مبروكة خذير-فتحية خذير-كوسموس ميديا
كوسموس ميديا–بالتعاون مع مبادرة “ميد موزاييك” (Med Mosaic)-تونس
في خريطة البحر الأبيض المتوسط، تبدو الزرقة واسعة بلا نهاية. ملايين الكيلومترات من المياه التي كانت يومًا تعج بالحياة، بالأسماك الضخمة، والشعاب النابضة، وفقمة الراهب التي كانت تتجول بحرية على السواحل. لكن خلف هذا المشهد الهادئ، تختبئ حقيقة صادمة: فقط 0.04% من هذا البحر الشاسع تتمتّع بحماية صارمة، مناطق يُمنع فيها الصيد والاستغلال والتدخل البشري تمامًا. رقم يكاد لا يُرى… تمامًا مثل بعض الأنواع التي اختفت بالفعل.
للوهلة الأولى، قد يبدو أن المحميات البحرية منتشرة، وأن كل دولة ترفع شعارات حماية البحر. خرائط ملوّنة، لافتات رسمية، مؤتمرات وتصريحات. لكن عندما نقترب أكثر، نكتشف أن معظم هذه المحميات ليست سوى حدود على الورق. أنشطة مسموحة، صيد “منظم”، وسفن تعبر دون رقابة. أما الحماية الحقيقية، تلك التي تُترك فيها الطبيعة لتتنفس وحدها، فهي تكاد تكون نقطة في محيط.
وهنا تبدأ المشكلة. فالكائنات البحرية تحتاج مساحة آمنة لتتكاثر وتستعيد توازنها. تحتاج وقتًا لتكبر، ولتُعيد الحياة إلى المناطق المجاورة فيما يُعرف بـ «تأثير الارتداد « ؛ حين تنتشر وفرة الحياة من مناطق الحماية نحو البحر المفتوح. لكن كيف يمكن لبحر مهدَّد، ترتفع فيه نسب الصيد الجائر وتزداد فيه الأنواع المهددة، أن يتعافى ومساحته المحمية فعليًا أصغر من ظل جزيرة صغيرة؟
الدراسات أثبتت أن المناطق البحرية المحمية بالكامل يمكن أن تضاعف أعداد الأسماك خلال سنوات قليلة، وأن تعيد ظهور أنواع اختفت لعقود. لكنها تحتاج إلى شرطين أساسيين: مساحة حقيقية وزمن كافٍ. أما 0.04%، فلا تكفي لإنقاذ بحر يختنق ببطء.
الواقع أن البحر الأبيض المتوسط يعيش سباقًا مع الزمن. إما أن تتوسع الحماية الصارمة، وتتحول من وعود إلى تطبيق، أو نخسر مخزونًا بيئيًا لا يمكن تعويضه. السؤال لم يعد: “هل نحتاج المحميات؟” بل أصبح: هل نستيقظ قبل أن يغدو البحر بلا حياة؟
وربما يكون الدرس الأعمق في هذا كله بسيطًا جدًا:
أحيانًا لا يحتاج البحر إلى أن نعطيه… بل أن نتوقف عن أخذه…
في هذا الملف الذي حضرته كوسموس ميديا–بالتعاون مع مبادرة “ميد موزاييك” (Med Mosaic)-تونس
سنخوض اليوم في مجموعة من المقالات التي تسلط الضوء على المحميات البحرية في منطقة البحر الأبيض المتوسط.
0.04% فقط! لماذا مساحة الحماية الصارمة لا تكفي؟
يمثل البحر الأبيض المتوسط لوحة طبيعية معقدة وديناميكية، ينساب فيها التنوع البيولوجي بين أعماقه وسواحله وجزره، لكنه اليوم يواجه تهديدات جسيمة من النشاطات البشرية وتغير المناخ، مما يجعل الحاجة إلى حماية فعّالة وحاسمة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
على الرغم من أن البحر المتوسط يشكل حوالي 1% فقط من سطح المحيطات، إلا أنه يحتضن نحو 10% من الأنواع البحرية المعروفة، ليصبح بذلك ثروة بيئية حيوية تعتمد عليها ملايين البشر في معيشتهم اليومية. تتنوع المناظر الطبيعية في المنطقة بين البحار والشواطئ والجزر، إلى الجبال والغابات، مرورًا بالصحاري والواحات والمناطق الزراعية، لتكون موطنًا لحوالي 7500 نوع من الكائنات الحية، منها نحو 3800 نوع بري و700 نوع بحري.
لكن هذه الثروة المذهلة تواجه تراجعًا خطيرًا. فقد شهدت العقود الثلاثة الأخيرة انخفاضًا بنسبة 20% في أعداد الفقاريات، مع خسائر أكثر حدة في الأنظمة البحرية التي فقدت أكثر من نصف أعدادها. التونة الحمراء وغيرها من الأسماك الكبيرة تكاد تختفي بسبب الصيد الجائر. أما موجات الحرارة البحرية المتكررة، فقد تسببت في نفوق جماعي للكائنات البحرية مثل الشعاب المرجانية والإسفنج، لتزداد المخاطر على التنوع البيولوجي بشكل غير مسبوق.

ورغم هذه التحديات، هناك بصيص أمل. فقد نجحت بعض الجهود في حماية أنواع نادرة وتحسين نظم الرقابة على الصيد، ما يثبت أن التدخل الفعّال يمكن أن يحدث فرقًا. فالتدهور البيئي لا يهدد الحياة البحرية وحدها، بل يمتد أثره إلى الأمن الغذائي والمجتمعات الساحلية التي تعتمد على البحر في معيشتها، فيما تضيف الظواهر المناخية المتطرفة مثل الجفاف وارتفاع منسوب المياه طبقة إضافية من التعقيد والتهديد.
في هذا السياق، تأتي المحميات البحرية لتلعب دورًا حيويًا في استعادة التنوع البيولوجي وحماية الثروات البحرية. فهي ليست مجرد مناطق محمية على الخريطة، بل أدوات استراتيجية للحفاظ على مستقبل البيئة والإنسان معًا. يبقى السؤال: ما هي أهمية هذه المحميات في البحر الأبيض المتوسط، وما هو واقعها الحالي، وأين تكمن حدودها وتحدياتها؟
ثروات تختفي تحت الأمواج… والمحميات هي الفرصة الأخيرة..
المحميات البحرية هي مناطق محمية في المحيط تهدف إلى حفظ التنوع البيولوجي البحري والموائل الطبيعية للكائنات مثل الشعاب المرجانية والأسماك والثدييات البحرية، وتعمل كملاجئ بيئية مماثلة للغابات المحمية على اليابسة، حيث تفرض فيها قواعد صارمة تحد من الصيد والنشاطات التي قد تضر بالنظام البيئي. تختلف المحميات البحرية في درجة حمايتها، فمنها مناطق يمنع فيها الصيد تماماً ولا يسمح بدخول الإنسان إلا للباحثين، ومنها مناطق تسمح بأنشطة مستدامة تسعى لحماية البيئة وتعزيز مواردها للأجيال القادمة. كما أن بعض المحميات تحمي مواقع ذات أهمية ثقافية أو دينية.
لا حجم محدد للمحميات البحرية؛ فقد تكون صغيرة أو يمكن ان تمتد على مساحات شاسعة لكن أهميتها تكمن في مدى حمايتها للنظام البيئي البحري، وزيادة أعداد وأحجام الأسماك، وتحسين جودة المياه، مما يعزز صحة المحيط.
يعتبر خبراء البحار ليست المحميات مجرد مناطق محمية بل هي أدوات استراتيجية تساهم في حماية الثروات البحرية ، بصفتها ملاجئ للنباتات والحيوانات البحرية ،تحافظ على الموائل وتساهم في استعادتها وفي تكاثر الأنواع من خلال حماية مناطق الحضانة والنمو. وتعزيز التنمية المستدامة حيث تساهم في إعادة بناء الأرصدة السمكية و تعزيز الأمن الغذائي ودعم أنشطة الصيد البحري المستدام و خلق فرص عمل كما تعتبر المحميات البحرية تقنية فاعلة في مواجهة التحديات البيئية الكبرى مثل الصيد الجائر وتغير المناخ حيث تساعد هذه الأنظمة الإيكولوجية البحرية الصحية بصفتها أحواض كربون حقيقية على تخفيف تغير المناخ من خلال احتجاز ثاني أكسيد الكربون.
تضمن الإدارة الجيدة لهذه المحميات تحقيق توازن بين حماية البيئة والاستخدام المستدام للموارد البشرية، وتجعلها أداة حيوية لمكافحة آثار التغير المناخي. يُصنف الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة المحميات البحرية إلى ست فئات رئيسية لكل منها أهداف ومواصفات مختلفة، من محميات صارمة لا تسمح بأي نشاط بشري إلى محميات تحمي معالم طبيعية بحرية نادرة.
تنتشر المحميات البحرية الكبرى في مناطق متعددة حول العالم، ومن بينها البحر الأبيض المتوسط حيث توجد عدة مواقع محمية في تونس ودول أخرى. ورغم أن جزءًا صغيرًا فقط من البحر المتوسط محمي رسمياً وبفعالية، إلا أن الجهود مستمرة لإنشاء شبكة شاملة من المحميات البحرية التي تحمي التنوع البيولوجي وتضمن استدامة النظم الإيكولوجية البحرية والتي تعتبر حيوية للحياة البحرية والمجتمعات الساحلية في المنطقة.
تحذيرات من فقدان التنوع البيولوجي والحاجة لمحميات بحرية فعّالة
في تصريح صحفي لمنصة Med Mosaic خلال مؤتمر UNOCOP في يونيو 2025، حذّر الخبير البيئي والبحري أنيول إستيبان من المخاطر المتزايدة التي تهدد البحر الأبيض المتوسط في حال استمرار السياسات الحالية على نفس الوتيرة. وأكد أن هذا البحر الحيوي يختزن 11٪ من الأنواع البحرية المعروفة عالميًا، رغم أنه يشكل 0.3٪ فقط من حجم محيطات العالم.
وأوضح إستيبان أن فقدان التنوع البيولوجي في المتوسط لا يقتصر على كونه أزمة بيئية، بل يمثل عامل عدم استقرار إضافي لمنطقة تعاني بالفعل من تحديات سياسية واقتصادية ومناخية، ما يقلّل من قدرتها على التكيف مع تداعيات الاحتباس الحراري.
وأشار إلى أن معظم مخزونات الأسماك في المتوسط تتعرض للصيد الجائر، وأن أنواعًا رمزية مثل سمك المنشار وقرش المطرقة اختفت بالفعل أو باتت على شفير الانقراض، في ظل ضغوط متصاعدة نتيجة السياحة والنقل البحري، وارتفاع حرارة مياه البحر بمعدل يفوق ضعفي المعدل العالمي.
ورغم هذه التحديات، أبرز إستيبان مؤشرات إيجابية، مثل تعافي مخزونات التونة ذات الزعانف الزرقاء بعد أن كانت مهددة بالانقراض قبل عقد من الزمن، ونجاح محميات بحرية مثل خليج غوغوفا في تركيا في استعادة التنوع البيولوجي وعودة أنواع نادرة كفقمة الراهب وأسماك القرش الرمادية. كما لفت إلى تجارب أساطيل صيد مبتكرة في جزر البليار، أثبتت أن الصيد المستدام يمكن أن يكون أقل ضررًا على البيئة وأكثر ربحية اقتصاديًا.
وشدد الخبير على أن تشخيص الأزمة والحلول المطلوبة باتا واضحين، داعيًا إلى إنشاء وتطوير محميات بحرية عالية الفعالية تغطي 30٪ من مساحة البحار، مع إغلاق ما لا يقل عن 10٪ من المساحات البحرية أمام الصيد والأنشطة الاستخراجية. كما دعا إلى تحويل قطاع الصيد إلى نموذج مستدام منخفض الأثر، وتطبيق خطط عملية لاستعادة مروج الأعشاب البحرية والموائل المرجانية المتكلسة.
وأكد إستيبان على ضرورة وضع حدود صارمة للضغوط المتزايدة على مياه المتوسط، وزيادة الاستثمارات في حماية البيئة البحرية، مقترحًا تخصيص 1٪ من الميزانيات الوطنية، إلى جانب دعم القطاع الخاص، كخطوة كفيلة بإحداث تحول حقيقي في صحة النظم البيئية البحرية.
وختم بالقول إن ازدهار دول المتوسط ورفاهية شعوبها، واستدامة قطاعات حيوية مثل السياحة والصيد، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحفاظ على رأس المال الطبيعي في أفضل حالاته، معتبرًا أن استعادة البحر إلى وضعية ممتازة من الحماية البيئية تمثل الضمان الأفضل طويل الأمد لاستمرار المنافع والخدمات التي يوفرها.

نماذج دولية لمحميات بحرية ناجحة
تُعتبر محمية الحاجز المرجاني العظيم في أستراليا واحدة من أعظم عجائب الطبيعة على سطح الأرض، إذ تمتد على أكثر من 2300 كيلومتر في ولاية كوينزلاند شمال البلاد. تحمي هذه المحمية أكبر حيد مرجاني طبيعي في العالم، وتحتضن تنوعًا هائلًا من الشعاب المرجانية وأكثر من 3000 نوع من الأسماك، ما يجعلها ملاذًا حيويًا لمئات الكائنات البحرية. ولعبت جهود الحماية والإدارة المستدامة دورًا أساسيًا في تقليل الضغوط على النظام البيئي، بما في ذلك الحد من التلوث والصيد غير المنظم، ما ساهم في الحفاظ على توازن هذا الكائن الحي البحري العملاق.
أما محمية باباهاناوموكواكيا في هاواي، فهي مثال حي على النجاح في حماية الأنواع البحرية المهددة بالانقراض. لقد ساعدت إجراءات إدارة المحمية في زيادة أعداد هذه الأنواع واستعادة التوازن البيئي داخل المنطقة، مما يعزز صحة النظام البحري ويضمن استمرار التنوع البيولوجي.
وفي محمية بحر روس، التي تُعد من أكبر وأهم المحميات البحرية في العالم، تم فرض حظر كامل على الصيد والنشاطات البشرية. وقد منح هذا الحظر النظام البيئي فرصة كاملة للتعافي والازدهار، وهو ما يعكس فعالية الحماية الصارمة في صون البيئة البحرية وتعزيز التنوع البيولوجي. وقد أصبحت هذه المحمية نموذجًا يحتذى به في الإدارة المستدامة للمناطق البحرية المحمية.
تُظهر هذه التجارب بوضوح أن المحميات البحرية ليست مجرد مساحات محمية، بل أدوات حيوية لضمان صحة واستدامة النظم البيئية البحرية للأجيال القادمة.
نجاحات المحميات البحرية.. التمويل والإدارة المفتاح الحقيقي للحماية
في حوار حصري مع “كوسموس ميديا“، أكدت ريما جبادو، نائبة رئيس لجنة النجاة (Species Survival Commission) في الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة (IUCN)، أن “نجاحات المحميات البحرية تختلف وفق تعريف كل دولة للنجاح”. وأوضحت جبادو أن دولاً مثل أستراليا والولايات المتحدة تمتلك شبكات محميات قوية تعتمد على تقسيم المناطق مع خطط إدارة وإنفاذ صارمة، ما أدى إلى تعافي أعداد أنواع بحرية مثل أسماك القرش والشمشاط.
أما في دول منخفضة الدخل مثل جزر الماونتيز، فقد حققت المحميات وملاذات القرش نجاحًا ملحوظًا عبر التوعية والسياحة المتعلقة بالقرش، لتصبح مصدرًا مهمًا للدخل القومي. وأضافت جبادو: “هناك أمثلة رائعة لمجتمعات محلية تحمي مياهها بإصرار، وتطبق القوانين للحفاظ على تنوعها ومواردها على المدى الطويل، وغالبًا ما تمثل هذه النجاحات الأكثر استدامة”.
وفي خضم النقاشات حول مستقبل السواحل والمحيطات، شددت جبادو على أن دول البحر الأبيض المتوسط لا تفتقر إلى الخبرات أو الأدوات لحماية بيئتها البحرية، بل تعاني من نقص التمويل المستدام. وقالت: “لدول المتوسط القدرة والإمكانيات، لكن ما ينقصنا هو التمويل المستمر، وليس التمويل لمرة واحدة فقط. هذا هو التحدي الأكبر اليوم”.
وأكدت نائبة رئيس لجنة النجاة (Species Survival Commission) في الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة (IUCN)أن الحل لا يكمن فقط في ضخ الأموال، بل في إدارة المشاريع بشكل فعّال، وإشراك المجتمعات المحلية في العملية، ما يقلل الحاجة إلى عمليات إنفاذ مكلفة ويخفض التكاليف الإجمالية. وأشارت إلى أن السنوات الأخيرة شهدت ارتفاعًا في تمويل المبادرات البحرية، خصوصًا المتعلقة بالمحميات، لكنها شددت على أن النجاح الحقيقي يقاس بقدرة المؤسسات على توظيف الأموال بشكل صحيح ووضع هيكل حوكمة واضح لضمان استدامة المشاريع.
وفي السياق نفسه، قالت جبادو إن بعض دول المتوسط، ومنها تونس، تواجه صعوبات في تطبيق نظام المحميات البحرية، مشيرة إلى أن “الإعلان عن المحميات غالبًا ما يصدر من وزير البيئة، بينما يقع العبء الفعلي على الجهات المنفذة”. وأوضحت: “يجب أن تتم مناقشة إنشاء المحميات على مستوى حكومي رفيع لضمان تنسيق فعّال مع المجتمعات المحلية. والخطوة التالية هي وضع خطة إدارة واضحة تشمل جميع الأطراف، وليس الصيادين فقط، بل أيضًا المنظمات البيئية والمجتمعات الساحلية، وفهم ما يجب حمايته. فقد تُنشأ محمية في منطقة تفتقر أصلاً إلى التنوع البيولوجي المستهدف”.
وأكدت جبادو أن أكثر التجارب نجاحًا هي تلك التي تتبناها المجتمعات المحلية بإصرار، وتنفذ القوانين لحماية مواردها على المدى الطويل.
غياب الإطار القانوني المنظم للمحميات أكدت عليه أيضًا مريم الفقيه، المشرفة على برنامج الصندوق العالمي للطبيعة لشمال إفريقيا، قائلة: “لدينا برامج للتصرف في المحميات البحرية، لكن لا يوجد قانون واضح يحددها. ومع ذلك، وبفضل هذه البرامج وتعاون المجتمعات الساحلية وصناع القرار، تم وضع إجراءات وقتية لحماية بعض الأصناف. نحن لا ندعو إلى منع كامل للصيد داخل المحميات، بل نركز على حماية 29 صنفًا مهددًا بالانقراض”.
منطقة حمراء بيئيًا: لماذا يحتاج المتوسط لحماية عاجلة؟
على الرغم من تعهد بعض الدول بحماية 30% من مناطقها البحرية والساحلية بحلول عام 2030، لا تتجاوز نسبة المحميات البحرية الفعلية في حوض البحر المتوسط نحو 8% فقط. التحدي ليس في تحديد الهدف، بل في تطبيقه: فالعديد من هذه المحميات موجودة “على الورق” فقط، تفتقر إلى التمويل المستدام وآليات الإدارة الفعالة التي تكفل حماية التنوع البيولوجي البحري. هذا النقص في الموارد يضعف الرقابة، ويزيد من مخاطر الصيد الجائر والتلوث وتأثيرات التغير المناخي، ما يعرقل تحويل البحر المتوسط إلى نظام بيئي مستدام.
تنتشر المحميات البحرية عبر دول المتوسط لتشكل نقاط ارتكاز مهمة للحفاظ على الأنظمة الإيكولوجية الهشة. إسبانيا تتصدر هذه الجهود بفضل محمية جزر ميديس في كاتالونيا، التي شهدت انتعاشًا بيولوجيًا ملحوظًا، إضافة إلى حديقة أرخبيل كابريرا البحرية الوطنية في جزر البليار، والتي تمتد على أكثر من 90 ألف هكتار وتحتضن نباتات بحرية مثل البوسيدونيا المحيطية التي تساهم في تنقية المياه واحتجاز الكربون.
إيطاليا تبرز من خلال محميات مثل منطقة سيلينتو البحرية في كامبانيا ومتنزه لا مادالينا في أرخبيل سردينيا، الملاذ الآمن للسلاحف ضخمة الرأس المهددة بالانقراض، إلى جانب محميات سينك تير وإيجادي التي تشتهر بجمالها الطبيعي تحت الماء وبتنوعها البحري الكبير. فرنسا بدورها تحمي محميات كالانك الوطنية وسكاندولا في كورسيكا، حيث يحمي مرجانها الأحمر ويخلق بيئة ملائمة للأسماك والدلافين، فيما تركز اليونان على حماية فقمة الراهب المتوسطية في منتزه ألونيسوس البحري وجزر سبوراديس الشمالية، إضافة إلى محميات زاكينثوس المعروفة بحماية السلاحف.
في العالم العربي، تتصدر تونس ومصر جهود حماية التنوع البيولوجي البحري. تونس تدير نحو 20 محمية بحرية مثل جزر كنيس، أرخبيل جاليت، جزر قوريا، وجزر زمبرا وزمبريتا، مع خطط توسعية تشمل محميتين جديدتين في جزيرة جربة بالشراكة مع المجتمع المدني والسلطات المحلية. مصر، من جانبها، تملك محميات بحرية على سواحل المتوسط والبحر الأحمر مثل رأس محمد في جنوب سيناء ومحمية السلوم على الساحل الشمالي، حيث تحظى الشعاب المرجانية والحياة البحرية بالتنوع الكبير، مع تطوير الحكومة للبنية التحتية للمراقبة البحرية باستخدام تقنيات الاستشعار عن بعد وأنظمة المراقبة الإلكترونية.
الشراكات الإقليمية بين تونس ومصر، التي تشمل تبادل الخبرات وتعزيز البحث البحري، تمثل خطوة استراتيجية لمواجهة تغير المناخ وحماية التنوع البيولوجي، مستفيدة من التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي لمراقبة المصايد ودعم الاقتصاد الأزرق.
على النقيض، لا تزال ليبيا تواجه تحديات كبيرة في بناء شبكة محميات بحرية فعالة، بسبب غياب البنية القانونية وضعف الدعم المؤسسي. خبير الموارد البحرية أسامة مفتاح يونس يؤكد في حديثه لـ”كوسموس ميديا“: “المحميات البحرية في ليبيا لا تزال في طور جمع البيانات، ولا يوجد حتى الآن محميات مغلقة بالكامل.” أما الباحثة سارة مبروك فتشير إلى أن الحديث عن المحميات البحرية بدأ منذ أربع سنوات، مع وجود ثلاث محميات حالية في عين الغزالة وقارة وزوارة، وأضافت: “مشروع تشايلد بالتعاون مع وزارة البيئة وسبارك والصندوق العالمي للطبيعة بدأ خطوات حديثة لإنشاء إدارات للمحميات، ويجب أن تكون هذه الإدارة مشتركة مع المجتمع المحلي لأنه المستفيد من الصيد.”
من الصيد الجائر إلى الإدارة الذكية: المحميات البحرية مستقبل البحر المتوسط
تمثل المحميات البحرية عنصرًا محوريًا لحماية التنوع البيولوجي في البحر الأبيض المتوسط، كما تشكل دعامة للسياحة البيئية المستدامة. غير أن فعاليتها تعتمد على استمرارية التمويل، والمشاركة المجتمعية، وتطبيق القوانين بشكل صارم لضمان حماية النظم البيئية بشكل حقيقي.
على المستوى الإقليمي، تدعم اتفاقيات مثل اتفاقية برشلونة إنشاء شبكة من المحميات البحرية بين الدول المتوسطية، مع وضع بروتوكولات واضحة لإدارة هذه المناطق. كما تلتزم الدول المعنية بحماية البيئة البحرية ضمن أطر قانونية وطنية ودولية، مصحوبة بمراقبة مستمرة لتقييم أثر هذه المحميات على صون الأنواع وموائلها.
لكن التحديات لا تزال كبيرة: الصيد الجائر، خصوصًا باستخدام شباك الجر التي تدمر قاع البحار، يمثل تهديدًا رئيسيًا. إلى جانب ذلك، يفاقم التلوث البلاستيكي والكيميائي المشكلة، بينما تؤثر التغيرات المناخية، مثل ارتفاع درجات حرارة المياه، على توازن هذه النظم البيئية الهشة.
كارول مارتيناز، المسؤولة السياسية عن شبكة المحميات البحرية المتوسطية، أكدت في حوارها مع منصة “كوسموس ميديا” أن “المناطق البحرية المحمية في المتوسط تغطي نحو 9% فقط من المسطحات المائية، وهو معدل غير كافٍ”، مشددة على أن المحميات المدارة جيدًا أظهرت تعافيًا ملحوظًا في مخزونات الأسماك، بما يعود بالنفع على المجتمعات المحلية والصيادين ضمن حدود القانون. وأضافت: “المحمية البحرية ليست فقط وسيلة لحماية البيئة، بل أداة للتنمية المحلية المستدامة.”
غياب التشريعات الصارمة: عقبة رئيسية
من أبرز التحديات التي تواجه المحميات البحرية ضعف الأطر القانونية أو غيابها في بعض الدول، ما يتيح تجاوزات الصيد غير المنظم والتلوث، ويحوّل مناطق الحماية إلى خطوط على الخرائط بلا فعالية.
ويؤكد الخبراء ضرورة وضع تشريعات واضحة تحدد ما هو مسموح وما هو ممنوع، مع تطبيق عقوبات رادعة تتراوح بين الغرامات المالية والإغلاق المؤقت وحتى العقوبات السجنية في الحالات القصوى. لكن القانون وحده لا يكفي؛ إذ يتطلب التطبيق وجود فرق مراقبة مزودة بالموارد والتقنيات الحديثة.
كارول مارتيناز توضح أن الحماية لا تتحقق بالورق وحده: “لتكون المحميات أدوات فعالة، يجب إدارتها عمليًا. وهذا يحتاج إطارًا قانونيًا واضحًا، وموارد بشرية ومعدات وسفن وأطقم مؤهلة بالخبرة اللازمة.”
بين النظرية والتطبيق، تظهر الحقيقة: المحميات البحرية ليست مجرد فكرة بيئية، بل مشروع عملي يحتاج إرادة، تشريع، وتنفيذ حقيقي، وإلا سيبقى البحر معرضًا للاستنزاف.
البحر ليس ملكًا لأحد… لكن مسؤوليته مسؤوليتنا جميعًا
تبدو آليات تطبيق القوانين داخل المحميات البحرية، وفق خبراء المجال، كعملية دقيقة لا تترك مجالًا للصدفة. فهي تقوم على منظومة مراقبة متطورة تمزج بين التكنولوجيا الحديثة—من طائرات دون طيار وأقمار صناعية—ودوريات خفر السواحل التي تراقب المياه عن قرب. ويتكامل هذا الجانب التقني مع دعم مالي وتدريب متخصص للجهات المسؤولة عن الإنفاذ، بينما يشكل رفع وعي المجتمعات الساحلية والمستخدمين البحريين خط الدفاع الأول ضد الانتهاكات. أما التنسيق بين المؤسسات الحكومية والمنظمات غير الحكومية، فيُعد الركيزة التي تمنح هذه الجهود قوتها واستدامتها.
وفي مواجهة التحديات المتصاعدة في دول حوض المتوسط، اتجهت بعض الحكومات إلى إجراءات أكثر صرامة، كفرض قيود مشددة على الصيد وتنفيذ برامج مراقبة مستمرة تعتمد تقنيات الاستشعار عن بُعد والأقمار الصناعية لضمان احترام القوانين. ولا يقتصر الأمر على الرقابة، بل يمتد إلى حملات التوعية البيئية التي تستهدف المجتمعات المحلية وتشجعها على المشاركة الفعلية في حماية بيئاتها البحرية. وفي هذا السياق، تظهر الشراكات بين الحكومات والمنظمات الدولية والقطاع الخاص كعنصر حاسم في تطوير استراتيجيات إدارة مستدامة لهذه المناطق الحساسة.
و تؤكد دراسات حديثة أن فعالية حماية المحميات البحرية لا تتحقق إلا عبر مقاربة تعاونية متعددة المستويات، تربط الجهود المحلية بالإقليمية والدولية. وتحظى هذه الرؤية بدعم مؤسسات متوسطية مثل برنامج العمل الإقليمي للبحر الأبيض المتوسط (SPA/RAC) وشبكة مديري المحميات البحرية المتوسطية (MedPAN)، اللتين تتيحان منصات للتنسيق وتبادل الخبرات والمتابعة الدورية. ووفق هذه المقاربة، تصبح المحميات أكثر قدرة على مواجهة التدهور وضمان مستقبل بيئي متوازن للأجيال القادمة.
وعلى ضوء ذلك، برزت الحاجة الملحة إلى تطوير تشريعات وطنية وإقليمية تنظم استخدام المحميات وتفرض عقوبات رادعة على المخالفين، مع توفير الموارد الكفيلة بتطبيق هذه القوانين. وتعتمد الإدارة الفعّالة على منظومة مراقبة موثوقة تجمع بين التقنيات الحديثة—من الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار—والدوريات الميدانية والتنسيق بين مختلف الجهات المعنية.
وبقدر ما تبدو التكنولوجيا أساسية، يظل العامل البشري محورياً. فتعزيز التعاون بين الحكومات والمنظمات المدنية ومشاركة المجتمعات الساحلية يشكل، بحسب الخبراء، مفتاح نجاح أي قانون وحجر الأساس لاستدامة المحميات. إذ تتطلب هذه المقاربة تكاملاً بين التشريع والتنفيذ والوعي المجتمعي لضمان عدم الإفلات من العقاب وصون التنوع البيولوجي البحري في المتوسط.
دول البحر الأبيض المتوسط تتحرك ببطء نحو فرض قوانين صارمة لحماية المحميات البحرية، لكن الوعي البيئي بات حقيقة واسعة تشمل الحكومات والسكان والصيادين. المستقبل البحري يعتمد على استراتيجيات متكاملة تجمع التمويل والسياسات البيئية والمشاركة المجتمعية، لتحويل الالتزامات إلى واقع يحمي التنوع البيولوجي ويضمن استدامة الموارد البحرية للأجيال القادمة.
مقال مبروكة خذير / فتحية خذير
مونتاج : صابرين نخيلي




