سليديرمقالات

قابس على صفيح سامّ: وثائق وشهادات تكشف مأساة بيئية كبرى

فتحية خذير-كوسموس ميديا – تونس

في قلب ولاية قابس، حيث يلتقي البحر بالصحراء، تدب اليوم نبضات احتجاج تتسم بالألم والغضب على حد سواء.

سكان هذه المدينة الذين نشأوا وترعرعوا في ظلال المجمع الكيميائي الضخم، وجدوا أنفسهم فجأة أمام واقع مأساوي؛ رائحة الغازات السامة تحيط ببيوتهم ومدارس أطفالهم، وأصوات التنفس المضطرب تخترق هدوء الحصص الدراسية، بينما حالات الاختناق تتكاثر في المستشفيات.

مشهد صادم في المدرسة الإعدادية بشط السلام التي تبعد كلمتر واحد عن المجمع الكيميائي، تلاميذ في كل مكان يتنفسون بصعوبة بكاؤهم يتعالى و أعوان الحماية المدنية يحاولون اسعافهم وسط حالة من الذهول والخوف لدى التلاميذ والأساتذة أصوات الأهالي تندد و تحتج “ماذا يريدون منا يريدون قتلنا صغارا و كبارا” .

شهر سبتمبر 2025 كان الشهر الأعنف في شط السلام من ولاية قابس،اربع تسربات غازية كانت كفيلة بقطع الاكسجين عن مئات التلاميذ.  يوم 27 سبتمبر 50 تلميذا تم نقلهم الى المستشفيات في قابس و أيضا الى مستشفى الرابطة بالعاصمة و قبلها يوم 9 و 10 و 16 سبتمبر عشرات من حالات الاختناق جواء التسربات السامة من المجمع الكيميائي .

التلوث الناتج عن المجمع الكيميائي بقابس

اليوم 10 أكتوبر يتكرر المشهد بتفاصيله، 35 تلميذا في اعدادية شط السلام  يصارعون من اجل التقاط النفس بكاء و صراخ و ذهول و الخوف يرتسم على كل الوجوه . ما الذي يحصل ؟ و اين المفر ؟

قابس تختنق… وصوت الأمهات يعلو طلبًا للنَّفَس

يبدو ان الوضع قد خرج عن السيطرة  فهذا المجمع الذي كان في يوم من الأيام منارة للنمو الصناعي والاقتصادي التونسي، أصبح اليوم شبحا مخيفا و رمزًا للصراع بين التنمية والصحة العامة. تأسس المجمع الكيميائي بقابس منذ منتصف القرن العشرين، وساهم على مدار عقود في توفير آلاف فرص الشغل ودعم الاقتصاد الوطني بتصدير كميات كبيرة من الحامض الفوسفوري والأسمدة، لكنه بالمقابل خلف وراءه جروحًا عميقة في البيئة وصحة الإنسان.

أصبحت قابس تعيش على وقع أزمة بيئية حادة، حيث تسرب الغازات السامة لم يعد مجرد تهديد نظري، بل واقع يومي يدفع الأهالي إلى إغلاق الطرق ورفع الصوت احتجاجًا على استمرار عمل وحدات مجمع كان يفترض أن يتم تفكيكها منذ سنوات. أمراض السرطان والأزمات التنفسية باتت تلاحق سكان المنطقة، وسط صمت رسمي مخيف، يتعارض مع حجم المعاناة التي يرويها كل طفل وضحية جديدة.

صورة من الوقفة الاحتجاجية امام مقر المجمع الكيمسائي بالعاصمة تونس

أمام المجمع الكيميائي بالعاصمة، العشرات من أهالي مدينة قابس تكبدوا عناء المجيئ الى تونس العاصمة ليحتجوا عن وضع بيئي متأزم بات يهدد صحتهم و صحة أطفالهم. شعارات عديدة رفعها المحتجون ف”قابس المختنقة تحب ان تعيش” على حد تعبير المحتجين رجالا ونساء. 

حياة أم التلميذة ياسمين التي اختنقت جراء التسربات الغازية يوم 27 سبتمبر الفارط كانت من ضمن المحتجين بل لعلها ابرزهم بدموعها التي لم تكف و صوتها العالي و هي تتحدث بالم عن ما يعانيه التلاميذ و الأهالي. و خلال حديثها مع منصة  كوسموس ميديا قالت حياة: “ابنتي تعاني من شلل في الأعضاء هي اليوم غير قادرة على تحريك ساقيها الأطباء لا يعترفون بان ما حصل لها هو نتيجة اختناقها بالغازات السامة يخفون الحقيقة نحن لا نطلب شيئا نحن نريد ان نعيش كما كل المواطنين نحن نريد نفسا نظيفا”.

 و بحسرة كبيرة و تنهيدة عميقة واصلت حياة كلامها : “قابس كانت زينة المناطق في تونس بواحاتها و بحرها و صحرائها و اليوم يبست الأشجار و اختفى لونها الأخضر و نحن كذلك يبست احشاؤنا و احترقت الموت حولنا في كل مكان “

 كانت العبارات تختنق في حلقها و دموعها تنهمر خوفا على ابنتها التي لازالت طريحة الفراش في مستشفى الرابطة بالعاصمة و أيضا تحسّرا على قابس ولايتها  التي تستغيث .

حياة ام ياسمين التي أصيبت بحالة اختناق بعد تسربات غازية سامة صادرة من المجمع الكيميائي

ثريا حمدي ،هي الأخرى ام لتلميذة ترقد اليوم في مستشفى الرابطة في تونس العاصمة ،كانت ضحية للتّسربات الغازية في شط السلام، أصيبت ابنة ثريا باختناق تم على اثره ايوائها في مستشفى قابس ثم تقرر نقلها الى مستشفى العاصمة تونس بالنظر لنقص الإمكانيات الطبية هناك.

 تبعثرت حياة المرأة منذ تلك الحادثة. تعبت  من التنقل كيلومترات طويلة  بين العاصمة وقابس و هي التي تعاني من مرض السرطان الخبيث قالت ثريا في حوارها مع كوسموس ميديا :” لا يوجد بيت في قابس خال من شخص مريض بالسرطان و كل هذا جراء المجمع الكيميائي الذي يقتلنا بصمت … ابنتي اليوم تشتكي من صعوبة في تحريك ساقيها و صعوبة في التنفس و انا لدي اطفال اخرون يدرسون في قابس و تعبت من  الذهاب و الإياب الى العاصمة حيث تقيم ابنتي في المستشفى”

صباح قنة أيضا ام لتلميذة ترقد في مستشفى الرابطة منذ اكثر من أسبوع  بعد اختناقها بغازات المجمع الكيميائي السامة لا تختلف قصة صباح عن قصة ثريا و حياة يشترك جميعهن في هم واحد  و يتقاسمن بينهن الخوف على مستقبل فلذات اكبادهن .

 تقول صباح لكوسموس ميديا:” انا اسكن على بعد 500 متر فقط عن المجمع الكيميائي ابنتي لديها الان عجز في الحركة و ضيق في التنفس و تعاني أيضا بحرقة و حكة في عيناها …انا أطالب رئيس الجمهورية بالتّدخل العاجل و إيجاد حل لهذا المجمع اما بحله او صيانته انا ما يهمني هو الحل النهائي لكي ينتهى هذا الكابوس”

شهادات الأهالي كانت بالنسبة لنا شبيهة بالقصص او بالسينما الحزينة لكنها للأسف كانت حقيقة مجسدة على ارض الواقع تزيد دموع الأمهات من قسوتها.

قابس… المدينة التي تحوّل فيها الهواء إلى عدو

منظمات المجتمع المدني في قابس طالبت مراراً بغلق المجمع الكيميائي التونسي بسبب المخاطر البيئية والصحية الناتجة عن تسربات الغازات السامة وحالات الاختناق المتكررة التي شهدتها الجهة. حملة “أوقفوا التلوث” من أبرز هذه المنظمات، حيث نظمت احتجاجات ووقفات أمام المجمع، مطالبة بتفكيك الوحدات الصناعية الملوثة وإيقاف عمل الوحدات المسببة للتلوث في قابس، كما دعت إلى فتح تحقيق جدي في الانتهاكات البيئية ومحاسبة المسؤولين عنها.

هندة شناوي الناشطة في المجتمع المدني كانت حاضرة في الوقفة الاحتجاجية امام مقر المجمع الكيميائي بمنطقة لافيات بالعاصمة و و في حوارها مع كوسموس ميديا قالت: ” أن المجمع الكيميائي صدر فيه قرار غلق منذ سنة 2017 لكنه يعمل الى اليوم و يخنق أهالي قابس بغازاته السامة …اليوم هناك 9 حالات اختناق خطيرة في صف التلاميذ  و نحن نندد بتخاذل الحكومات المتعاقبة في تطبيق قرار الغلق و نطالب بتفكيك وحدات هذا المجمع الذي خلّف الدمار في قابس”.

حركة “stop pollution”

تركز المنظمات على أن عمر وحدات المجمع الكيميائي قد انتهى، وأنها تشكل خطراً حقيقياً على صحة المواطنين بسبب اهتراء وحداتها وافتقارها لمعايير السلامة، مع وجود مواد شديدة الانفجار مثل الأمونيا والخزانات الغازية التي تهدد المناطق المجاورة. وقد جاء تحرك المجتمع المدني عقب تزايد حالات الاختناق نتيجة تسربات غازية سمية نُقلت ضحاياها إلى المستشفيات، وكانت هذه المطالب مدعومة أيضاً بتصريحات من الرئيس التونسي الذي اعتبر الأمر جريمة بيئية ودعا للاستماع لمطالب الشباب والنضالات البيئية في قابس.

إلى جانب إحتجاجات قابس، شهدت جهات أخرى مثل المظيلة وقفازات تحركات مماثلة للتنديد بالوضع البيئي الخطير والمطالبة بإجراءات حاسمة تجاه المجمع الكيميائي ووحداته الصناعية الملوثة.

المأساة في قابس ليست فقط في التلوث، بل في المعادلة الصعبة التي تواجهها اليوم هذه الولاية المنكوبة: بين أهمية المجمع كعمود اقتصادي يصنع فرصًا للعيش والكسب، وبين البيئة التي تآكلت، وصحة السكان التي تنهار تحت وطأة السُّحب السامة. كيف يمكن أن تُوزن هذه المعادلة؟ كيف يمكن أن يُحافظ على حياة الإنسان والبيئة وفي الوقت ذاته لا تُفقد فرص العمل التي يمثلها هذا المجمع؟

إنها دعوة لموازنة دقيقة، تتطلب من السلطات والمجتمع المدني العمل الجاد لإيجاد حلول غير تقليدية تضمن استدامة المنشأة الصناعية دون أن تتحول إلى كارثة صحية وبيئية. لأن التنمية الحقيقية لا تُقاس فقط بالأرقام الاقتصادية، بل بحجم السلامة التي تحفظ حياتنا وصحة أجيالنا القادمة.

قابس اليوم تحتاج قرارًا شجاعًا، لتعيد لنفسها هواءها النقي ومستقبلها المشرق، بعيدًا عن سموم مصنع كان يومًا رمزًا للتقدم، فبات شبحا بيئيا مخيفا ورمز للتّحدي الأكبر أمام أصوات السكان المتعالية وتخوفاتهم المتزايدة.

زر الذهاب إلى الأعلى