مبروكة خذير – كوسموس ميديا- منذ سنوات وأنا وغيري من قلة من صحفيي الاختصاص البيئي نعمل على رفع الوعي بخطورة الوضع المائي في تونس ونطلق صفارات الإنذار عبر انتاجنا الصحفي بحساسية الأزمة.
منذ سنوات ونحن نفتح منابرنا لخبراء مختصين حذروا في كل المناسبات الدولة وهياكلها بضرورة اتخاذ إجراءات وقائية لتفادي الكارثة. وبسبب التهاون رغم النداءات، ها هي الكارثة إذا تطرق أبواب التونسيين وتتوسّع رقعتها في بلد تزداد غربته/كربته المناخية ويهدده العطش.
وهل من حياة دون ماء؟ وهل ينفع عقار فيما أفسده الدهر في هذا البلد؟
أعلنت وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري إجراءات جديدة للحدّ من انعكاسات أزمة شح المياه وأقرت تحجير استغلال المياه الصالحة للشرب للأغراض الفلاحية وري المساحات الخضراء وغسل السيارات وتنظيف الشوارع والأماكن العامة وإقرار اعتماد نظام حصص ظرفي للتزود بالمياه: قرارات فجئية متأخرة جدا.. قرارات كان يمكن أن لا نصل اليها الآن، لو أن دولتنا اعتمدت سياسة وقائية وفتحت أبوابها لوضع استراتيجية منذ سنوات تأخذ بعين الاعتبار ما أطلقه في أكثر من مناسبة خبراء البيئة والمناخ من صيحات فزع مدوّنة في أروقة تقارير وزاراتنا ومنشورة في تقارير الهياكل الدولية.. ما من مجيب..
ها نحن نعيش وضعا يتسم بشح الأمطار وغياب التساقطات، وها هي أفواه المواطن التونسي مفتوحة على كل أنواع العطش وها هي أرض بلادي مشققة تحن إلى قطرة ماء لعلها تزهر من جديد…
منذ سنوات ونحن ننبه إلى ذلك، ندعو الخبراء ونحلل ونحذر ونطلق عبر صحافة بيئية صيحات فزع لعلنا نوقظ المواطن من سبات التبذير والاستهانة بالوضع على كارثيّته..
كانت آذان الذين سمعوا نداءاتنا قليلة، لكن هناك أيضا استفهامات عديدة تطرح في ظل هذا القرار الفجئي المجحف في حق المواطن.. فهل بذلت هياكل الدولة جهدا في اعتماد سياسة وقائية كان يمكن أن تقلل عمق الأزمة الحالية؟!
طبعا الجواب: لا…
فلا نحن رأينا وزاراتنا تطلق حملات توعية.. ولا نحن رأينا دولتنا حضرت استراتيجية مرافقة لمواطنيها وفلاحيها حماية لهم من تبعات ما سيخلفه قطع المياه من بطالة وعطالة.. بل إن غياب الماء عن تربتنا اليوم يهدد بقاءنا وأمننا الغذائي ولا نرى من الوزارات أي جهد في شرح المعضلة وإشراك المواطن في حلها.
ولا نحن شاهدنا دولتنا تقف ضد استنزاف المائدة الجوفية بقوانين صارمة…ففي كل شبر من هذا الوطن آبار عشوائية تحصيها الدولة بالآلاف ولا تضع لحفرها حدا لأنها ببساطة لا تملك بديلا للفلاح الذي يبحث عن حل للقمة العيش حتى لو كانت ظرفية…
هل كانت دولتنا إذا عادلة في حسن تسييرها للشأن المائي بين مناطق الجمهورية وسكانها؟
واقع الحال يوحي بغير ذلك.. ففي بعض من رقعة الأرض فلاحة ومواطنون مقهورون يغلقون المسالك أحيانا نحو خزانات وابار المياه المعدنية المبثوثة في كل مكان تستخرج من جوف أرضنا كميات هائلة معدة للتعليب في قوارير بلاستيكية غزت حياتنا اليومية وتلك محنة أخرى لن يسعفنا التوسع فيها في هذا السياق…
ثمة من يشعرون بالغبن جراء غياب العدالة البيئية في تونس، فقد جادلت يوما أحد الفلاحين ممن يشجعون حفر الآبار في حقولهم برخصة أو دونها.
واجهته بالقول إن في ذلك أنانية تجاه الآخرين وحق أجيالنا القادمة في رصيد من الماء في ظل ازمة لا تحتمل مزيدا من استنزاف المياه الجوفية..
أجابني الرجل بكل مرارة: “وهل رأيت يا سيدتي عدالة في وزارة الفلاحة التي تمنح رخص حفر آبار المياه المعدنية لشركات كثيرة بتسهيلات كبيرة وبأسعار زهيدة جدا في حين انها شركات تمتص ما في جوف الأرض من أجود أنواع المياه؟
وهل كانت يا سيدتي دولتنا عادلة حين منحت رصيدها من المياه لرجال الأعمال وحرمت الفلاح من مياه لإنتاج ما يحتاجه التونسي من خضر وغلال؟
وهل تعلمين يا سيدتي أن في تونس أكبر عدد من أنواع المياه المعدنية يفوق ما هو موجود من أنواع وأصناف في دول غنية مائيا؟”
توقفت عن مجادلة الفلاح ولكني أيقنت لحظتها أن سوء التصرف في الموارد المائية لا يتحمل وزره فقط الفلاح والمواطن العادي بل إنه ممارسة سلطة الإشراف التي تحتاج مراجعة سياساتها تجاه حسن تدبير السياسات المائية في تونس.
نحن اليوم أمام حلول ترقيعية لسياسة تنموية خاطئة في مجال التصرف في المياه. فقد فشلت هياكل القرار طوال عقود في إدارة الموارد المائية وترشيد استهلاكها إلى درجة أن نصيب الفرد الواحد من الماء في تونس لا يتجاوز 400 متر مكعب سنويا بينما يساوي المعدل العالمي حوالي 700 متر مكعب.
تونس التي نعلم سابقا منذ عشرات السنين أنها من ضمن 27 دولة مهددة بالعطش في العالم، تعيش اليوم تبعات التراخي في معالجة ورم العطش الذي يتوسع دون وعي من الكثيرين بتبعاته وآثاره على الأمن والاستقرار الإجتماعيين.
ينبئ الوضع المائي اليوم بكارثة رغم أن دستور 2014 ودستور 2022، أقرا بالحق الدستوري في الماء للمواطن التونسي.
ولمواصلة الحديث عن مسؤولية السياسات فيما وصلنا إليه أقول: لم يكن خافيا على دولتنا مثلا أن بلدنا على فقره المائي هو ثاني بلد في استغلال المياه المعلبة وفي ذلك خلل.
لم يكن يخفى أيضا على سلطة إشرافنا أن الاستثمار في القطاع الفلاحي يناهز 77 من جملة المياه الموجودة وأنه وجب إعادة النظر مسبقا في نوعية الزراعات. ألم تكن، وزارة فلاحتنا ومواردنا المائية وصيدنا البحري مثلا، تعلم سلفا منذ عشرات السنوات، أن تكلفة إنتاج بعض المنتوجات الفلاحية تساهم في ضرب المائدة المائية؟
بل أكثر من ذلك، فإن تقارير دولتنا الرسمية وغير الرسمية كشفت منذ زمن بعيد أن كمية المياه المهدورة من جراء الأعطاب التقنية وعدم صيانة الشبكة يناهز 120 مليون متر مكعب. وتلك أيضا مسؤولية هياكل الدولة.
ألم تخطئ سياسات حكوماتنا المتعاقبة أيضا حين تساهلت مع قطاع سياحي يعد من أكبر المساهمين في إهدار الماء الصالح للشراب؟
ألم يقل الخبراء المختصون في مجال البيئة في أكثر من مناسبة أن كلفة سرير واحد في النزل تساوي 500 لتر ماء يوميا!.
في تونس وفي ظل الجفاف المستشري، تعجز الهياكل الحكومية عن إعادة تهيئة السدود وجهرها في الوقت المناسب لعلها تكون أرحب لاستقبال أقصى قدر ممكن من التساقطات، غير أن منظومة السدود نفسها مهترئة وكان يجب أن نعيد فيها النظر منذ زمن.
كم من مخرجات ومقترحات في جلسات عمل وزارية وحتى في رئاسة الجمهورية بقيت حبرا على ورق رغم أن من ساهم في صياغتها وتحرير التوصيات فيها خبراء يعملون بشكل علمي وثابت أن تونس تدخل زمن العطش من بابه الأوسع.
في تونس ومنذ عشرات السنين كنا نعلم الإشكاليات والتبعات التي أثرت على المواطنين جراء سوء التدبير في مجال الجمعيات المائية. وكنا نعلم عن وجود أكثر من 1200 جمعية مائية في تونس يعاني أغلبها الإفلاس ومشاكل في الهيكلة والتسيير هذه هي الأخرى مسؤولية الدولة التي تقطع اليوم الماء على مواطنيها.
أي نعم دولتنا سبب مباشر في وصولنا إلى ما نحن عليه اليوم من فقر مائي. نحن اليوم نعاني فعلا تغيرات مناخية وأسبابا طبيعية مناخية خارجة عن سيطرة اليد البشرية، ولكن ليد الدولة أيضا نصيب من الأسباب. إنها بسوء التصرف وغياب الرؤية تضعنا أمام موت محقق عطشا أو اقتتالا من أجل جرعة ماء.. بل إنها تواصل في ذلك بقرارات تمس من جودة حياة المواطن البسيط يوميا ولا تمس من جودة ما يجنيه المستثمرون من أموال طائلة نتيجة استثمارهم في مجال المياه، فلا قرارات وزارة الفلاحة مست من رصيد شركات غسيل السيارات ولا هي أقرت إيقاف إنتاج عشرات الفلاحين الكبار من الزراعات المستنزفة للماء ولا هي فكرت في سبل لمعاضدة صغار العاملين في ظل ما سيؤثر به انقطاع الماء الصالح للشراب على مشاريعهم الصغيرة.
فنحن ننتظر على سبيل الذكر لا الحصر أن تتخذ الدولة قرارات بتدعيم سياسة معالجة وتثمين المياه المستعملة وإعادة إدخالها في عجلة الصناعات المستنزفة للمياه.
ونحن ننتظر أيضا أن يتم غسل فسفاط ولاية قفصة مثلا بمياه البحر المحلاة بدل أن يغسل يوميا بآلاف الأمتار المكعبة من مياه المواطنون هناك أحق بها من أجل البقاء. ألا يحتاج الأمر فعلا تطوير التقنيات من أجل خفض كمية الاستهلاك في الحوض المنجمي وجلب ماء البحر من منطقة الصخيرة من أجل الاستعمال الصناعي ونقل الفسفاط بالأنابيب؟
نحن ننتظر فعلا أن يكون في الأفق حلول أكثر حكمة في إدارة الأزمة المائية عبر تحويلها إلى فرصة من أجل الإصلاح وزرع ثقافة جديدة لحسن التصرف في المياه.
وأختم لأقول إنه الآن وأكثر من أي وقت مضى نحتاج إلى دولة تغسل ماء وجهها على الأقل بقرارات صائبة من قبيل بث وعي بيئي في أذهان أطفالنا الصغار في المدارس والمعاهد فقد ظلمتنا الدولة بنظام تعليمي لم يركز على قضية الماء بوصفها قضية وطنية.
لقد ظلمتنا حكوماتنا حين غاب عن منتجها الإعلامي مثلا وسائل ترشيد الإستهلاك وصحافة الإستقصاء والمساءلة لكشف الفساد في قطاع الماء، فساد مسّ من مقدراتنا من المياه وها هو يهدد حياتنا بشكل جزئي لكنه قد يقضي عليها لأجيالنا القادمة، جوهر التنمية المستدامة التي لا ندري ماذا سنترك لهم من كوارث طبيعية.
ألا يحتاج الأمر إعادة النظر في سياسات الدولة العمومية المتعلقة بالماء الصالح للشرب وتشريع قوانين جديدة قادرة على معالجة التجاوزات بدل إقرار إجراءات ترقيعية لا تسمن من جوع ولا تغني عن عطش.