتبع دقيق لحجم الزيوت التي يتم تجميعها والتأكد من التخلص السليم منها، يصبح من الصعب تقييم مدى نجاح المبادرة ومنع أي تسربات أو ممارسات غير مسؤولة قد تحدث بعيدًا عن الأنظار. 

و في حديثنا مع البحار عماد بوشويشة، بصفته الكاتب العام للجامعة الجهوية للصيد البحري في منطقة مدنين فقد أكد في إطار تصريحاته لكوسكوس ميديا على أنّ ضمان الشّفافية والمساءلة من خلال المراقبة الدورية والرفع المنتظم للبيانات يعد أمرًا حيويًا لتحويل هذه المبادرة من مجرد جهد رمزي إلى حل فعّال ومستدام للحفاظ على نظافة موانئنا وبيئتنا البحرية.

بنزرت وقابس تشهدان فصولًا مقلقة في سجل تلوّث السواحل التونسية

في مشهد يثير القلق بشأن مستقبل البيئة البحرية في تونس، تتوالى الأحداث التي تلقي بظلالها القاتمة على صفحة مياهها الزرقاء. ففي عام 2016، وبعدها في عام 2018، إهتزت مدينة بنزرت على وقع إعلان وزارة البيئة عن تسرب ما يقارب العشرة أمتار مكعبة من مادة الفيول الثقيل، إنطلقت من معمل للإسمنت لتشقّ طريقها عبر قنوات تصريف مياه الأمطار نحو قناة بنزرت الحيوية. حينها، تحرّكت أجهزة الدولة ممثلة في ديوان البحرية التجارية والموانئ، مسرعة لتطويق البقعة السوداء التي لوّثت المياه، وإلزام الشركة المتسببة بتنفيذ عمليات تنظيف مكلفة لإزالة آثار التلوث.

بدر الدين جمعة هو مصور فوتوغرافي وناشط بيئي من مدينة بنزرت، عُرف بشغفه الكبير بتوثيق القضايا البيئية، خاصة ما يتعلق بمحطات التسربات الزيتية والتلوث في بحيرة بنزرت حيث عاين نفوق أعداد كبيرة من الأسماك. 

من خلال عدسته، تابع بدر الدين جمعة عن كثب التّغيرات البيئية التي شهدتها بحيرة بنزرت وغيرها من المناطق الطبيعية، حيث وثّق بالصورة والفيديو مظاهر التدهور البيئي وأثرها على الحياة المائية، مسلطًا الضوء على حجم الكارثة البيئية التي تهدد التنوع البيولوجي في المنطقة.

على الرغم من الجهود المضنية التي بذلها بدر الدين جمعة، المصور والناشط البيئي، لتوثيق الانتهاكات البيئية التي تعصف بمنطقته ونشرها على أمل إحداث تغيير، إلا أن مرارة الإحباط كانت تتملك قلبه. فصور الكوارث التي التقطها بعدسته، والتي كان تسرب عام 2018 أحد أبرزها، لم تفلح في وقف التدهور المتسارع للوضع البيئي.

في حديث مؤثر لمنصة كوسموس ميديا، عبّر بدر الدين عن عمق يأسه قائلاً: “لقد إستنزفت طاقتي وأنا أشاهد هذا المشهد الحزين يتفاقم في منطقتي العزيزة. صيادو البحر، الذين كانوا عماد عائلاتهم، باتوا عاجزين عن تأمين لقمة العيش. البحر الذي كان مصدر رزقهم تحول أمام أعينهم إلى بقعة زيتية سوداء قاتمة تنذر بالخراب. ورغم كل الصرخات والنداءات، يزداد الأمر تعقيدًا عامًا بعد عام… إنه موت بطيء يتسلل إلى حياتنا ويهدد وجودنا”.

صور لتدوينات بدر الدين جمعة على مواقع التواصل الاجتماعي في تسريب 2018

لم يكد يمر وقت طويل حتى عادت المخاوف لتطل برأسها مجددًا، وهذه المرة من خليج قابس الذي يئن تحت وطأة تحديات بيئية جمة. ففي عام 2022، تصدّر خبر غرق سفينة الشحن “Xelo” عناوين الأخبار، وهي تحمل على متنها شحنة من الوقود. وعلى الرغم من التّطمينات الرّسمية التي نفت وجود تسرّب نفطي واسع النطاق، إلا أن شبح التّلوث المخيم على المنطقة الحساسة بيئيًا ظلّ حاضرًا بقوة في أذهان المراقبين والناشطين البيئيين. سارعت السلطات لإتخاذ إجراءات إحترازية لتأمين السفينة الغارقة وتقييم الأضرار المحتملة، لكن الحادث أعاد إلى الأذهان هشاشة البيئة البحرية التونسية وقابليتها للتأثر بأي طارئ.

لكنّ قصّة التّلوث في خليج قابس لا تتوقف عند هذا الحد. فالمنطقة تعاني من إرث ثقيل من التلوّث المزمن، تتداخل فيه مخلفات الأنشطة الصناعية، وعلى رأسها مصانع الفوسفات، مع ما قد ينجم عن الأنشطة البحرية المختلفة. شهادات الصيادين المحليين ترسم صورة قاتمة عن مياه تغيّر لونها وثروة سمكية تتناقص بشكل ينذر بالخطر، مما يهدد مصدر رزقهم التقليدي.

بعيدًا عن الحوادث الكبرى التي تجذب إاهتمام وسائل الإعلام، يبقى شبح التفريغ غير القانوني لمياه الصابورة المحملة بالزيوت و مخلفات تنظيف السفن يمثّل تهديدًا مستمرًا. على الرغم من وجود القوانين التي تجرّم هذه الممارسات، إلا أن تقارير المراقبين تشير إلى إستمرار بعض المراكب في التّخلص من نفاياتها الزيتية في الخفاء، خاصة في المناطق التي تشهد حركة ملاحة مكثّفة، لتترك بصمات سمها على صفحة البحر دون أن يراها الكثيرون.

كما لا يمكن إغفال الحوادث الطفيفة والمتكررة التي قد لا تصل إلى عناوين الأخبار الرئيسية، كتلك التي تحدث أثناء عمليات تزويد الوقود في الموانئ أو نتيجة أعطال فنية على متن السفن. قد تبدو هذه الحوادث صغيرة في حجمها، لكن تأثيرها التراكمي على المدى الطويل يساهم في تلويث البيئة البحرية وإلحاق الضرر بنظامها الإيكولوجي الدقيق.

و في حديث مع أسماء السقا حلايلي الأستاذة الباحثة بكلية العلوم ببنزرت و الخبيرة في البيئة البحرية والعوالق النباتية والطحالب السامة اكدت لكوسموس ميديا ان :”هذه الوقائع المتفرقة، من التسربات المعلنة إلى الممارسات الخفية، ترسم لوحة قاتمة لتحديات جمة تواجه السواحل التونسية. إنها ليست مجرد حوادث عابرة، بل مؤشرات مقلقة تدق ناقوس الخطر بشأن صحة البحر الأبيض المتوسط ومستقبل الثروات الطبيعية التي يعتمد عليها إقتصاد البلاد وحياة مواطنيها. إنها دعوة صريحة إلى ضرورة مضاعفة الجهود وتفعيل الرقابة وتطبيق القوانين بحزم أكبر لحماية هذا الكنز الأزرق من براثن التلوث.”

تعتبر تونس، كدولة ساحلية تطل على البحر الأبيض المتوسط، ملتزمة بمجموعة من القوانين والإتفاقيات الدولية التي تهدف إلى منع تفريغ الزيوت والمواد الضارة الأخرى في عرض البحر وحماية البيئة البحرية. 

والجدير بالذكر في هذا السياق انه وعلى مدى أسابيع من العمل على هذا التقرير، سعت كوسموس ميديا للتواصل مع الهياكل الرسمية بغاية الحصول على تفاصيل أوفى. غيّر أن الإدارات العمومية، بما فيها الوكالة الوطنية للتحكم في المحيط، لم تستجب لطلباتنا الرامية إلى توضيح الجهود التونسية المبذولة لحماية البحر والشواطئ من التلوث الزيتي.

إن حماية البحر الأبيض المتوسط وسواحل تونس ليست مجرد مسؤولية بيئية، بل هي ضرورة إقتصادية و إجتماعية تضمن إستدامة الموارد الطبيعية وحماية سبل عيش الأجيال القادمة.  و التقاعس عن معالجة هذه المشكلة بجدية سيؤدي إلى تفاقم الأضرار البيئية والاقتصادية، وسيجعل من الصعب إصلاحها في المستقبل.

ملاحظة:
تم إنتاج هذا التقرير بدعم من شبكة صحافة الأرض (Earth Journalism Network) التابعة لمنظمة انترنيوز (Internews)، وذلك في إطار مبادرة الإعلام المتوسطي.
عمل صحفي :مبروكة خذير
غرافيك و تركيب:صابرين النخيلي
تصوير:مبروكة خذير و عماد السايحي
مراجعة:فتحية خذير

زر الذهاب إلى الأعلى