لا يختلف اثنان اليوم على أن الوضع البيئي في تونس تدهور بشكل خطير وأصبح هاجسا يوميا ودافعا للنضالات ضد كل الانتهاكات. فبين قلة الموارد ونضوبها وبين التلوث بكل اشكاله وتحديات التغيرات المناخية وغياب العدالة البيئية، وبين غياب الوعي وقصور نظر صناع القرار في الأمور المتعلقة بكيفية حماية الموارد وضمان استدامتها، يظهر جليا الارتباط الوثيق بين ما هو اجتماعي وما هو سياسي وما هو بيئي وتتجلى بكل وضوح السياسات المتوحشة للدولة ومدى تأثيرها على الفئات الاجتماعية، خاصة منها الأكثر هشاشة، من جهة وعلى مواردنا الطبيعية من جهة أخرى.
ومن المؤكد اليوم أمام حجم التوتر والأذى الناجمين عن الانتهاكات البيئية بكل اشكالها أن النضال أصبح قدرا محتوم علينا افرادً وجماعات. وبات من الضروري المشاركة الفعلية في التغيير وانتزاع الحقوق بكل الاشكال النضالية الممكنة والآليات المتاحة. وهو ما درج عليه قسم العدالة البيئيّة بالمنتدى التزاما منه بالدفاع عن البيئة وعن الحقوق البيئية للإنسان وانخراطا فعليا في معركة تجاوزت حدود الأهداف الآنية لتدفع بالأمام نحو التغيير الفعلي لتوجهات الدولة ولاستدامة مخططاتها.
وكما جرت العادة منذ 2018 يصدر قسم العدالة البيئيّة للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية تقريره السنوي. ويمثل هذا التقرير عصارة التجربة الميدانية في مناصرة الحركات البيئية لفريق عمله في المركز والجهات. كما يقدم هذا التقرير أهم الحملات والأعمال التي قام بها خلال سنة كاملة من المناصرة لأصحاب الحقوق. وهو أيضا فضاء للتفكير والتدبّر والنقد والطرح يضع سياسات الدولة وممارساتها موضع تساؤل ونقاش ويسلط الضوء على وضعية حقوق الإنسان البيئيّة في تونس ومدى احترام الدولة لالتزاماتها.
ويرتكز هذا التقرير على وقائع ميدانية تشخص اشكاليات ملموسة عاينها فريق عمل العدالة البيئية وعمل على حلحلتها برفقة المعنيين والمعنيات بها مباشرة بعيدا عن كل اشكال التنظير والسفسطة. ويحتوي هذا العمل على أربعة أجزاء تقاسم أعضاء الفريق مهمة تأليفها.
فعن إشكاليات النفايات في تونس وتزايد بؤر التلوث وما انجر عنها من احتقان اجتماعي وتوتر عمق من معاناة الناس وكشف عجز السياسات البالية للدولة عن مجاراة الواقع وإيجاد حلول جذرية للأزمة. وعن التهديدات التي تواجه الموارد الطبيعية الحيوية وتؤثر على التنوع البيولوجي وتخل بالتوازن البيئي كالحرائق والصيد العشوائي والتلوث البحري. ومدى تدخل الدولة ومؤسساتها في الحد من الانتهاكات وردع المخالفين. وعن أزمة العطش وتلوث الماء بأغلب جهات البلاد ونضوب الموارد المائية جراء التغيرات المناخية وسوء التصرف وتعطل مسار الإصلاح الهيكلي والمؤسساتي الذي ناضل من اجله التونسيون والتونسيات لعقود من الزمن. تحدثكم رحاب المبروكي ومنيارة مجبري في الجزء الأول الذي جاء تحت عنوان “أزمة تونس البيئية سياسات مغلوطة وتعثر في التعاطي مع الملفات الخضراء: ألم يحن الوقت لتحقيق الصلح مع المحيط؟”
وفي نفس السياق، يقدم لكم محمد قعلول في الجزء الثاني للتقرير الذي يحمل عنوان “وحدات انتاج وصناعيون يستنزفون الموارد ويكدسون الثروة على حساب البيئة” جردا لأهم الوحدات الصناعية المنتشرة في عدة ولايات تنتهك البيئة وتستنزف الموارد الطبيعية ولا تحترم محيطها كما لا تلتزم بمبادئ حماية البيئة المنصوص عليها في القوانين الوطنية والدولية.
وعن الجدلية القائمة بين البيئة وحقوق الانسان والعلاقة بينهما، وعن مجموع الآليات والضمانات القانونية الوطنية والدولية الكفيلة بتحقيق العدالة البيئية، تقدم لكم حياة العطار في الجزء الثالث الذي اخترنا له عنوان “إعمال الحقوق البيئية في تونس، بين منظومة قانونية ثرية وواقع مأزوم” قراءة في المنظومة القانونية الوطنية والدولية الملزمة بها بلادنا والمعيقات التي تحول دون إنفاذها وتعمق حجم الهوة بين ما هو واقعي ملموس وما هو نظري. وفي إطار طرح الحلول والبدائل تقدم لكم المؤلفة في نهاية هذا الجزء لمحة عن أهمية التقاضي البيئي كاستراتيجية فعالة لإعمال الحقوق ولخلق فقه قضائي ناجز استئناسا بتجربة القسم في مناصرة القضايا البيئية وخوض مسار قضائي كلما استنفذ المسارات النضالية الأخرى كالاحتجاج والتفاوض.
ومن هنا عمل رابح بن عثمان في الجزء الأخير من التقرير الذي جاء تحت عنوان “مجتمع مدني يقاوم من أجل العدالة البيئيّة” على تسليط الضوء على الدور الفعال للمجتمع المدني وللحركات البيئيّة وللفاعلين فيها في التصدي للانتهاكات، وكشف التجاوزات، والإستماتة في الدفاع عن الحقوق المشروعة، واعتماد كل الآليات في سبيل تحقيق عدالة بيئية تتلاءم مع متطلبات التنمية المستدامة وتحقق الانصاف في توزيع الموارد بين الجميع دون تمييز. وبهذا أبرز رابح بن عثمان أهمية المجتمع المدني كقوة اقتراح وجزء من الحل وجب على صناع القرار الاستئناس بتجربته وعدم التغاضي عن مبادراته ومقترحاته.
المصدر: قسم العدالة البيئية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية