تحقيقاتسليدير

الأمن الغذائي والغذاء الآمن.. هل باتت المعادلة صعبة؟

راضية الشرعبي- كوسموس ميديا – قشرة برّاقة ولون يغري الناظر ويسحر كل من يمرّ بجانبها. تفنّن الجميع في عرضها في الأسواق وفي الاعتناء بها في الحقول. تناولها يلعب دورا هاما في الحفاظ على الصحّة والوقاية من الأمراض، إنها الفواكه والخضراوات. ولكن لا تحكم على الكتاب من غلافه…

عودة شحنة “برتقال مالطي” من فرنسا إلى تونس لم يكن خبرا عاديا تناقلته عديد المواقع الإخبارية وصفحات التواصل الاجتماعي، فقد طالب موقع “رابل” الفرنسي الرسمي للمنتجات الخطيرة بتاريخ 17 فيفري 2023، المتاجر بتجميعه وسحبه، كما طالب المواطنين بإتلافه وعدم تناوله. وجاء في التحذير أن هذا البرتقال قد تجاوز الحدود القصوى لمخلّفات الأدوية الفلاحية. 

تقرير ثاني في الموقع ذاته بتاريخ  7 مارس 2023، جاء فيه أن شحنة “برتقال مالطي” تونسي يحتوي على مادة “كلوربيريفوس” الممنوعة في الاتحاد الأوروبي لخطورتها على صحة الإنسان، وقع التحذير منها وسحبها. 

المعلوم أن جميع المنتوجات المعدة للتصدير تخضع للمراقبة الصحية للكشف عن مدى تطابقها مع المعايير، وبرغم نظام المراقبة للمنتوجات المعدّة للتصدير، تبيّن وفق ما نشر في هذين التقريرين وجود منتوجات فلاحيّة لا تحترم معايير السّلامة الصّحّيّة.

 يوثّق هذا التحقيق غياب مراقبة الحد الأقصى لمخلفات الأدوية والمبيدات الفلاحيّة على المنتوجات في الحقول وفي الأسواق، وانعكاس ذلك على سلامة المنتوجات الفلاحية التونسية المعروضة للاستهلاك، في ظل عدم التزام الفلاحين بـ”الاستعمال الرشيد” مما يتسبّب في أضرار صحّيّة للمواطنين وللبيئة.

كما يوثّق التحقيق تواصل استعمال أدوية ومبيدات فلاحية ممنوعة في الاتحاد الأوروبي منذ 2018.

غياب التأطير والمراقبة  

بعد جولة مطوّلة بين حقول ومزارع مدينة السبيخة من ولاية القيروان حططنا الرحال عند العم عبد الحميد، كان منهمكا في تعديل غطاء إحدى البيوت المكيّفة “المحميّة” بعد أن عبثت بها الريح القوية يومها. تعالى نباح كلاب الحراسة رغم مرافقته لنا حتى وصلنا إحدى البيوت البلاستيكيّة واختفينا تحت غطائها. خطوط طويلة من نبات الطماطم مصطفّة بعناية تامّة تتدلّى منها أغصان حبلى بحبّات طماطم حمراء براقة اللون كبيرة الحجم. ظل العم عبد الحميد يحدّثنا عن مصاريف الفلاّح وغلاء سعر الكهرباء التجاري، قاطعناه: “ما السرّ وراء هذا الحجم وهذا اللّون وهذا البريق؟”

حدّق قليلا ثم نظر إلى صابة الطماطم الجاهزة للقطاف وأجاب: “ليس من السهل الحصول على هذه النتيجة، نحن نعتني بها كالطفل الصغير نرعاها بالماء والدواء من المنبت إلى القطاف، حجمها كبير بالدواء.. نحن نداويها كل أسبوع”.

محمد الزين ذو الثلاثين سنة، الابن الأكبر للعم عبد الحميد يقاطع حديث والده وهو يضبط عراجين الطماطم: “لا أحد يزورنا هنا، ولا أحد يتفقّد مزروعاتنا إلا مرة في السنة للقيام بعمليّة الإحصاء… أبيع صابتي هنا على عين المكان أو في بعض الأحيان أحملها إلى أسواق ومحلات قريبة”. سألناه: “في حالة ما قدّم لك التاجر  سعرا مناسبا وكانت الصّابة حديثة المداواة هل تنتظر مرور الفترة المطلوبة أم انك تبيعها؟”. أجاب: “عندما أجد ربحي أبيع ولا انتظر، عادة ما يكون  التاجر في عجلة من أمره وأنا أيضا في حاجة لتغطية مصاريفي”.

الإفادات ذاتها تكررت على لسان العم محمد وهو فلاح في العقد الستّين أصيل منزل بوزلفة من ولاية نابل، أين تنقلنا إلى حقول البرتقال المترامية الأطراف، إذ اعتبر أنه لا يمكن احترام فترة الأمان للتخلّص من الرواسب التي قد تبقى إلى حدود ثلاثة أشهر. يقول إن “الكلمنتين”، وهو نوع من أنواع القوارص، يكون جاهزا للاستهلاك في شهر أكتوبر، وتتم مداواته في شهر أكتوبر وجنيه في العشرين منه، وإن الفلاّح لا يمكنه انتظار أشهر لكي تمتص الشجرة رواسب الأدوية، فذبابة الفواكه تجبر الفلاح على مداواة الشجرة  خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة.

واصلنا طريقنا إلى حقول الفراولة صحبة رئيس مخبر البيوتكنولوجيا التطبيقيّة في المبيدات الفلاحيّة بمعهد البحوث الزراعيّة، الدكتور محمد رابح الحجلاوي، تحدّثنا معه مطوّلا عن الآفات والأمراض التي تصيب المحاصيل، وعن مبيدات الآفات وإرشادات استعمالها، فقال: “إن الفراولة من الغلال سريعة التلف لذلك هي تحتاج إلى مداواة متواصلة، وطيلة 25 سنة خبرة في هذا المجال، لاحظت أن الفلاّح يجد نفسه مجبرا على المداواة اليوميّة وأغلب الفلاحين لا يحترمون فترة الأمان”.

زرنا العم عمر من مدينة قربة وعاينا عمليّة جمع الفراولة ونقلها إلى سوق بئر القصعة وتحدثنا مع العاملات هناك. إحداهنّ قالت: “قمنا بالمداواة يوم أمس ونجمع اليوم وهاهم العمّال يأكلونه ولا خوف عليهم”. 

انتظرنا العم عمر إلى حين عودته من السوق، وعندما التقيناه قال لنا “إنه لا ضرر من الأدوية طالما أنه مصرّح بها. وأضاف أنّه قام بعملية المداواة منذ ثلاثة أيام بمبيد حشري وأنه يقوم بالجمع ولا ضرر في ذلك”.

تنقلنا إلى الشركة التونسية لأسواق الجملة ببئر القصعة حيث اصطفّت شاحنات الخضروات محمّلة بالخضار والغلال. تحلّق الجميع حولنا للحديث عن معاناة الفلاح، حينما مرّ بجانبنا تعالت الأصوات وأشاروا عليه “إنه المحظوظ لهذا اليوم لقد باع الكيلو فراولة بعشرة دنانير”. كان ذلك في بداية موسم الفراولة أول أيام شهر رمضان.

كانت تبدو عليه علامات التعب والإنهاك، وجه أغبر وشعر أشعث. أدار وجهه عنهم مهمهما “إلي ما يعرف يقول سبول” (مثل شعبي يعني أن من لا يعرف حقيقة الوضع يقول إنه جميل)، رفض في البداية الحديث إلينا ثم قال “ومع ذلك بالكاد استطعت تغطية مصاريفي.”

يواصل نوفل وهو فلاح من مدينة الصمعة من ولاية نابل حديثه: “أزرع 15 هكتارا من الفراولة، أنفق قرابة الثلاثة آلاف دينار شهريّا على الأدوية للقضاء على الأمراض التي تصيبه”. وكرّر محمد العبارة ذاتها التي جاءت على لسان العم عبد الحميد: “أراعيه مثل الطفل الصّغير وأضع له الدواء يوميّا. بخبرتي لست بحاجة إلى توجيه، لا أذهب إلى أحد ولا أحد يأتي اليّ”.

الشركة التّونسيّة لأسواق الجملة ببئر القصعة تمثّل قاعدة تجارية كبرى للمنتوجات الفلاحيّة الطازجة تزوّد كل من إقليم تونس الكبرى وكامل ولايات الجمهورية. سجلت واردات يوم السبت الخامس والعشرين من شهر مارس، يوم زيارتنا للمكان، 1045 طن من الخضار، و770 طنا من الغلال، و96 طنا من المنتجات البجريّة. تدخل هذه الواردات يوميا، فإما يبيعها الفلاح إلى التاجر على عين المكان وتدخل مسالك التوزيع أو يسلمها إلى وكيل للبيع.

رسم بياني لواردات سوق الجملة ببئر القصعة من الخضر والغلال والمنتجات البحرية خلال يوم واحد

زهير قرطاس، فلاح من شط مريم من ولاية سوسة كعادته كلما تجهز صابة الفلفل والبطاطا والطماطم يجمعها ويجلبها إلى بئر القصعة. أكّد وجود حملات مراقبة ظرفية مرتبطة ببعض الآفات التي يتم متابعتها فيما عدا ذلك فالخبرة كفيلة حسب رأيه للتعاطي مع الأدوية والمبيدات الفلاحية. “هناك أدوية لا تمثل مصدر خطورة لو قمنا بالمداواة وبعد يوم واحد نقوم بالجمع. وهناك من نصبر عليها أسبوعا”. وتساءل زهير:”هل أن المنتجات التي يجلبونها من مصر يقومون بتحليلها؟” 

علي من أولاد الشامخ من ولاية المهدية فلاح شابّ يجلب طماطم الباكورات، يقول إنه:” لم يلتق يوما طبيب السوق ولم تقع مراقبة صحيّة على منتوجه قبل بيعه، وفي بعض الأحيان يسلمه وكيل البيع شهادة تثبت تعفن بضاعته والتخلص منها.”

تواصل الشاحنات تفريغ حمولتها لتنقلها شاحنات أخرى في اتجاه الأسواق والمحلات وتتواصل جولتنا بين أروقة السوق. التقينا العديد من الفلاحين من أماكن عدّة من ولايات المهديّة وسوسة ونابل والمنستير، كما التقينا وكلاء للبيع وبعض العمال وتواصلنا مع عديد الفلاحين في أراضيهم حيث تنقلنا إليهم، وقد أكّد الجميع غياب هياكل المراقبة، وأنه لم يحصل يوما أن تم أخذ عينات من محاصيلهم للتثبت من سلامتها لا من أراضيهم ولا من السوق المركزية قبل بيعها، وأن حملات المراقبة تهتم فقط بإحصاء المحصول تارة وتتبع بعض الآفات الجديدة تارة أخرى، كما أكد لنا الجميع تعامله الذاتي مع الأدوية بدرجة أولى ثم مع الموزع بدرجة ثانية.  

واعتبر غالبيّة من تحدثنا إليهم أن فرق المراقبة الصحية بالسّوق المركزية تتدخل فقط لمعاينة المنتوجات التي تتبقى لدى وكيل البيع والتي قد تتعفن قبل البيع فيتم معاينتها وتسجيلها للتخلّص منها وتوثيق ذلك للفلاح. وفي سؤالنا عن خطورة المبيدات اعتبر الغالبية أنها خطرة على النبتة والإنسان واعتبر جزء آخر أنها طالما متوفّرة في السوق ومصرّح باستعمالها فلا ضرر منها. كما أجمع أغلبية المستجوبين أنهم لا يبيعون صابتهم بصفة دورية بالسّوق المركزية بل قد تتم عملية البيع إما على عين المكان أو في أقرب سوق أسبوعية لتفادي  مصاريف التنقل والأداءات بالسوق المركزية.

تقول ابتسام وهي مهندسة فلاحية وتعمل في إحدى محلات بيع وتوزيع الأدوية الفلاحية إنه من خلال احتكاكها اليومي بالفلاحين البعض منهم لا يلتزم بالإرشادات والجرعة المناسبة، فيقوم بالمداواة ويعتقد أن الزيادة في الجرعة قد تعطي نتيجة أفضل وهذا غير صحيح طبعا، حسب تصريحها.

تواصل توريد أصناف عدة من مبيدات الآفات وقد سجّل تراجعا مقارنة بسنة 2020، التي سجّلت توريد 6.778.316 طنّا في حين تم توريد 4.161.201 سنة 2022 . ويعود ذلك بالأساس إلى تراجع الطلب على هذه المبيدات نظرا لما يتميّز به الموسم الفلاحي من غياب الأمطار، وفق ما اكّده كاهية مدير المدخلات والمنتجات الفلاحيّة بوزارة الفلاحة شعبان موسى، فالكمّيات مرتبطة بالعرض والطلب، حسب تعبيره.

رسم بياني حول تطور كميات المبيدات الفلاحية الموردة بين سنتي 2020 و2022

 منظمة الصحة العالمية أحصت أكثر من 1000 نوع من مبيدات الآفات يجري استخدامها في جميع أنحاء العالم لضمان عدم تضرر المحاصيل الغذائية أو تلفها بسبب الآفات. ولكل مبيد من هذه المبيدات خصائص مختلفة وآثار سميّة متباينة. ولحماية مستهلكي الغذاء من الآثار الضارة لمبيدات الآفات، تتبّع منظمة الصحة العالمية آثارها وتضع الحدود القصوى المقبولة دولياً لمخلفات هذه المبيدات. 

منظمة الأغذية والزراعة الاممية وضعت  مدونة السلوك الدولية عن توزيع المبيدات واستعمالها وأوصت الحكومات بأن تتحمّل المسؤولية العامة عن تنظيم توافر المبيدات وتوزيعها واستعمالها في بلدانها، ويجب عليها أن تخصص الموارد الكافية لإنجاز هذه المهمة.

قانون عدد 25 لسنة 2019 والمؤرخ في 26 فيفري 2019، والمتعلق بالسلامة الصحية للمواد الغذائية وأغذية الحيوان، تضمّن جملة من الضوابط  القانونية للمخالفات إذ نص في فصله الـ21 على أنه يمكن اتخاذ قرارات في الجوانب المتعلقّة بالخصائص الجرثومية للمواد الغذائية وأغذية الحيوانات وبالتركيبة والخصائص الفيزيوكيمائية والبيولوجية والحسية والعناصر النافعة والتأشير والمضافات والملوثات وبقايا المبيدات .

وتقوم تونس كغيرها من البلدان بضبط قائمة نهائية معتمدة للمبيدات والأدوية الفلاحية والتي عادة ما يتم تحيينها إثر انعقاد لجنة وطنية للمصادقة عليها وفقاً لنوع الآفات التي من المفترض مكافحتها وقد تمّ تنقيحها بتاريخ 8 جوان 2022، مثلما هو منشور على موقع البيانات المفتوحة لوزارة الفلاحة. في حين أننا تحصلنا على قائمة جديدة تمّت المصادقة عليها بتاريخ 27 ديسمبر 2022، ولم يتم نشرها بعد على الموقع الرسمي.

تحتوي هذه القائمة على مواد خطرة وضارّة تم حظرها في بلدان أخرى وخاصة في بلدان الاتحاد الأوروبي منذ 2018. وقد انعقدت جلسة يوم 8 ديسمبر 2021، خصصت لدراسة المسألة، ولم ينص محضر الجلسة حينها على سحب هذه المبيدات من السوق التونسية بل مواصلة النظر ودراسة إمكانية سحب بعض المواد الفعالة لمبيدات تم منع تداولها في دول الاتحاد الأوروبي منذ 2018. ولم يتم إصدار أي قرار من وزير الفلاحة بسحب 33 نوعا من المبيدات المحظورة. تأكدنا من ذلك من خلال مطلب نفاذ للمعلومة من المصالح المختصّة بوزارة الفلاحة.

يشرف فريق مكلف من الإدارة الفرعية لحفظ الصحة بالسوق المركزية ببئر القصعة على المراقبة الصحية للمنتجات المعروضة وأخذ العينات للتحليل السريع بالمخبر على عين المكان تهمّ خاصة وبالأساس منتوجات البحر بما أنها سريعة التلف. 

كاهية مدير إدارة الاستغلال بالشركة التونسية لأسواق الجملة ابراهيم بن إبراهيم أكّد أنه يقع أيضا مراقبة الخضروات والغلال لمعاينة التالف منها بحكم التخزين والتخلص منها يوميا. وأشار إلى القيام بتحاليل لبعض العينات إذا ما لوحظ ما يستدعي ذلك، ويتمّ حجز البضاعة إلى أن يتمّ التأكّد من سلامتها.

الإطار بحفظ الصحة بسوق الجملة رشيد الأسود، وهو مراقب صحّة، أكد أنّ الإطارات الصحّيّة تلاحظ بالعين المجرّدة كل ما يخص التعفن وهناك إمكانية أخذ عينة للتحليل لمخلفات المبيدات والأدوية الفلاحية. وفي حال تسجيل تجاوز للمعايير المسموح بها، يقع تتبع الفلاح بالتنسيق مع الإرشاد الفلاحي لتوعيته وإرشاده لمخاطر الاستعمال المكثّف للمبيدات. “في الاثناء يتم توزيع المنتوج محل النّظر ولا يقع انتظار نتائج التحليل الذي يتطلّب يومين لكي تجهز نتائجه لغياب مخبر تحليل سريع بالمكان”، وأضاف الأسود أنه لا يستطيع إيقافه أو حجزه بل يدخل مسالك التوزيع ويتمّ بيعه ويصعب السيطرة عليها بعد توزيعها، ولم يسبق أن حجز منتج إلا في مرات قليلة، وفق تصريحه.

إطار بإدارة حفظ الصحة بسوق الجملة يتحدث عن عمليات إخضاع المنتوجات الفلاحية لتحليل مخلفات المبيدات والأدوية الفلاحية

المعادلة الصعبة

أجمعت تقارير لمنظمة الأغذية والزراعة على ازدياد استعمال المبيدات والأدوية الفلاحية لتحسين الإنتاجية وذلك بحمايتها من الحشرات والأمراض وعلى ازدياد نسبة التسمم لدى كافة الكائنات الحية. ولتفادي ذلك أوصت المنظمة بالاستخدام السليم لها مع مراعاة الإرشادات الخاصة.

 عادل بلار، مهندس فلاحي وصاحب متجر توزيع أدوية ومنتجات فلاحية يقول إن تعاطي الفلاحين مع الأدوية يختلف حسب تجربته ووعيه بها ومدى تقيده بالإرشادات والجرعة المناسبة، ويضيف أن الإشكال ليس في استعمال الأدوية وإنما الإفراط في استعمالها لأن أغلب الفلاحين يبيعون محاصيلهم قبل انقضاء فترة الأمان وهي الفترة التي تتيح فرصة لامتصاص الأدوية من قبل المحصول. ويلفت في حديثه إلى أن بعض المبيدات تعتبر جهازية وتدخل في عصارة النبتة وتركيبتها، وهي في الغالب تحتاج لوقت أطول لتتفكك وتزول متبقياتها ولا يمكن أن تزول بالغسيل.

تقرير صادر عن جمعية التربية البيئية للأجيال القادمة سنة 2020، قام بتعداد مجموعة مبيدات الآفات شديدة الخطورة والتي يتمّ تداولها في تونس رغم أنها كانت من بين الدول التي اقترحت خلال الاجتماع الثالث الدولي لإدارة المواد الكيميائية سنة 2012،  بالحظر التدريجي لها واستبدالها بالمبيدات الأكثر أمانا. ووفقا لخبراء منظمة الصحة العالمية قد يفسِّر استخدام مبيدات الآفات شديدة الخطورة جزئيا الزيادة في أمراض السّرطان الملحوظة في تونس، وفق ذات التقرير.

الوكالة الوطنيّة للرقابة الصحيّة والبيئية للمنتجات أصدرت سنة 2013، تقريرا أشارت فيه إلى أنّ  استهلاك بعض المواد الغذائيّة الملوّثة بمخلّفات المبيدات يمكن أن يكون له تأثيرات سامّة مزمنة مختلفة كالأوروام والغدد الصّمّاء والمناعية والعصبية. 

أصدقاء الأرض في أوروبا، وهي أكبر شبكة بيئية في القارة تضم أكثر من 30 منظمة وطنية مع آلاف المجموعات، قالت في دراسة بعنوان حقائق ومعلومات حول المواد الكيمائية السامة في الزراعة” صادرة سنة 2022، إن هناك عواقب وخيمة للاستعمال المكثف للمبيدات الفلاحية وهي الغثيان والقيء أو الإسهال، وفي حالة التسمم الخطيرة يمكن أن يتوقف القلب أو الرئتين أو الكلى عن العمل، ويتعرّض المزارعون إلى خطر أكبر فيما يتعرض الأشخاص العاديون خارج القطاع أيضا إلى مخاطر.

ووفق الدراسة نفسها فقد صنفت الوكالة الدولية لأبحاث السرطان، وهي وكالة حكومية وتشكل جزءا من منظمة الصحة العالمية، ” الغيلوفوزات” (Glyphosate) سنة 2015، على أنه من المحتمل أن يكون مادة مسرطنة للبشر وذكرت معه “الميلاثيون” (malathion). 

وأوردت شبكة أصدقاء الأرض في أوروبا، في التقرير ذاته، أن دراسة علمية جامعية أجرتها جامعة واشنطن سنة 2019، بيّنت أن ّعدد الإصابات بسرطان الغدد الليمفاوية  لدى الأفراد قد زاد بنسبة 41 بالمئة بسبب تعرضهم لمبيدات الأعشاب القائمة على “الغليفوزات”. 

ووفقا لمراجعة علميّة نشرت في مجلّة «De Gruyter» سنة 2020، تحتوي على عديد الدّراسات التي أجريت على مرّ السنين حول العلاقة بين استخدام المبيدات وتأثيرها على صحة الإنسان وخاصّة في ظهور السّرطانات، لخّصت هذه المراجعة الدراسات المنشورة في العديد من المجلاّت العلميّة مثل “PubMed” و “Scopus”، حيث يمكن ملاحظة عدّة أنواع من السرطان وهي سرطان الرئة مما يدل على أن  مستخدمي مبيد الآفات “كلوربيريفوس” أكثر عرضة للإصابة بهذا السّرطان من الأشخاص الذين لا يستخدمونه وربما حدثت أنواع اخرى من السّرطانات مثل سرطان البروستاتا والقولون. دراسة أخرى نشرت في  مجلة “Science of the total environment” يصف الآثار المرتبطة بالتعرّض لمبيدات الآفات التي يمكن أن تكون الإصابة بالسّرطان أو الربو أو اللوكيميا أو مرض الباركنسون. وتناولت عديد الدراسات  المنشورة تأثير المبيدات على صحة الإنسان.

الأستاذ في جراحة الأورام بمعهد صالح عزيز الدكتور حاتم بوزيان أكد أن المشكلة تكمن بالأساس في الاستعمال الاعتباطي لهذه الأدوية وفي المسالك المجهولة وغير المراقبة، وشدد على ضرورة مراقبة المواد المستعملة واحترام الكميات والجرعات حتى نتفادى الأمراض السرطانية. يقول المختص ان هذه المواد ليست دائما مسرطنة إذا ما تم احترام الكميات والجرعات، مبينا أن عملية غسيل الخضروات والفاكهة ليست دائما الحل لانه هناك أدوية تدخل في تركيبة جهاز الثمرة ولا يمكن التخلص من خطورتها.

منظمة “انرثيد” (Unearthed) وهي منظمة سويسرية غير حكومية كشفت نهاية مارس الماضي عبر وثائق حصلت عليها تواصل تصدير مبيدات ” الكلوبيريفوس ” من طرف الشركات الأوروبية بكميات كبيرة بعد ثلاث سنوات من حظره على أراضي الاتحاد الأوروبي إلى دول مثل تونس وبنغلاديش وكوستاريكا.  وقد جاء الحظر على إثر الأدلة العلمية التي كشفت صلتها بتلف الدماغ لدى الأطفال والأجنّة، وأشارت الأبحاث وفق ما جاء في التحقيق ذاته، إلى أن التعرض للكلوربيريفوس يؤذي الأطفال الصغار والرضع في الرحم. ربطت الدراسات بين التعرض قبل الولادة للمادة الكيميائية وتأخر النمو والتوحد وانخفاض معدل الذكاء. ووجدت إحدى الدراسات أنه كلما زاد تعرض الأم للمادة الكيميائية أثناء الحمل، انخفض معدل ذكاء طفلها في سن السابعة. 

وبالعودة إلى قائمة المبيدات والأدوية المصرح بها في تونس نجد أن “الكلوربيريفوس” وبعد سحبه من السوق الأوروبية لا يزال في القائمة النهائية بعد تنقيحها وهو من بين الأسباب التي أدت إلى حظر شحنة البرتقال المالطي التونسي  وسحبها من الأسواق.

المهندس رئيس وكاهية مدير المدخلات والمنتجات الفلاحية بالإدارة العامة للصّحّة النباتيّة ومراقبة المدخلات الفلاحية شعبان موسى أكّد أن عملية السحب تخضع لمعايير يتمّ اعتمادها وتهم بالأساس مدى توفّر بدائل المواد المسحوبة.” فتونس ملتزمة بما جاء في الاتفاقيات الدولية والقائمة المنشورة في ملاحق هذه الاتفاقيات”. في حين يعتبر الاتحاد الأوروبي شريك استراتيجي وعملية التوريد تتمّ بالموافقة المسبقة. ويرى موسى أن مسألة الأمن الغذائي والمحافظة على المنظومات الفلاحية مسالة مفصلية في عمل هياكل الدولة وقد تحافظ الدولة على بعض المبيدات الخطرة وتقوم بالإشراف على استعمالها في الحملات الوطنية ضدّ الآفات.

تهديد للبيئة والتنوّع البيولوجي

علي المثلوثي شاب ثلاثيني من مدينة بير بورقبة بالحمامات. انتقل حديثا بحثا عن التربة الجيّدة والغنيّة. يقول: “إن الاستخدام الكثيف للأدوية يضعف التربة، فالأرض لا تستجيب مهما اعتنينا بها”. يقوم بزراعة الفراولة ويبيعها على عين المكان دون التنقل بها إلى أسواق الجملة. 

تستخدم مبيدات الآفات لقتل الآفات ومكافحة الأعشاب الضارة باستخدام المكونات الكيميائية، وبالتالي، يمكن أن تكون سامة للكائنات الأخرى، بما في ذلك الطيور والأسماك والحشرات المفيدة والنباتات غير المستهدفة، وكذلك الهواء والماء والتربة والمحاصيل. وهو ما أثبتته مراجعة علمية تم إجراؤها في عام 2021، تم تسليط الضوء فيها على مصير هذه المواد الكيميائية في الطبيعة. وجاء في الدراسة أن أكثر ما يثير الاهتمام هو تلوث البيئة الذي تسببه هذه المكونات، وهو ما يؤدي إلى اختلال التوازن في النظام البيئي الطبيعي. فعلى مستوى الماء، لوحظ وجود هذه المواد الكيميائية في المياه السطحية ويمكن أيضًا أن تصل إلى المياه الجوفية من خلال الجريان السطحي أو التسرب من الأرض. وبالنسبة للتربة فقد يؤدي تحللها بواسطة الكائنات الحية الدقيقة الموجودة بشكل طبيعي في التربة إلى إنتاج مخلفات ثابتة يمكن أن تكون أكثر سمية من المبيدات نفسها والتي يمكن أن تخل بالتوازن الطبيعي ويمكن أن يستهلكها الإنسان أيضًا من خلال الغذاء. وفيما يخص الهواء، فالرذاذ ينتشر في الهواء ويتسرب مع الغبار أو الأمطار على النباتات والتربة والماء.

ترسبات الأدوية من يراقبها؟

راسلنا الهيئة الوطنية للسلامة الصحّيّة للمنتجات الغذائية الجهاز الرقابي الوحيد لمراقبة السلامة الصحّية  والسلامة النباتيّة وجودة المنتوجات الغذائية المعدّة للاستهلاك وفق قانون عدد 25 لسنة 2019، للوقوف على عملها وطريقة مراقبة مخلفات الأدوية الفلاحية في المنتجات المعدّة للاستهلاك المحلّي منذ شهر فيفري الماضي عبر المكلف بالإعلام بالهيئة السّيد شكري النفطي وبعد وعود خاوية تواصلنا مع المكلف بالإعلام بوزارة الصحة وتحصّلنا على الموافقة بإجراء المقابلة مع المدير العام للهيئة السّيد محمد الرّابحي الذي رفض مقابلتنا والإجابة على أسئلتنا .

قدّمنا في الأثناء مطلب نفاذ إلى المعلومة للاطلاع على التقارير الرقابية ومجموع التحاليل على الرواسب التي تم اقتطاعها سنة 2022، وسنة 2023، بتاريخ 23 مارس 2023، وقد تم رفض طلبنا للاطلاع عليها، وتمت موافاتنا بردّ مقتضب بأن  مصالح الهيئة تولت في الفترة المتراوحة بين 30 مارس 2023، و18 أفريل 2023، اقتطاع 34 عينة من الخضر والغلال على مستوى سوق الجملة ببئر القصعة وإخضاعها للتحاليل بالمخبر المركزي للتحاليل والتجارب التي بيّنت مطابقتها للتراتيب المعمول بها من حيث رواسب المبيدات الكلوريّة والعضويّة والفسفورية العضوية. 

يواصل العم عبد الحميد رفقة أبنائه زراعة الباكورات ويواصل محمد الزين الابن الأكبر السعي وراء تغطية مصاريفه دون الالتزام بالاستعمال الرشيد للأدوية، ويتواصل تداول مبيدات فلاحية محظورة في الاتحاد الأوروبي حفاظا على الأمن الغذائي والمنظومات الفلاحية في انتظار قائمة محيّنة ستصدر قريبا قيل إنها في انتظار مصادقة وزير الفلاحة لسحب البعض منها.

تنويه: أنجز هذا العمل بالتعاون مع مركز تطوير الإعلام

زر الذهاب إلى الأعلى