“رجعت نحب الأرض… رجعت نفيق بكري باش نخدمها…خاطرها جزء من قلبي”، يقول عبد الرحمان ، فلاح أربعيني أصيل معتمدية نفزة التابعة لولاية باجة، وهو يمرر يده على جذع شجرة الزيتون. يبتسم بفخر وهو يروي كيف أعادت الزراعة الحراجية الحياة إلى أرض كانت جافة ومتآكلة، وكيف صارت اليوم تظللها الأشجار وتحتمي بين أغصانها الطيور.
ما كنتش نتصور أن المزج بين الأشجار والمحاصيل ممكن يعطي هذا الخير” بالنسبة لعبد الرحمان، لم تكن الزراعة الحراجية مجرد تقنية، بل عودة إلى الجذور وبداية أمل جديد.”
في نفزة، كما في العديد من مناطق الشمال الغربي التونسي، بدأ مشهد الحقول يتغير. مساحات كانت قاحلة صارت اليوم تتوشح بخضرة أشجار الزيتون والبلوط والصنوبر، تتخللها محاصيل موسمية تحميها الظلال وتحافظ على رطوبة التربة. هنا، لم تعد الأرض مجرد مصدر رزق، بل شريك حياة، والفلاحون صاروا يروْن في كل غرسة استثمارًا للمستقبل، لا للموسم فقط.

هذا التحول لم يأتِ صدفة، بل كان ثمرة برامج تدريبية ومبادرات محلية ودعم من منظمات بيئية، هدفت إلى نشر تقنيات الزراعة الحراجية كأداة لمواجهة التصحر وشح المياه.
“مع تزايد حدة التغيرات المناخية، وما يرافقها من موجات جفاف متكررة، وتراجع خطير في خصوبة التربة، أصبحت تونس، كما العديد من بلدان العالم، تواجه تحديات تهدد أمنها الغذائي واستقرارها الاجتماعي والاقتصادي. وفي ظل محدودية الموارد وندرة المياه، تُطرح الزراعة الحراجية (Agroforestry) كأحد الحلول العلمية والعملية التي تُعيد التوازن للنظام البيئي الزراعي، وتُمهّد لنهج تنموي أكثر استدامة.“
بالعودة إلى الأرقام، فإن أكثر من 75% من الأراضي التونسية مهددة بالتعرية والتصحر، خصوصًا في الشمال الغربي والوسط الغربي وفقًا للمعهد الوطني للبحوث الزراعية (INRAT). وتشير بيانات وزارة الفلاحة (2024) إلى أن فقدان الغطاء النباتي ارتفع بنسبة 30% خلال العقد الأخير.
ما هي الزراعة الحراجية؟ (Agroforestry)
الزراعة الحراجية هي نظام زراعي متكامل يدمج الأشجار الغابية والشجيرات ضمن الإنتاج الزراعي التقليدي (محاصيل أو تربية ماشية) على قطعة الأرض ذاتها، بما يخلق تنوّعًا بيولوجيًا وتكاملًا وظيفيًا بين مكوّنات المنظومة: جذور الأشجار تثبت التربة وتحميها من الانجراف لانها تثل مصدات للرياح، أوراقها المتساقطة تتحول إلى سماد طبيعي، وظلالها تقلل تبخر المياه وتحافظ على الرطوبة، ما يجعل الأرض أكثر قدرة على مواجهة الجفاف.

في هذا الاطار أفاد الأستاذ والباحث في علوم الغابات بمعهد الغابات و المراعي بطبرقة فؤاد الحسناوي أن نظام الزراعة الحراجية يُصنَّف ضمن المنظومات المتكاملة التي تحاكي في بنيتها ووظائفها المنظومات البيئية الطبيعية، حيث تقوم على المزج المدروس بين الأشجار، والمحاصيل الزراعية، وتربية الحيوانات في فضاء واحد، بما يخلق توازنًا بيئيًا ويعزّز تنوّعًا حيويًا غنيًا. هذا النموذج لا يقتصر على إنتاج الغذاء أو الخشب فحسب، بل يسهم أيضًا في إعادة إحياء التربة، والحد من انجرافها، وتنظيم المياه، وامتصاص الكربون، وهو ما ينعكس مباشرة على تحسين معيشة الإنسان وتوفير موائل طبيعية للحيوانات والطيور والكائنات الدقيقة. ويؤكد الباحث أن الزراعة الحراجية بهذا المفهوم تمثل جسرًا بين احتياجات الإنسان الاقتصادية والمعيشية، ومتطلبات الحفاظ على النظم البيئية الطبيعية وصون خدماتها الحيوية على المدى الطويل.
و من جهتها اوضحت غادة قرطاس عن جمعية les amis de CAPTE (CAPTE تعني مجموع الفاعلين من اجل الغراسات و الانتقال البيئي) أن الزراعات الحراجية “l’agroforesterie” “نموذجا فلاحياً مستداما يمكن تبنيه في تونس ودمجه في المستغلات الزراعية.اذ يقوم هذا النظام على تنويع الغطاء النباتي في نفس الرقعة الأرضية، حيث تتعايش الأشجار والشجيرات مع النباتات والخضروات، إلى جانب إمكانية إدماج تربية الحيوانات بطريقة تخلق تفاعلات مفيدة بيئيا وإقتصاديا.
و أكدت غادة قرطاس أن هذا النموذج لا يساهم فقط في تنويع الإنتاج واستغلال الأرض طيلة السنة، بل يُعد حلًا فعّالًا لمجابهة التغيرات المناخية، إذ تساعد الأشجار على حماية التربة من الانجراف، وتوفير الظل، وتحسين خصوبتها، فضلًا عن دورها في ترشيد استهلاك المياه.
كما أضافت أن الزراعات الحراجية تعزز من التنوع البيولوجي، من خلال خلق نظام بيئي غني ومتوازن داخل الحقل، مما يساهم في مقاومة الآفات بشكل طبيعي، ويُعيد إحياء العلاقة المتوازنة بين الإنسان والطّبيعة.
ومن بين النقاط الإيجابية للزراعة الحراجية، كما يبرزها المؤيدون، أنها تقلّل الاعتماد على النفط والأسمدة الكيميائية والمبيدات الحشرية، وتزيد من قدرة التربة على الصمود أمام الظروف المناخية القاسية، سواء كانت أمطارًا شتوية غزيرة أو موجات جفاف في الربيع والصيف. كما تساعد على تخزين كميات أكبر من الكربون في التربة، مما يجعلها أداة فعّالة في مواجهة التغير المناخي.
مقارنة بين الزراعة التقليدية والحراجية

الزراعة الحراجية مكاسب بيئية واقتصادية في آن واحد
إن الزراعة الحراجية تتجاوز فكرة إثراء الأرض بالأشجار والمحاصيل معًا، فهي نظام متكامل يبعث الحياة في الأرض ويمنح الفلاحين فرصة لتجديد حياتهم وأملهم.
بيئيًا، تساعد جذور الأشجار العميقة على تثبيت التربة ومنع انجرافها مع الأمطار، كما تحافظ على رطوبتها فتبقى خصبة وقادرة على الإنتاج حتى في مواسم الجفاف. وبين الأغصان، تجد الطيور والحشرات الملقحة مأوى آمنًا، مما ينعش التنوع البيولوجي ويعيد التوازن للنظام البيئي.
أثبتت دراسات عديدة أن الزراعة الحراجية تساهم في الحدّ من انجراف التربة بنسبة تصل إلى 70%، كما تعمل على زيادة المادة العضوية فيها خلال ثلاث سنوات فقط. إضافة إلى ذلك، تساعد هذه الطريقة في حفظ المياه بنسبة تتراوح بين 30 و50% مقارنة بالزراعة التقليدية، مما يجعلها نموذجًا مستدامًا يوازن بين إنتاج الغذاء والحفاظ على الموارد الطبيعية.
مناخيًا، تمثل خط دفاع طبيعي ضد التغير المناخي، فهي تخزن كميات معتبرة من الكربون في التربة والكتلة الحيوية للأشجار، ما يخفف من انبعاثات الغازات الدفيئة. والأهم أنها تمنح الأرض قدرة أكبر على الصمود أمام تقلبات الطقس، سواء كانت فيضانات شتوية أو موجات حر صيفية.
وفقًا للمرصد الوطني للفلاحة، تفقد تونس سنويًا آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية الصالحة بسبب الجفاف و التغيرات الماخية وسوء استخدام الأرض.
اقتصاديًا ، تمنح الزراعة الحراجية الفلاحين فرصًا لتنويع مصادر دخلهم عبر إنتاج الخشب، الفواكه، الأعلاف أو النباتات العطرية، إلى جانب المحاصيل التقليدية. وهذا التنوع يقلل المخاطر الزراعية ويحمي سبل العيش، مما يحد من نزوح السكان نحو المدن.
وفي هذا السياق يُظهر مؤشر Land Equivalent Ratio ((LER أن الدمج بين الأشجار والمحاصيل الزراعية يحقق زيادة إنتاجية بنسبة تتراوح بين 25% و60% مقارنة بالزراعة الأحادية، بحسب نوع الأشجار والمحاصيل المتداخلة.
من التراب إلى الإنسان...أبعاد اجتماعية عميقة
لا يقتصر أثر الزراعة الحراجية على الجانب الاقتصادي والبيئي، بل يمتد ليشمل تمكين المجتمعات الريفية اجتماعيًا، من خلال إشراك المزارعين في اتخاذ القرارات، وتشجيع التعاون بينهم في تصميم أنظمة تلائم خصوصيات أراضيهم واحتياجاتهم.
و في هذا السياق أفاد أستاذ علم الاجتماع حسان بوري أن الزراعة الحراجية اليوم تُعدّ من الحلول الفعالة التي تساهم بدورها في تحسين ظروف العيش في المناطق الريفية، ما يساهم في الحد من دوافع الهجرة نحو المدن أو الخارج.
مشيرا إلى أنها نموذج يضع الإنسان في قلب المنظومة البيئية، ويدعوه ليكون شريكًا فاعلًا في إعادة التوازن بين الطبيعة والتنمية.
بالإضافة إلى أنها تُعيد للفلاح علاقة الشراكة مع الأرض، بدل الاستنزاف. وتفتح أبوابًا جديدة للنساء الريفيات، من خلال إنتاجات ذات قيمة مضافة.
التحديات التي تواجه التوسع في الزراعة الحراجية
رغم ما تقدمه الزراعة الحراجية من فوائد بيئية واقتصادية واجتماعية، فإن التوسع في اعتمادها على نطاق واسع في تونس يواجه مجموعة من التحديات، بعضها مرتبط بالعوامل التقنية والاقتصادية، وأخرى بالمناخ أو الإطار القانوني. ومع ذلك، فإن هذه العقبات ليست عائقًا نهائيًا، إذ يمكن تجاوزها عبر خطط مدروسة تجمع بين التكوين، والدعم المالي، والسياسات المشجعة.

مشاريع محلية لدعم الزراعة الحراجية
في السنوات الأخيرة، ازدادت أهمية الزراعة الحراجية بوصفها نهجًا زراعيًا مستدامًا وصديقًا للبيئة، الأمر الذي يجعل الاطلاع على التجارب الناجحة حول العالم خطوة أساسية لفهم إمكاناتها الحقيقية. فهذه المشاريع تمثل نماذج ملهمة لكيفية تطبيق الزراعة الحراجية بفعالية، وتوفر رؤى قيّمة من تجارب متنوعة ومتعددة السياقات.
وفي هذا الإطار شهدت تونس في شهر جوان 2025 انطلاق مشروع “TRAN-SAHARA” الذي يهدف إلى دعم اعتماد النظم الزراعية الحراجية كحلول طبيعية لتعزيز قدرة المجتمعات المحلية على التكيف مع التغيرات المناخية. ويرتكز المشروع على مقاربة متكاملة تربط بين الماء والطاقة والغذاء والنظم البيئية، مع ضمان إدارة مستدامة وشاملة للموارد الطبيعية في منطقة شمال إفريقيا الكبرى. ويُنسَّق هذا المشروع وطنيًا من قبل المعهد الوطني للبحوث في الهندسة الريفية والمياه والغابات، بمشاركة 21 شريكًا من 15 دولة، و مدته 3 سنوات بكلفة 5.5 مليون اورو بدعم من الاتحاد الاوروبي في اطار برنامج Horizon Europe مما يضع تونس في قلب شبكة إقليمية للتعاون والابتكار في مجال الزراعة الحراجية.
كما تعكس تجارب الجمعيات المحلية أهمية هذه المقاربة، حيث نفّذت جمعية “Les Amis de CAPTE” مشاريع تجريبية للزراعة الحراجية في ولايتي بنزرت والكاف، شملت غراسات متكاملة من الأشجار والشجيرات المثمرة. وقد استفاد من هذه الغراسات أكثر من 50 فلاحًا، ليتم زرع أكثر من 15,000 شجرة وشجيرة، بالإضافة إلى 30 هكتارًا من المزروعة المختلطة، في محاولة لإعادة الحياة للتربة وزيادة التنوع الزراعي، وتقديم نموذج عملي ناجح للتكيف مع التغيرات المناخية.
تراث زراعي حي... واحة قفصة
لا تقتصر جهود تونس على المشاريع الحديثة، بل تمتلك أيضًا مواقع زراعية ذات قيمة تراثية وإنسانية عالية. فـواحة مدينة قفصة، التي تمتد على نحو 700 هكتار، مصنفة من قبل منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) ضمن النظم المبتكرة للتراث الزراعي العالمي. تتميز الواحة بنظامها الزراعي ذي الطوابق الثلاث، ما يخلق تنوعًا بيولوجيًا غنيًا ويحافظ على الموارد الطبيعية في بيئة جافة.

دروس مستفادة من تجارب عالمية
لا تقتصر الزراعة الحراجية على تونس فحسب، بل أثبتت نجاعتها في مناطق متعددة حول العالم، بما في ذلك البيئات القاحلة والصعبة. ففي المغرب، تمكن جهاد المليح، صاحب مزرعة “فصيلة”، من إحياء أرضه التي كانت تربتها شبه ميتة وتعاني من ظروف مناخية قاسية. ومن خلال تطبيق تقنيات الزراعة الحراجية، استعادت التربة خصوبتها، وعادت لتنبض بالحياة، لتنتج الخضروات والثمار رغم محدودية الموارد المائية في المنطقة.
أيضا في النيجر نجح المزارعون في تنفيذ مشروع نظام الزراع الحراجية للأشجار (SALT)، حيث زرعوا أشجارًا مثبتة للنيتروجين جنبًا إلى جنب مع محاصيلهم. وقد ساهم ذلك في تحسين خصوبة التربة، وزيادة إنتاجية الحقول، وتحويل مساحات جرداء إلى أراضٍ زراعية منتجة. الأهم أن هذا النظام مكّن المزارعين من الحفاظ على تنوع محاصيلهم وزراعتها حتى خلال فترات الجفاف، مما عزز أمنهم الغذائي وقلّل من هشاشتهم أمام التغيرات المناخية.

هذه التجارب، سواء في النيجر أو المغرب أو البرازيل، تُظهر أن الزراعة الحراجية ليست مجرّد تقنية محلية، بل نهج عالمي قادر على التكيّف مع ظروف بيئية واقتصادية متباينة. ورغم اختلاف النظم الإيكولوجية والثقافات الزراعية، إلا أن القاسم المشترك بينها هو قدرتها على إعادة إحياء الأرض، وتوفير الأمن الغذائي، وحماية الموارد الطبيعية.
وفي ختام رحلتنا مع الأرض والزراعة الحراجية، يقول عبد الرحمان بابتسامة واثقة”الأرض اللي نحافظ عليها اليوم، باش تردلنا الخير غدوة… وهي الضمانة الوحيدة لأولادنا باش يلقاو مستقبلهم هنا، مش في بلاد بعيدة.”
تؤكد هذه الكلمات أن مسؤولية حماية الأرض ليست مهمة فردية، بل واجب مشترك لكل فلاح و مواطن وصغير وكبير، لضمان استدامة الحياة وتحقيق توازن بين الإنسان والطبيعة، من أجل حاضر أفضل ومستقبل أكثر أمانًا للأجيال القادمة.
هذا التقرير من إعداد رجاء الدريدي، وقد أُنجز في إطار مشروع تخرج ضمن برنامج دبلوم صحافة المناخ الذي تنظمه مدرسة المناخ بالتعاون مع غرينبيس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وشبكة الصحفيين الدوليين.
تقرير رجاء الدريدي