في أحد صباحات جزيرة قرقنة الهادئة، خرج البحار “العم هشام” كعادته إلى البحر، يبحث عن صيده اليومي من الأخطبوط، لكن شيئًا ما كان مختلفًا. شباكه التي كانت تعود مثقلة بالغنائم أصبحت شبه فارغة، والمياه التي حفظت أسرار البحّارة لقرون لم تعد تجود بما كانت عليه.
اليوم، يواجه صيادو قرقنة كابوسًا لم يكن في الحسبان: الأخطبوط يختفي، ومصدر رزقهم في خطر. فما الذي يحدث في مياه الأرخبيل؟ ولماذا أصبحت ثروة الأخطبوط مهددة؟ هل هو الصيد الجائر، أم أن البحر يبعث برسالة تحذير أخيرة؟
التحذيرات البيئية تراجع حاد في مخزون الأخطبوط
التقارير البيئية تدق ناقوس الخطر ومخزون الأخطبوط في قرقنة يتراجع، وفق دراسات أجرتها منظمات بيئية محلية ودولية. الأسباب تتعدد بين الصيد الجائر، وارتفاع درجات حرارة البحر، واستخدام طرق صيد غير مستدامة مثل الشباك الجرافة أو ما تُعرف بـ”الكيس” و التي تقضي على صغار الأخطبوط قبل أن تنضج. ورغم تحذيرات الباحثين والدعوات لتنظيم الصيد، تستمر المخالفات، مما يهدد بإنهيار هذا المورد البحري الذي يشكّل عصب الإقتصاد المحلي. فإلى أين تتجه الأمور؟ وهل يمكن إنقاذ ما تبقى من ثروة الأخطبوط قبل أن يتحول إلى مجرد ذكرى في ذاكرة بحّارة قرقنة.
وسط هذا الواقع القاتم يقف البحار ذو الست وسبعين عامًا، الذي ورث مهنة الأجداد وجاب مياه قرقنة لعقود من الزمن، على رصيف الميناء، في مواجهة البحر حيث تعوّد الصيادون على تحدي الأمواج والإنتظار بصبر كبير . يروي “عم هشام” قصّته مع إختفاء القرنيط بسبب الصيد الجائر وطرق الصيد المتطورة التي أدت إلى استنزاف الثروة البحرية.
يقول “العم هشام” مع نظرة مليئة بالحنين والقلق: “في أواخر الثمانينات، حين بدأت الدولة توفر قروضًا لبعض البحارة من أجل تطوير معدات الصيد، كانت الطموحات كبيرة، كنا نأمل في تحسين إنتاجنا وزيادة العائدات. لكن للأسف، لم نكن نعلم حينها أن هذه الخطوة ستغيّر كل شيء. الفكرة كانت أن يطوّر البحار طرق الصيد ، لكن ما حدث هو أنّ هؤلاء البحارة بدأوا بإستخدام شباكًا أكبر وأكثر تعقيدًا تسمى”الدرينة البلاستيكية “،وهي قادرة على إصطياد كل شيء في طريقها، بما في ذلك الصغار قبل أن ينضجوا أو يتكاثروا. كان هناك هدف واحد فقط: الصيد أكثر. لكن دون إدراك، بدأنا نفقد شيئًا فشيئًا ما كان يميز بحرنا، تلك الثروة التي اعتمدنا عليها لعقود طويلة اما اليوم، الشباك التي كنت أستعملها سابقًا والتي كانت تعود مثقلة بالأخطبوط أصبحت شبه فارغة.
و واصل “العم هشام” كلامه بعد ان أطلق تنهيدة كبيرة ” سابقا كان البحار يخرج من منزله بدينارين و قطعة من القماش و خبز و سكر ويعود محملا بأربع مائة كيلو من القرنيط أما اليوم فيستحق البحار لرحلته ما لا يقل عن ألف دينار من البنزين …ما كان يمكن أن يكون يومًا عاديًا أصبح مقلقًا. البحر الذي كان يعجّ بالحياة، أصبح صامتًا، وكأنّ سرّه إختفى. الأخطبوط ، كان في يوم من الأيام يملأ شباكنا، أصبح نادرًا كالأحلام.”
و أردف “العم هشام” كلامه مستنكرا :” هل نحن المسؤولون عن هذا فقط وهل يمكننا إصلاح ما فعلناه والأشخاص الذين يقومون ببيع القرنبط في السوق في غير موسمه من سيحاسبهم … الصيد الذي كان يعد مصدر رزقنا الوحيد، بات مصدر قلق. البحر كان يحمينا ويمدنا بما نحتاجه، لكن و للأسف اليوم لم يعد يجود الا بالقليل القليل “
أزمة ثروة الاخطبوط تصريحات رئيس جمعية القراطن
في مناسبات عديدة و عبر بيانات متعددة دعا أحمد السويسي، رئيس جمعية القراطن للتنمية المستدامة والثقافة والترفيه، هياكل الدولة إلى التدخل العاجل لتطبيق القوانين المنظمة للصيد وحماية الثروة السمكية، مشددًا على أن الصيد التقليدي في قرقنة لم يعد قادرًا على الصمود أمام الاستنزاف المتواصل للموارد البحرية.
في حديثه لـكوسموس ميديا ، أكّد السويسي أن الصيادين في قرقنة يواجهون أزمة خانقة تهدد قوتهم اليومي، نتيجة التّراجع الكبير في الثروة السمكية.
وأوضح أحمد أن هذه الأزمة ليست جديدة، بل أن البحارة أطلقوا تحذيرات متكررة منذ أربع سنوات، حيث قال في تصريح له لكوسموس ميديا: “نداء وصيحة الفزع التي اطلقناها لا يخص فقط الأخطبوط، ولكن تعني مخزون الثروة السمكية بسواحل جزيرة قرقنة. منذ أربع سنوات، والبحارة ينادون ويحاولون إبلاغ الدولة وهياكلها المختلفة في علاقة بقطاع الصيد البحري بأن ثروتنا من الأخطبوط مهددة، وهو المورد الأول لبحارة الصيد الساحلي والتقليدي في جزيرة قرقنة.”
الصيد الجائر والممارسات غير القانونية عوامل تدهور البحر
عدة عوامل تسببت تراجع الثروة السمكية في قرقنة لعلّ من ابرزها و حسب شهادة البحارة في المنطقة، الصيد الجائر خارج الموسم القانوني، حيث يتم إصطياد الأخطبوط مثلا قبل أن يبلغ الحجم المناسب، ما يخل بالتوازن البيئي ويحد من قدرته على التكاثر. كما أن استخدام أدوات صيد غير قانونية مثل “درينة البلاستيك” ومراكب الكيس يزيد من إستنزاف هذا المورد البحري. هذا و اعتبر أحمد سويسي رئيس جمعية القراطن للتنمية المستدامة والثقافة والترفيه أن “أكبر تهديد للثروة السمكية هو أساليب الصيد العشوائي التي تنتهك القوانين وتضرّ المياه الضحلة لسواحل جزر قرقنة، وهي مياه لا تتجاوز الستة أمتار، وأبرز هذه الأساليب هي الصيد بالكيس الذي يمارس بصفة متعسفة ومتكررة على سواحل جزر قرقنة.” وأشار السويسي أيضًا إلى أن تراجع ثروة الأخطبوط ساهم في تراجع الثروة السمكية بشكل عام، حيث قال لـكوسموس ميديا: “في غياب الأخطبوط، يضطرّ البحارة إلى إصطياد أنواع الأسماك الأخرى مثل الوراطة، الميلة، والقاروص لتوفير قوتهم اليومي وقوت عائلاتهم”.
التغيرات المناخية في قرقنة: تحديات إضافية أمام صيادي الجزيرة
إلى جانب التجاوزات البشرية، تلعب التغيرات المناخية دورًا رئيسيًا في فقدان هذه الثروة البحرية. فقد أدى ارتفاع درجات الحرارة إلى تغير سلوك الأخطبوط، حيث بات يهاجر إلى مناطق أعمق، مما جعل عملية صيده أكثر صعوبة وأقل مردودية. هذا الوضع جعل الصيادين عاجزين عن تغطية نفقاتهم اليومية، في ظل ارتفاع تكاليف معدات الصيد وصيانة القوارب. كما أكد محمد السنوسي: “اندثار الإسفنج منذ 2015/2016 والذي لا يزال إلى حد اليوم لم يعد إلى جزر قرقنة، كان مصدر رزق مهم لبحارة الصيد التقليدي لتزامن موسم صيده مع موسم صيد القرنيط.”
هل تتحرك السلطات لإنقاذ موسم الأخطبوط القادم
في هذا الباب شدّد أحمد السويسي رئيس جمعية القراطن للتنمية المستدامة والثقافة والترفيه على أن النشاط الاقتصادي لعدد كبير من أهالي قرقنة يعتمد بشكل أساسي على الصيد البحري، مما يستوجب تدخلًا عاجلًا من الدولة لدعم الصيادين وتنظيم عمليات الصيد. كما دعا مختلف هياكل الدولة مثل وزارة الداخلية، الحرس البحري، جيش الدفاع، وزارة التجارة، ووزارة الصحة إلى التدخل لحماية مورد رزقهم وحماية الكائنات البحرية من الاندثار. مع اقتراب موسم الأخطبوط القادم في نوفمبر المقبل، يترقب البحارة استجابة السلطات لمطالبهم، أملاً في إنقاذ ما تبقى من هذه الثروة البحرية.
ريهام دجبي / كوسموس ميديا
لمعرفة المزيد شاهد أيضا : وينو القرنيط
مجزرة وإبادة للأخطبوط في قرقنة