سليديرمقالات

نزيف أخضر..عقدان من إنحسار الغابات الكثيفة في تونس تحت وطأة الحرائق

نجاة فقيري- كوسموس ميديا…على قمم الغابات في الشمال الغربي التونسي وبين المسالك الوعرة، تتصاعد كل صيف سحب الدخان الكثيف، ويتناثر الرماد موشحا المساكن والقرى المحاذية ويختنق السكان بين الدخان والحرارة وأحيانا كثيرة يعانون من خسائر في الأرزاق والممتلكات.

مشاهد تعيشها تونس في مختلف ربوعها الغابية التي تمتد على حوالي 1.2 مليون هكتار، وتواجه سنويا عشرات الحرائق التي تدمّر الغطاء النباتي وتهدّد التنوع البيولوجي، وتكشف في المقابل هشاشة سياسات الدولة في الوقاية والمجابهة.

الغابات: من ثروة بيئية إلى نقطة ضعف

تتميّز الغابات التونسية بتنوّع طبيعي استثنائي يعكس تعدّد المناخات من الشمال الرطب إلى الهضاب الداخلية شبه الجافة. هذا الامتداد البيئي يمنح البلاد طيفا نباتيا واسعا فريدا من نوعه يتراوح بين الغابات الكثيفة في الشمال والمناطق الحرجيّة المتناثرة في الوسط.

ففي الشمال الغربي، حيث التساقطات الهامة والمناخ شبه الرطب، تنتشر أشجار الزان والفرنان وشجيرات البوحداد والزعرور البري واللنج والريحان البري والعرعار وأم الروبية والصنوبر وعديد النباتات العطرية البرية وغيرها من النباتات المتنوعة، مكوّنة غطاء غابيا كثيفا يعتبر الأكثر تنوعا في حوض البحر الأبيض المتوسط. أما في المرتفعات الوسطى والمناطق شبه الجافة، فتسود أشجار الصنوبر الحلبي ، وهي أنواع مقاومة للجفاف وتشكّل الغطاء الغابي الأكثر انتشارا في البلاد.

في المقابل، تعاني مساحات شاسعة من الغابات من تدهور الغطاء النباتي بسبب الحرائق والرعي وقطع الأشجار، لتتحوّل تدريجيا إلى غطاء نباتي فقير من نوع الماكي (maquis) أو الڭاريغ (garrigue)، المكوّن من شجيرات منخفضة وعشبيات جافة سهلة الاشتعال. لكن هذا التنوع البيولوجي، على الرغم من هشاشته، يمثل ثروة إيكولوجية حيوية، إذ يسهم في تنظيم المناخ المحلي، مقاومة الانجراف، وحفظ التنوع الجيني للنباتات المتوسطية.

أشجار الزانchène zeen بمرتفعات جبل الغرة تونس (صورة : نجاة فقيري)

كرونولوجيا الحرائق: عقدين من الخسائر الفادحة في الغطاء الغابي

أفاد الصندوق العالمي للطبيعة بشمال إفريقيا  WWF NORTH AFRICA في بيانات له سنة 2024 أن تغطية النباتات الطبيعية في تونس تقدّر بمساحة تصل إلى 5.7 مليون هكتار، تتضمن 657 ألف  هكتار من الغابات الحقيقية، منها  الورقية (الكثيفة) بمساحة 179 ألف هكتار وصنوبرية بمساحة 457 ألف هكتار ، بالإضافة إلى 400 ألف هكتار من الغابات المعاد غراستها و200 ألف هكتار من الأراضي العشبية. وبذلك يبلغ إجمالي المساحات الغابية واسعة النطاق 1.25 مليون هكتار، بينما تصل المراعي إلى 4.5 مليون هكتار.

وتشير البيانات، وفق الموقع العالمي  GLOBAL FOREST WATCH ، إلى تراجع لافت في الغطاء الغابي بتونس خلال العقدين الأخيرين، ما يعكس هشاشة النظام البيئي الغابي في مواجهة الضغوط الطبيعية والبشرية. ففي عام 2000، بلغت مساحة الغطاء الشجري)  (tree coverنحو 224  ألف هكتار( المناطق التي تتوفر فيها كثافة شجرية لا تقل عن 30%. )، وهو ما يمثل 1.4% من إجمالي مساحة البلاد. غير أن هذه المساحة انخفضت بشكل واضح بحلول عام 2010 إلى 169 ألف هكتار فقط، أي 1.1% من مساحة تونس. وبين عامي 2001 و2024، فقدت تونس حوالي 38.2 ألف هكتار من الغطاء الشجري الكثيف، ما يعادل 17% من الغابات التي كانت قائمة في عام 2000، دون احتساب المساحات التي تم استعادتها جزئيّا خلال هذه الفترة.

ويعود هذا التراجع الحاد إلى تزايد وتيرة حرائق الغابات، إلى جانب التوسع العمراني العشوائي، قطع الأشجار غير القانوني، والرعي الجائر، وهي عوامل ساهمت مجتمعة في تسريع وتيرة التدهور البيئي وتقليص قدرة الغابات على تجديد نفسها.

  • الحرائق من 2012 إلى جويلية 2025:

🔥 2012

شهدت سنة 2012 موجة حرائق استثنائية في تونس، حيث سجلت الإدارة العامة للغابات ما يقارب 400 حريق غابي، تضررت خلالها مساحات واسعة قدرت بحوالي 2,400 هكتار من الغابات والسباسب.
ومثّل هذا الرقم ارتفاعا ملحوظا مقارنة بالسنوات السابقة، إذ سجلت 2011 نحو 207  حريق و1,700 هكتار متضرّر، بينما كانت حصيلة الحرائق 227 في 2010 ومساحة الغابات المحروقة تقل عن 750 هكتارا.

🔥 2014

رغم أن الإحصائيات كانت متذبذبة وغير دقيقة إلا أن سنة 2014 تعد من سنوات الذروة، أين تحولت حرائق الغابات من ظاهرة موسمية إلى مشكلة بيئية حادة. ففي تلك السنة، سجلت تونس ما يقارب 481 حريقا خلال فصل الصيف فقط، التهمت مساحة تفوق 6156 هكتارا، مقارنةً بـ 290 حريقا وما يقرب من 5,754 هكتارا عام 2013.

🔥 2017

بنسق تصاعدي، سجّل عام 2017 أعلى ذروة في مساحة الأراضي المحروقة منذ عام 2010، إذ تجاوزت المساحة المتضررة 17,000 هكتار من الغابات التونسية وحدها.

وافقت ذروة الحرائق في 2017 موجة من الحرارة الشديدة غير المسبوقة، خاصة بين أواخر شهر جويلية وأوائل شهر أوت، مما ساهم بشكل مباشر في خروج الحرائق عن السيطرة. فقد ارتفع متوسط درجات الحرارة الصيفية إلى مستويات تجاوزت المعدلات الطبيعية بمعدل 2 °C إلى 5 °C في منطقة البحر المتوسط، وفق تحليل World Weather Attribution الذي ربط بين التغير المناخي وزيادة احتمالية حدوث مثل هذه الحرارة الحارقة مرات عدة مقارنة بما قبل 1900.

🔥 2019

واصل موسم الذروة امتداده سنة 2019 رغم تضارب الأرقام والإحصائيات مما أدى إلى خسائر فادحة في الغطاء الغابي والمحاصيل الزراعية، خاصة في المناطق الشمالية والغربية من البلاد. فقد تضررت مساحات واسعة من الأراضي المزروعة بالحبوب نتيجة لاندلاع النيران في ذروة موسم الحصاد، ما كبّد الفلاحين خسائر مالية جسيمة.

ووفق ما تداولته تقارير إعلامية استنادا إلى بيانات صادرة عن الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، فقد بلغت قيمة الخسائر اليومية في محصول الحبوب نحو 1.2 مليون دينار تونسي، نتيجة احتراق المحاصيل الجاهزة للجني وتلف آلات الحصاد في بعض المناطق الريفية. كما تسبب امتداد الحرائق في تعطيل حركة الإنتاج الزراعي في عدد من الولايات مثل الكاف وباجة وسليانة، حيث أُعلنت حالة طوارئ بيئية غير رسمية، وسط صعوبات كبيرة في إطفاء النيران بسبب التضاريس الجبلية وسرعة الرياح.

🔥 2020

رغم أن موسم الحرائق لعام 2020 لم يصنّف ضمن أعوام الذروة، إلا أن الأرقام الرسمية أشارت إلى مؤشرات مقلقة في تصاعد نسق الحرائق واتساع رقعتها، مما أعاد طرح إشكاليات الجاهزية والوقاية.

ووفق تقرير رسمي أصدره المرصد الوطني للفلاحة (ONAGRI)، فقد تم تسجيل 365 حريقا بين شهر جانفي ومنتصف شهر أوت 2020، ألحقت أضرارا بنحو 2,169 هكتارا من الغابات والمناطق الطبيعية، شملت بشكل أساسي ولايات الشمال الغربي مثل باجة والكاف وجندوبة، إلى جانب القصرين في الوسط الغربي.

وتظهر مقارنة البيانات أن عدد الحرائق في 2020 ظل في مستوى متوسط مقارنة بالسنوات السابقة، لكنه شكل زيادة في عدد البؤر المشتعلة مقارنة بـ2019، ما يعكس ضعفا في أنظمة المراقبة والإنذار المبكر، خاصة مع تزايد التأثيرات المناخية المرتبطة بموجات الحرّ والجفاف.

المصدر: المصور الصحفي ياسين قايدي

🔥 2021

يعدّ عام 2021 من أكثر المواسم حدّة وتضرّرا للغطاء الغابي في تونس، رغم أن عدد الحرائق لم يشهد ارتفاعا مقارنة بعام 2020، إلا أن المساحة التي التهمتها النيران شهدت ارتفاعا لافتا.

فبحسب المرصد الوطني للفلاحة (ONAGRI)، فإن المساحة المحروقة خلال الفترة من 1 جانفي حتى 20 أوت 2021 بلغت 9158.2 هكتارا. في حين سجّل العام نفسه 274 حادث حريق في هذه الفترة، مقابل 365 حريقا في نفس الفترة من عام 2020، و2,169 هكتارا من المساحات المحروقة.

هذا التناقض بين انخفاض عدد الحرائق بنسبة 25% وزيادة المساحة المتضررة (بأكثر من 322% يجسّد تحولا نوعيًا في طبيعة الحرائق، حيث لم تعد مجرد حالات محدودة، بل أصبحت كوارث ذات انتشار واسع وتأثيرات مدمّرة. ويربط تقرير ONAGRI هذا المفارقة المناخية بارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة الصيفية وسرعة الرياح الجافة، إلى جانب ضعف التدخلات اللوجستية الفعالة في المناطق الجبلية النائية.

🔥 2022

يرتبط عام 2022 في ذاكرة التونسيين بحريق جبل بوقرنين بولاية بن عروس الهائل حيث أتت النيران على نحو 533 هكتارا من الغطاء النباتي الكثيف المتكون من العرعار والصنوبر الحلبي والغابة الشعراء، ممتدة بذلك من جبل بوقرنين إلى جبل برج السدرية، محوّلة الغابات إلى رماد خلال ساعات، ومهدّدة المحمية الطبيعية الغنية بالتنوع البيولوجي في تلك المنطقة، وفق معطيات الإدارة العامة للغابات وتصريحات الحماية المدنية.

وتزامن ذلك مع حريق آخر ضخم في جبل برقو (ولاية سليانة)، استمر لأكثر من خمسة أيام متتالية، في ظروف مناخية صعبة زادت من تعقيد عمليات الإطفاء، أبرزها ارتفاع درجات الحرارة والتضاريس الوعرة التي صعبت الوصول إلى قلب النيران.

 أعلنت الإدارة العامة للغابات حينها عن اندلاع 15 حريق خلال نفس الأسبوع الممتدّ من 19 إلى 26 جويلية 2022 بولايات، جندوبة (03 حرائق بدار فاطمة وببّوش وعين بومرشان من معتمدية عين دراهم) وبن عروس (حريقين بالسلسلة الجبليّة الممتدّة من جبل حمام الأنف إلى جبل برج السدريّة) وبنزرت (حريقين بطمرة والرياح من معتمدية سجنان) والقيروان (حريقين بجبل قيتون والعثامنية من معتمدية الوسلاتيّة) وزغوان (حريق واحد بجبل منصور من معتمدية الفحص) وسليانة (حريق واحد بجبل البياض من معتمدية برقو) وباجة (حريق واحد بجبل خرقالية من معتمدية نفزة) والقصرين (حريق واحد بغابة الفلاليق من معتمدية تالة) والكاف (حريق واحد بملالة من معتمدية الطويرف) ونابل (حريق واحد بدار شعبان الفهري).

هذه الحرائق مجتمعة تسببت في خسائر بيئية جسيمة، تمثلت في تدمير نظم إيكولوجية حساسة، وتضرّر مواطن حيوانات برية وطيور مهددة، ناهيك عن التأثيرات السلبية على الغطاء النباتي الذي يحتاج لسنوات كي يتعافى. وتعد أيضا من أكثر الكوارث الطبيعية التي أثارت الجدل في تونس خلال العقد الأخير، وسط دعوات لتحديث آليات الوقاية، وتعزيز منظومات التدخل المبكر والرقابة المستمرة في المناطق الجبلية.

 🔥 2023

شهدت تونس صيفا كارثيا خلال سنة 2023، مع اندلاع 438 حريقا أتلفت 4800 هكتار من الغابات، بما في ذلك 1177 هكتار في منطقة ملوّلة معتمدية طبرقة شمال غرب تونس. وقدّرت التكاليف المالية للأضرار الناتجة عن حريق هكتار واحد بين 25 ألف و55 ألف دينار تونسي. ويعتبر هذا الموسم جزء من موجة حرائق شاملة اجتاحت شمال إفريقيا خلال شهر جويلية، حيث تفشت النيران من الجزائر والمغرب لتصل إلى مناطق من تونس مثل ملولة التابعة لولاية جندوبة ونفزة التابعة لولاية باجة.

ورغم تضارب الأرقام وغياب الشفافية إلا أن حجم الكارثة كان ملحوظا حيث أن أضراره وتداعياته لم تشمل فقط الغطاء الغابي بل شملت الغطاء الزراعي وحتى الممتلكات والمواشي لسكان المناطق المتضرّرة.

🔥 2024

سجل موسم 2024، 246 حريقا غابيّا دمّر نحو 734 هكتارا، وهو ما وصفه مسؤول بالإدارة العامة للغابات في تصريحات رسمية بالمعدل الطبيعي نسبيا مقارنة بذروات الحرائق السابقة موضحا أن هذه الأرقام تعكس نجاح جهود الوقاية والاستجابة، مقارنة بعام 2020 الذي شهد تدمير نحو 25,000 هكتار من المساحات الطبيعية.

وأضاف المسؤول أن 95% من الحرائق تعود إلى مصادر بشرية، سواء كانت متعمدة أو نتيجة إهمال بسبب ممارسات غير مدروسة وقلة ثقافة السلامة في المناطق الغابية. ولفت إلى أن الإطار القانوني الصارم يمنع إشعال النار في الغابات بين 1 ماي و31 أكتوبر، والعقوبات تتراوح حتى السجن مدى الحياة في حال كانت النيران متعمدة وأسفرت عن خسائر بشرية.

🔥 2025 حتى شهر جويلية

حتى 10  جويلية 2025، أعلنت وزارة الفلاحة أن الحرائق التهمت نحو 550 هكتارا، من بينها 297 هكتارا من الغابات والمناطق شبه الغابية، فيما توزعت المساحة المتبقية على المحاصيل والأراضي الزراعية. ويمثّل هذا الرقم وفق الوزارة انخفاضا ملحوظا في كل من عدد الحرائق والمساحات المتضررة مقارنة بذروة موسم 2020.

تظهر بيانات الحرائق المسجّلة في تونس خلال الفترة 2012- 2023 منحى تصاعديّا مستمرا في عدد الحرائق والمساحات المتضرّرة، مع بلوغ ذروات مقلقة في أعوام 2017، 2020، و2021. ورغم تسجيل تراجع نسبي في عدد الحرائق والمساحات المحترقة خلال عامي 2024 و2025، فإن ذلك لا يعدّ مؤشّرا على انحسار الظاهرة بقدر ما يشير إلى تحسّن نسبي في التدخلات الوقائية وعمليات الإطفاء.

البنية التحتية الغابية: خطر إضافيّ

تفتقر المسالك الغابية في تونس إلى الصيانة والتهيئة. في جولة ميدانية، لوحظ أن العديد من الحواجز الغابية، التي تحول دون انتشار النار، قد تحوّلت نفسها إلى أحزمة قابلة للاشتعال بسبب إهمال تنظيفها من الأعشاب والأحراش الجافة وعودة نمو الشجيرات السهلة الإشتعال بها.

كما أن وعورة التضاريس، خصوصا في مرتفعات عين دراهم، جبل الغرة، وطبرقة، تجعل الوصول إلى مواقع الحرائق صعبا بل ومستحيلا، في ظل غياب طائرات كافية للإطفاء، وضعف فرص الاستجابة المبكرة.

أما الوضع الميداني فهو بدوره يزيد من هشاشة منظومة الحماية، ففي منطقة غابية هامة بإحدى معتمديات الشمال الغربي، يشرف 5 حراس غابات (بعد تقاعد اثنين منهم دون بدائل) فقط على مساحة تتجاوز 3200 هكتار دون أي معدات أو وسائل نقل. ويؤكد مسؤول في الإدارة العامة للغابات (رفض التصريح عن إسمه) أن بعض الحراس يغطي الواحد منهم ما بين 400 إلى 600 هكتار بمفرده!

من جهة أخرى، أوضح المسؤول أن أكثر من 80%  من أبراج المراقبة خارج الخدمة (الإدارة العامة الجديدة تسعى لإعادة صيانتها و الاستعانة بها للمراقبة والتبليغ)، ونقاط المياه المخصصة للإطفاء إما غائبة تماما أو في حالة يرثى لها، ما يجعل الوصول للحرائق وإخمادها مسألة شبه مستحيلة في بعض المناطق. ويضيف أن غياب إدارات فرعية (عدى عن الجهوية والمحلية) في المناطق الحسّاسة تعد من بين نقاط ضعف الاستجابة والمراقبة الدورية.

ومع كل هذه العوامل يظل التحدي الأكبر قائما، إذ تعود ما بين 95% و96% من الحرائق إلى أسباب بشرية، سواء بسبب الإهمال أو بفعل متعمّد، في حين لا تتجاوز نسبة الحرائق الناتجة عن عوامل طبيعية كالصواعق أو الحرارة المرتفعة 4% إلى 5%، وفق تقارير صادرة عن الحماية المدنية التونسية ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو).

أرقام بلا أجوبة: من المسؤول عن النيران؟

تشير تصريحات مسؤولين تونسيين إلى أن 90 % من أسباب الحرائق تبقى “مجهولة”، وهو ما يثير تساؤلات عن مدى الجدية في التحقيقات ومحاسبة المتورطين. ومع أن منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) تعتبر أن الأسباب الطبيعية لا تتعدى 5% في المنطقة المتوسطية، فإن غالبية الحرائق تنشب بفعل بشري، سواء بشكل متعمد لأغراض اقتصادية أو بسبب الإهمال. فالحماية المدنية التونسية نفسها تقرّ بندرة الحرائق الناتجة عن أسباب طبيعية، بينما يؤكد مسؤولون في الغابات أن “البصمات البشرية حاضرة بقوة”، مشيرين إلى وجود جريمة منظمة تستهدف الغطاء الغابي.

وفي تصريح خاص من مدير عام سابق للغابات (رفض التصريح عن إسمه)، أكد وجود شبكات تستغل الحرائق لاحتكار منتجات الغابة مثل “الزقوقو” و”البندق”، أو للاتجار في الخشب والفحم بأسعار مرتفعة. كما أفاد أن بعض هذه العصابات يشتبه في أنها تنفذ الحرائق لإجبار الدولة على التوريد من شركاتها الخاصة أو للاستحواذ على الأراضي وتغيير صبغتها القانونية.

وفي سياق متصل وفي تحليل لأحد الحرائق المسجلة خلال الفترة الأخيرة قال المهندس الخبير البيئي حمدي حشاد في تدوينة نشرها على صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فايسبوك،  أن “غابة جبل بلوطة بولاية سليانة  مثلا تحترق بشكل شبه دوري منذ عام 2016، دون تحديد هوية الجناة، رغم تكرار السيناريو ذاته: حريق، تحقيق، ثم يقيد ضد مجهول ويطوى الملف”. موضحا أن الغابة شهدت وحدها 5 حرائق متتالية خلال صيف 2023، في مقابل صمت تام وغياب شبه كلي للرقابة والتحقيقات الجدية. وما يثير الشكوك أكثر، حسب حشاد، أن العام الوحيد الذي لم يسجل فيه حرائق هو 2024، متسائلا “هل هي مصادفة بريئة؟ لا أعتقد ذلك.”

كما أشار إلى حادثة مثيرة جرت يوم 24 جويلية 2025، حين اشتعل حريق جديد بعد أقل من ساعة من إخماد آخر، وعلى بعد 400 متر فقط من مركز الحماية المدنية، متسائلا عن تكرار “الصدف الغريبة” في منطقة صغيرة ومعروفة لدى السلطات. وفيما يتعلق بتبعات هذه الحرائق، نبّه حشاد إلى أن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في النيران، بل فيما يليها: تحوّل الأراضي المحترقة تدريجيا إلى حقول وأملاك خاصة، في خرق واضح للقانون الذي يمنع بيع أو توريث الملك الغابي العمومي.

واختتم حشاد تدوينته بدعوة صريحة إلى كشف الحقيقة، مقترحا الاستعانة بالصور الفضائية من المركز الوطني للاستشعار عن بعد، وفتح ملفات المحكمة العقارية والـ OTC، للتثبت من كيفية تغيّر صبغة الأراضي وتحوّلها إلى أملاك خاصة بعد كل حريق. وتعتبر غابة بلوطة عينة صغيرة من عديد الغابات التي واجهت نفس السيناريو.

فالحرائق وفق الخبراء لا تخلف فقط رمادا وخسائر بألاف الهكتارات، بل تفتح الباب أمام جرائم غابية أخرى مثل التحوّز غير القانوني للأراضي المحروقة ، قطع الأشجار وإعادة تحويل وجهة الأراضي، وفقدان التنوع البيولوجي إضافة إلى تزايد انبعاثات الكربون نتيجة تراجع الغطاء النباتي، وهو ما يعد ثاني أهم سبب في زيادة الانبعاثات حسب خبراء المناخ.

توصيات:

  1. إعداد استراتيجية وطنية شاملة للوقاية من حرائق الغابات.
  2. تدعيم الإمكانيات اللوجستية للمندوبيّات الجهوية وخاصة المحلية للغابات.
  3. مراجعة الإطار القانوني والرقابي المتعلّق بالجرائم الغابية.
  4. اعتماد تقنيات الاستشعار المبكر والمراقبة الجوية.
  5. تطوير دور المجتمع المدني والمحلي في الحماية والمراقبة.
زر الذهاب إلى الأعلى