شهدت ولاية قابس، الواقعة جنوب شرقي تونس، موجة غضب شعبية تصاعدت وتيرتها منذ يوم الجمعة 23 ماي 2025، إثر حملة أمنية وصفت بـ”الشرسة”، طالت عددا من النشطاء البيئيين إثر مشاركتهم في وقفة إحتجاجية نظّمتها حملة “Stop Pollution“ بالتعاون مع مكونات المجتمع المدني وسكان الجهة.
طالبت الإحتجاجات بتفكيك الوحدات الصّناعية الملوّثة التابعة للمجمّع الكيميائي ورفض مشروع الهيدروجين الأخضر الذي يعتبره النشطاء البيئيون إمتداد لسياسات الارهاب البيئي والإستبداد الإقتصادي.
إعتقالات تصل لعشر سنوات سجن
على الرغم من سلمية التحرك، أسفرت التدخلات الأمنية عن اعتقال الناشط والعضو السابق في المكتب التنفيذي لجمعية “دمج” التونسية للعدالة والمساواة، محمد علي الرتيمي، وإثنين من شباب قابس، وسط شهادات موثقة عن تعرّضهما للعنف الشديد أثناء الاعتقال، وداخل مركز الإيقاف بمنطقة الأمن الوطني بقابس، باب بحر.
وقد صدرت بطاقات إيداع بالسجن، في حق محمد علي الرتيمي وشابين آخرين، حيث وجهت إليهم تهما وصفت “بالكيدية والخطيرة”، تصل عقوبتها إلى عشر سنوات سجنا، من بينها: “التواجد ضمن جمع من أجل إقلاق الراحة العامة”، “هضم جانب موظف عمومي”، “تكوين وفاق إجرامي”، و”الإستعصاء”.
وفقا لروايات المحامين، فإن محمد علي الرتيمي، العضو السابق في المكتب التنفيذي لجمعية “دمج” التونسية للعدالة والمساواة، لم يكن مجرد مشارك في التحرك الاحتجاجي، بل تدخّل لحماية أحد المواطنين الذين كانوا يتعرضون للعنف من قبل عناصر أمنية. إلا أن تدخّله تحوّل إلى سبب لإحتجازه تعسفيًا، حيث تعرّض هو نفسه لاعتداء جسدي عنيف، ثم نُقل إلى مركز الإيقاف حيث وُوجه بتعذيب ممنهج خلّف آثارا جسدية واضحة، مدعومة بتقارير طبية وشهادات قانونية موثقة.
وبعد أن طالب بحقه القانوني أثناء الإستجواب، تعرّض للضرب المبرح والإهانة، وفق ما أكده محاميه. وتأتي هذه الشهادات وسط تزايد الأصوات الحقوقية المطالبة بفتح تحقيق عاجل ومستقل، معتبرة ما جرى “جريمة تعذيب مكتملة الأركان” تستوجب المساءلة القانونية والمحاسبة الفورية لكل المتورّطين.
منظمات المجتمع المدني: لا صمت بعد اليوم
جمعيات ومنظمات من مختلف الجهات، على غرار حملة «Stop Pollution» وجمعية دمج، ندّدت بما وصفته بـ”الانتهاك الفادح لحقوق الإنسان” و”عودة ممارسات التعذيب في مراكز الأمن”، معتبرة أن التهم الموجهة للموقوفين لا تستند إلى معطيات قانونية جدية، بل تأتي في إطار ترهيب النشطاء ومحاولة خنق الأصوات المعارضة للسياسات البيئية الفاشلة التي أنهكت قابس لسنوات.
تطالب هذه الجمعيات بالإفراج الفوري وغير المشروط عن الموقوفين، وبإسقاط التهم الملفقة التي تعتبرها شكلا من أشكال الابتزاز ومحاولة الإفلات من المحاسبة، خصوصا في ظل وجود آثار تعذيب واضحة وموثقة.
كما دعت إلى فتح تحقيق جدي ومستقل في وقائع التعذيب والعنف، ومحاسبة كل المتورطين من الأمنيين، وفق الفصلين 101 و101 مكرر من المجلة الجزائية التونسية، وتحميل السلط الأمنية ووزارة العدل المسؤولية الكاملة عن سلامة الشابين الجسدية والنفسية، والقيام بالإجراءات اللازمة لحماية الشباب وكل المواطنين من هذه الممارسات التي تنتهك الكرامة الإنسانية.
في هذا السياق المحتقن، لم تتأخر منظمات المجتمع المدني في التجاوب مع ما يحدث. فقد دعت “جمعية دمج” إلى تحرك احتجاجي يوم الثلاثاء 27 ماي 2025 على الساعة السادسة مساءا أمام المسرح البلدي، تضامنا مع الشباب المعتقلين.
وتحت شعار #أطلقوا_سراح_شباب_قابس جاءت الدعوة كنداء إنساني وسياسي عاجل، في ظل ما يعتبره نشطاء “محاولات منهجية لإسكات الأصوات الحرة” في مدينة عانت طويلا من تلوث صناعي وتهميش تنموي.
وسط هذا التصعيد، يعود الجدل في تونس ليتناول المسافة الفاصلة بين المبادئ المنصوص عليها في الدستور والاتفاقيات الدولية التي التزمت بها الدولة، وبين الواقع العملي للممارسات الأمنية والقضائية. فرغم ما تنص عليه القوانين من حماية للحريات وضمان لحقوق الإنسان، تكشف أحداث قابس عن مفارقة عجيبة، حيث يقابل التعبير السلمي أحيانا بردود فعل قد لا تنسجم مع تلك المبادئ.
هذه المفارقة لا تختزل في واقعة بعينها، بل تطرح تساؤلات أوسع حول سبل تعزيز الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، وضمان بيئة تحترم فيها كرامة الإنسان في جميع الظّروف.
وفي هذا السياق، تبرز الحاجة إلى مراجعة جادة ومسؤولة، تُعيد الإعتبار لقيم الإنصاف والحوار، وتقرّب بين النصوص القانونية وتطبيقها على أرض الواقع، بما يعكس روح الديمقراطية التي اختارها التونسيون طريقا لهم.