سليديرمقالات

مخيم القرش بجرجيس: تظاهرة علمية بيئية لحماية الأسماك الغضروفية

إحتضنت مدينة جرجيس من ولاية مدنين في الفترة الممتدة بين 16 و19 جوان 2025، الدورة الثانية من “مخيم القرش”، التي نظّمها الصندوق العالمي للطبيعة – مكتب شمال إفريقيا، تحت شعار “أحميني“، بهدف تعزيز الوعي البيئي بضرورة حماية الأسماك الغضروفية وعلى رأسها أسماك القرش، التي تواجه تهديدات متزايدة في السواحل التونسية واللّيبية.

وفي تصريح لـ”كوسموس ميديا“، أوضحت مريم الفقي، مكلفة بمشاريع في الصندوق العالمي للطبيعة، أن هذه المبادرة تندرج ضمن مشروع إستعادة أعداد أسماك القرش ووضع خطة لحماية الغضروفيات، في ظل تزايد أخطار الصيد العرضي والصيد المستهدف بالطرق التقليدية في تونس وليبيا.

وأكدت الفقي أن مخيم القرش فرصة لإيجاد حلول تضمن إستدامة الموارد البحرية من جهة، وتحفظ مورد رزق البحارة الذين يعتمدون على نشاط الصيد كمصدر رئيسي لكسب قوتهم، من جهة أخرى،و ذلك من خلال تقديم بدائل علمية للصيد و تعزيز الصيد المستدام لحماية الكائنات البحرية.

وشددت محدثتنا على أهمية تكامل الجهود بين مختلف الفاعلين، من منظمات المجتمع المدني، وخبراء وباحثين في علوم البحار، إلى جانب إشراك الصيادين، باعتبارهم طرفًا محوريًا في أي مسار حماية ناجح.

ويتضمن برنامج المخيم سلسلة من العروض العلمية يشرف على تقديمها مجموعة من الخبراء إلى جانب زيارة ميدانية إلى ميناء الصيد البحري بجرجيس، لمعاينة التحديات على أرض الواقع وبحث سبل المحافظة على الأسماك الغضروفية، بمشاركة مباشرة من البحارة.

خطة عمل وطنية

بالعودة إلى تفاصيل مخيم القرش، فقد استُهلّ اليوم الأول بسلسلة من العروض التأطيرية التي قدّمها خبراء في المجال البحري، حيث تم التطرّق إلى التهديدات المتزايدة التي تواجهها الأسماك الغضروفية، وفي مقدّمتها أسماك القرش المهدّدة بالانقراض. وقد شكّلت هذه العروض فرصة للتوعية بالتحديات الراهنة التي تحول دون حماية هذه الأنواع، في ظلّ ما تواجهه من صيد مفرط، وتلوّث بحري، وتغيرات مناخية تؤثر على موائلها الطبيعية.

وفي هذا الإطار، قدّم الخبير في التنوع البيولوجي البحري، محمد نجم الدين برادعي خطة عمل وطنية للحفاظ على الأسماك الغضروفية في تونس ، تم تطويرها بدعم من الصندوق العالمي للطبيعة – شمال إفريقيا، وقد ركزت الخطة على جملة من المحاور المترابطة.

و أوضح الخبير أن الركيزة الأولى لهذه المقاربة هي البحث العلمي، حيث لا يمكن الحديث عن حماية فعلية دون الاعتماد على بيانات علمية دقيقة. كما أشار إلى أهمية وعي البحّارة، الذين يمثلون فاعلًا رئيسيًا في جهود الحماية، مضيفًا: “لا يمكن إحداث تغيير حقيقي دون إشراك الصيادين في مسار الوعي والممارسات المستدامة.”

ولم يغفل برادعي أيضًا دور المستهلك، الذي يمكن التعويل عليه لحماية القروش عبر اختياراته الواعية، مؤكدًا على ضرورة تعزيز القدرات المحلية في التعرّف على الأنواع، وتحسين إدارة المصائد من خلال تتبع الكميات المصطادة.

و ستكون خطة العمل الوطنية متوافقة مع اتفاقية برشلونة التي اعتمدتها دول البحر الأبيض المتوسط و البروتوكول المتعلق بالمناطق المتعلقة بحماية خاصة و التنوع البيولوجي في البحر الأبيض المتوسط.إضافة الى اتفاقية الأمم المتحدة بشان المخزونات السمكية.

وفي نفس السياق شدّد على أن القروش تلعب دورًا محوريًا في استقرار المنظومة البيئية البحرية، مؤكّدًا أن زوالها أو انقراضها قد يؤدي إلى اختلال السلسلة الغذائية برمتها، وهو ما من شأنه أن يهدد موارد رزق البحارة على المدى القريب والبعيد.

وفي ما يتعلّق بالأنواع الأكثر تهديدًا، مثل قرش المحراث والقرش الرمادي الأبيض الكبير، أوضح أنه تم اعتماد بيانات موجهة لصياغة إجراءات دقيقة لحمايتها، بما يتماشى مع خطة العمل الإقليمية والوطنية.

تضم تونس 65 نوعا من الأسماك الغضروفية على طول السواحل التونسية وتتواجد بكثرة في خليج قابس نظرا للخصائص الملائمة لنموها وتكاثرها،  و يتميز البحر الأبيض المتوسط بتنوع الأسماك الغضروفية حيث تضم مالا يقل عن 48 نوعا من اسماك القرش و 38 نوعا من أسماك الرية و اثنين من أنواع اسماك الخرافية .

الصيادون…أي دور؟

يرى الصياد عماد التريكي أن المشاركة في مثل هذه التظاهرات البيئية تُعدّ فرصة ثمينة لإكتساب مزيد من المعارف والخبرات، خصوصًا في ما يتعلق بالكائنات البحرية الممنوعة من الصيد، وسبل حمايتها. وأكّد أن توفّر المعلومات الدقيقة يُسهّل على الناشطين والمهتمين إقناع بقية البحّارة بأهمية احترام هذه القوانين، حفاظًا على التوازن البيئي وموردهم الاقتصادي في آنٍ معًا.

وقال التريكي: “أنا بحّار وأعي تمامًا أهمية الحفاظ على الثروة البحرية. ومن خلال تجربتي في البحر لاحظت تراجعًا ملحوظًا في أعداد من الكائنات البحرية على غرار السلاحف و الاخطبوط و أسماك القرش، مما دفعني إلى استخدام مقاطع الفيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتوعية الناس بهذه الظاهرة”.

كما أشار إلى أن الحلول ليست بعيدة المنال، ولا تتطلّب بالضرورة إمكانيات ضخمة، مستشهدًا بتجربة المسلك البحري البيئي في خليج ملولة، والذي وصفه كنموذج ناجح يجمع بين ضمان مورد رزق مستدام للبحارة وحماية الأصناف البحرية بأنواعها، وليس فقط أسماك القرش.

مساعٍ متواصلة لحماية الأسماك الغضروفية

خلال اليوم الثاني من المخيم، تمّ تنظيم زيارة ميدانية إلى ميناء الصيد البحري  بجرجيس، تلتها جلسة نقاش مع مجموعة من الصيادين والخبراء وممثلي وكالة الإرشاد الفلاحي والصيد البحري، وذلك بمقر التعاونية لخدمات الصيد البحري بولاية مدنين.

وقد مثّلت هذه الجلسة فرصة لطرح جملة من الإشكاليات التي تواجه قطاع الصيد البحري، إلى جانب إقتراح حلول وبدائل توازن بين حماية الأسماك الغضروفية والمحافظة على مورد رزق البحارة من بينها إقتراح تحديد مواسم واضحة ومُنظّمة لصيد هذه الأنواع. وبرز خلال الحوار إرتفاع مستوى وعي الصيادين بأهمية حماية البيئة البحرية والكائنات المهددة بالإنقراض، ما يعكس تغيّرًا إيجابيًا في نظرتهم نحو الممارسات المستدامة في الصيد.

وفي هذا السياق أفاد رئيس إدارة الصيد البحري بجرجيس، مراد الناجعي أن وضعية الأسماك في الجهة مستقرة نسبيا مقارنة بالسنوات الماضية، في إشارة إلى تراجع في وفرة الأصناف البحرية في ظلّ التحديات البيئية المستمرة.

وأوضح الناجعي أن الإدارة شرعت في تنفيذ حملات تحسيسية موجّهة للصيادين، بإعتبارهم الحلقة الأساسية في أي خطة لحماية الأنواع المهددة. وقال في هذا السياق: “نحن مع فكرة توعية البحارة بضرورة حماية الأسماك المهددة بالإنقراض، وتشجيعهم على إستعمال وسائل صيد مستدامة تحافظ على الثروة السمكية.”

وأشار محدثنا إلى أن نجاح هذه الجهود مرهون بسنّ تشريعات واضحة وعادلة، تضمن توازنًا بين حماية المورد الطبيعي وضمان إستمرارية مصدر رزق البحارة. وأضاف أن البدائل الإقتصادية تمثّل جزءًا من الحل، شريطة أن تكون قابلة للتنفيذ وتراعي الأبعاد الاجتماعية للعائلات المرتبطة بهذا النّشاط.

كلمة تقدير ورسالة إلتزام

وقد شهدت الجلسة الختامية للمخيم حضور مدير مكتب الصندوق العالمي للطبيعة – شمال إفريقيا، الذي توجه بكلمة شكر وتقدير إلى كافة المشاركين من خبراء، صيادين، ممثلي الإدارات، ومنظمات المجتمع المدني، مثنيًا على التفاعل الإيجابي والروح التشاركية التي ميّزت فعاليات “مخيم القرش”.

وأكد في كلمته أن نجاح هذه المبادرة ما كان ليتحقق لولا التزام الجميع وحرصهم على فتح حوار مسؤول حول مصير الغضروفيات في المنطقة، مشددًا على أهمية البناء على هذه التجربة من أجل تطوير مشاريع مماثلة في مناطق ساحلية أخرى تواجه نفس التحديات.

وختم بالتأكيد على أن الصندوق العالمي للطبيعة سيواصل دعم مثل هذه المبادرات الميدانية التي تضع الصياد في قلب المعادلة البيئية، وتدفع نحو حلول شاملة ومستدامة تحفظ البحر والإنسان معًا.

يشكّل مخيم القرش محطة أساسية في مسار تعزيز الوعي البيئي حول أهمية حماية أسماك القرش، التي تواجه خطر الانقراض في المياه الإقليمية لكل من ليبيا وتونس، بسبب الصيد العرضي والصيد التقليدي المستهدف.

كما ساهم المخيم في نشر المعرفة العلمية حول هذه الكائنات البحرية الحساسة، كما أتاح مساحة لتبادل الخبرات بين باحثين، نشطاء، وصيّادين، بهدف دعم جهود الحفاظ على توازن النظم البيئية البحرية.

وفي ظل تصاعد التهديدات التي تواجه التّنوع البيولوجي البحري، يشكّل هذا النوع من المبادرات مثالاً على ضرورة الربط بين المعرفة المحلية والعلمية لتعزيز ثقافة الصون البيئي في منطقة البحرالأبيض المتوسّط .

زر الذهاب إلى الأعلى