فتحية خذير – كوسموس ميديا
نعيش خلال هذه الأيام على وقع مشهد الدمار في غزّة. نشاهد كل يوم أطفالا ونساء ورجالا يقتلون بدم بارد في كل لحظة.. باهظة هي ضريبة الحرب والدفاع عن الأرض والعرض.. فحتى البيئة والطبيعة في هذه الأراضي تدفع ثمن هذه الحرب -كما الإنسان- غاليا.
شوّهت قوات الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينيّة كل ما هو جميل.. ولن تقتصر هذه الحرب على عدد الشهداء والمجروحين والمشردين واللاجئين، لكنّها أيضا تترك موروثات بيئيّة سامّة للأجيال القادمة، لقد شوّهوا بأسلحة دمارهم الشاملة الحاضر والمستقبل فكيف يمكن أن تؤثّر الحروب في الطبيعة وكيف يمكن لها أن تبيد البيئة كما تبيد العباد؟
تدور في عدد كبير من دول العالم رحى الحرب، فوفقا لدراسة مرصد الصراع والبيئة بإنكلترا هناك منشآت عسكرية على مساحة 1 إلى 6 في المئة من اليابسة والبحار في كل العالم، وفي تلك الأماكن يتم استخدام مصادر الطاقة والمعادن والمياه بكثرة، كما يؤدي بقاء الجنود في حالة التأهب دائماً إلى إنتاج كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون.
وتستهلك المعدّات العسكريّة عامّة كميّات كبيرة من الطاقة التي تنتج بدورها كميّات مهولة من ثاني أكسيد الكربون التي تفوق انبعاثات دول بأكملها.
وأدى تحوّل القواعد والمنشآت العسكرية خلال الاشتباكات إلى زيادة التهديد للحياة الطبيعية في محيط تلك المنشآت التي تضر البيئة بالفعل، من خلال المخلفات الكيميائية والتلوث الضوضائي وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
ويعيش ربع سكان العالم اليوم في دول روتينها اليومي هو الحرب والقصف كما هو الحال في فلسطين وسوريا واليمن وأوكرانيا والسودان وهايتي ومنطقة الساحل وسط شرق وشمال إفريقيا بداية من مالي وغانا وبوركينا فاسو، وصولا إلى الصومال.
وتعتبر الحرب الدائرة في أرض فلسطين من أطول الحروب أمدا إذ لا زال قطاع غزّة مثلا اليوم يعيش على وقع الضربات العسكريّة الإسرائيلية التي لا تهدأ.. و قد اعتبر العديد من المتأملين في المشهد السريالي في قطاع غزّة منذ السابع من أكتوبر لهذا العام انّ ما يحصل اليوم هو إبادة جماعيّة لأهل القطاع وتدمير شامل لكل العناصر الطبيعيّة فيه.
الحروب في العالم وآثارها المباشرة على البيئة
بدأ استخدام المواد الكيميائية شديدة الخطورة لأول مرة خلال الحرب العالمية الثانية، إذ طور الكيميائيون الألمان خلال الحرب العالمية الأولى غاز الكلور وغاز الخردل، ولكن تطوير هذه الغازات خلال الحرب الموالية أدى إلى حدوث العديد من الإصابات، وتسممت الأراضي في ساحات القتال وبالقرب منها.
وفي وقت لاحق من الحرب العالمية الثانية صنع الكيميائيون قنابل كيميائية أكثر ضررًا، عُبئت في براميل ودُفنت في قاع المحيطات دون التفكير في خطر تآكلها أو تسرّب محتواها من المعادن الخطرة في المحيط. وأدّى كل ذلك الى تدمير النظم البيئية البحرية والبرية في دول الصراع آنذاك . ولقد قدّر التلوث النفطي الحاصل في المحيط الأطلسي بسبب حطام السفن خلال الحرب العالمية الثانية بأكثر من 15 مليون طن. وحتى يومنا هذا لاتزال آثار النفط الناتجة عن حطام السفن البحرية والتي حدثت خلال الحرب العالمية الثانية موجودة في المحيط الأطلسي.
لا تزال آثار القنبلتين الذريتين اللتين ألقيتا على هيروشيما وناكازاكي في اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية، وضررهما على البيئة مستمرا حتى اليوم، إضافة إلى عشرات الآلاف من الأرواح التي حصدتها القنبلتان في غضون ثوانٍ معدودة.
فخلال أول عشر ثوانٍ تسببت القنبلتان في مقتل أكثر من 70 ألف شخص في هيروشيما، وأكثر من 35 ألف شخص في ناكازاكي، كما أدت الحرارة العالية جدا الناتجة عن القنبلة والتي وصلت إلى 4 آلاف درجة مئوية، إلى القضاء على النباتات والحياة الطبيعية تماماً.
أما الحرب الامريكيّة في الفيتنام فتشير الأبحاث إلى أن آثارها لازالت إلى اليوم سببا في تشوهات خلقية لدى المواليد الجدد وبين أطفال الآباء المعرضين للعامل البرتقالي كما تم العثور في بعض المواقع على مستويات عالية للغاية من الديوكسينات في التربة والرواسب والأطعمة، وكذلك لبن الأم والدم.
وقد ربطت الأبحاث أيضًا استعمال المبيد “العامل البرتقالي” في الفيتنام بعدم استقرار الجينوم البشري (أو طفرات الجينوم) لدى البالغين والأطفال.
وأكّدت الباحثة بمتحف تاريخ الطبيعة بأمريكا “أليانور جان سترلينع” في كتاب “تاريخ الطبيعة في فيتنام” أن الجيش الأمريكي استخدم نحو 20 مليون غالون من المبيدات الكيميائية ما بين عامي 1961-1971 للقضاء على الغابات التي كان يختبئ بها مقاتلو الفيتكونغ.
وحتى الآن لم يعد الغطاء النباتي إلى حالته القديمة في الدول التي استخدم فيها الجيش الأمريكي المواد الكيميائية لتنظيف محيط قواعده العسكرية.
كما أن حشائش “ألانغ-ألانغ” التي ظهرت بسبب تأثير المواد الكيماوية المستخدمة والمعروفة باسم العشب الأمريكي، لا تزال تضرّ بالمناطق التي تتواجد بها.
وتسببت هذه المواد إضافة إلى 14 طن من الأسلحة الكيميائية والقنابل في إحداث 10 إلى 15 مليون فوهة بركانية، وفتحات في الأرض، لا زالت موجودة حتى اليوم.
إضافة إلى أن الغابات التي جفت والأنهار والجداول التي تلوثت مياهها بالمواد الكيميائية، تسببت في تشوهات جينية في الطيور وبعض الثدييات في المناطق المجاورة لتلك المناطق.
وأكّدت أيضا اللجنة الدولية في وثيقتها «المبادئ التوجيهية بشأن حماية البيئة الطبيعية»، انّ المجتمع الدولي يعاني من الدمار البيئي الذي خلفته حرب الخليج الثانية (1990-1991). وبعد مرور عقود على هذه الواقعة، هناك ملايين الأشخاص الذين تسببت الأضرار البيئية الناجمة عن النزاع في خروج حياتهم عن مسارها الطبيعي.
وأدّت الحرب الأمريكيّة على العراق وأفغانستان سنة 2001، إلى حفر الحرق المفتوحة المستخدمة للتخلص من نفايات الحرب مما أدى الى تعريض المدنيين للدخان والأبخرة السامة.
في اليمن أيضا وثق موظفو اللجنة الدولية حالات لانعدام الأمن المائي وكيفية تعريضه الصحة العامة والأمن الغذائي والاقتصادي للخطر.
وفي مالي والنيجر، شاهدت اللجنة الدولية كيف تتفاقم حدة العنف بفعل ندرة الموارد، إذا اقترنت بمحدودية آليات ضمان التقاسم المستدام والعادل للموارد.
وأدى القصف الإسرائيلي لمحطة كهرباء في لبنان عام 2006، إلى إرسال 110 آلاف برميل من النفط إلى البحر الأبيض المتوسط، مما أدى إلى مقتل الأسماك والسلاحف وتسبب في أزمة بيئية حادة في المنطقة.
ووفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أدت الضربات العسكرية الروسية على مصافي التكرير والمصانع الكيماوية ومنشآت الطاقة والمنشآت الصناعية في أوكرانيا إلى إرسال مواد سامة إلى الهواء والماء والتربة، وتقول إن بقايا الذخيرة والمركبات العسكرية المتضررة تحتوي أيضا على مواد سامة للناس والبيئة.
واليوم تؤكّد الأبحاث الطبيّة في غزّة وجود أحمال مرتفعة من المعادن الثقيلة لدى الأمهات والأطفال حديثي الولادة الذين تعرضوا لهجمات عسكرية، كما ارتبطت العيوب الخلقية بالتعرض للفوسفور الأبيض وقنابل أخرى تحتوي على معادن سامة ومسرطنة.
وتعاني غزّة على خلفيّة الضربات الجويّة العسكريّة لقوى الاحتلال الإسرائيلي على القطاع منذ السابع من أكتوبر من تلوّث جوي حاد أدى الى الشعور بحالة اختناق لدى الأهالي كما أدّى القصف بالصواريخ والقذائف إلى قطع قنوات المياه والتطهير وانقطاع الكهرباء وهو ما خلق أزمة تزوّد بالمياه الصالحة للشرب ودفع المواطنين إلى شرب مياه الآبار الملوّثة بالمواد الكيميائيّة والفسفور الأبيض الذي استخدمته قوى الاحتلال الإسرائيلي في قصفها لمنازل المدنيين.
تخلّف الأنشطة العسكريّة معادن ثقيلة ومواد كيميائيّة خطيرة منها الفسفور الأبيض والديكسينات والهالوجينات وغيرها من المواد المسرطنة.
وأدّت الضربات العسكريّة بالصواريخ والقذائف إلى كسر قنوات المياه وتعطيل خدماتها وخدمات الصرف الصحي والكهرباء. كما تتعدد العواقب التي تلحق بالبيئة. فقد أدّت الهجمات إلى تلوث المياه والتربة والأرض وإطلاق الملوّثات في الهواء. وتؤدي المتفجرات من مخلّفات الحرب إلى تلوّث التربة ومصادر المياه، وإلحاق الأذى بالحياة البرية. ويتدهور التنوع البيولوجي أيضا تدهوراً لا يمكن إصلاحه، مع اندلاع الحروب في المناطق الغنية بهذا التنوع.
فقطاع غزّة الذي يتعرّض للعدوان والقصف العسكري اليومي يتمتع بتنوّع الكائنات اليابسيّة، التي يتفاوت عددها من 150 إلى 200 نوع من الطيور، ويُوجد فيه حوالي 20 نوعًا من الثدييات، ونحو 25 نوعًا من الزواحف بمختلف أنواعها، فضلًا عن الكائنات البحرية المختلفة، إذ تتضمن نحو ثلاثة أنواع من البرمائيات (الضفادع)، وما يقارب 200 نوع من الأسماك المتوطنة والغازية.
أما فلسطين المحتلّة عامّة فإنّها من المناطق الفريدة والمميزة بتنوعها الحيوي الكبير بالرغم من صغر مساحتها، إذ تمتاز بطبيعة خلابة وتنوع كبير في الغطاء النّباتي والحيواني والناجم من التباين في النظم المناخية ومن الطبيعة الجغرافية أو الجيولوجية وكذلك من تنوع التربة واختلاف تراكيبها الجيولوجية.
وقد أوضحت سلطة جودة البيئة في فلسطين أن الأنواع الأحيائية في فلسطين تقدر بـ 51 ألف نوع تضم أنواعا حيوانية تقدر بـ 30904 نوعا منها اللافقاريات التي تقدر بـ 30 ألف، والطيور بـ 373 نوعا، والأسماك بـ 292، و92 نوعا من الثدييات، و82 نوعا من الزواحف، و5 أنواع من البرمائيات، أما الأنواع النباتية فتقدر بـ 2100 نوع مقسمة إلى 138 عائلة.
وبينت ذات الجهة أن فلسطين تضم عددا كبيرا من المحميات الطبيعية بلغت حوالي 51 محمية طبيعية مدرجة على المخطط الوطني المكاني، إضافة إلى حوالي 50 منطقة مصنفة بغناها بالتنوع الحيوي مدرجة على المخطط الوطني المكاني المقرر من مجلس الوزراء.
الآثار غير المباشرة
علاوة على الآثار المباشرة تؤدي الآثار غير المباشرة للحروب أيضا لانهيار الإدارة وتدهور نُظم خدمات الهياكل الأساسية والمزيد من التدهور البيئي.
وقد يؤدي نزوح السكان إلى استغلال بعض المناطق بطرق غير مستدامة، وهو ما يضع البيئة تحت وطأة ضغوط أكبر. ويسهم في استغلال الموارد الطبيعية بطرق غير مشروعة ومؤذية بغية دعم اقتصادات الحرب.
وفي ظروف معينة، قد تسهم التبعات التي يخلفها النزاع المسلح على البيئة أيضًا في إحداث تغير المناخ. فعلى سبيل المثال، قد يلحق أثرٌ ضار بالمناخ من جراء تدمير مساحات كبيرة من الغابات أو إتلاف المنشآت النفطية أو المنشآت الصناعية الكبيرة، بسبل مختلفة منها إطلاق كميات كبيرة من الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي.
تبقى الحروب في كل بلدان العالم سبب دمار البشر والحجر دمار تديره آليات عسكريّة حربيّة بإرادة إنسانية فما انفكّت الحروب يوما عن استنزاف جميع اقتصادات العالم وتدمّير بيئتها و العبث بطبيعتها وتنوّعها البيولوجي. ليست الحرب في النهاية سوى خرابا مضاعفا يضيف لخراب العالم خرابا آخر.. عالم يبدو انّه لن يتعافى أبدا من حمّى صنّاع الخراب.