سليديرمقالات

لماذا لا يقبل التونسيون على ارثهم الحضاري في بناء المواجل؟

كوسموس ميديا/ ميساء زعيره   

بناء المواجل: إرث حضاري في تونس

تواجه تونس تحديات كبيرة في إدارة مواردها المائية نتيجة ندرتها وتغير المناخ. وقد اعتمد التونسيون على مدى العصور على تقنيات مثل بناء المواجل و الفسقيات لحصاد مياه الأمطار و تلبية احتياجاتهم في المناطق الجافة وشبه الجافة. 

وقد كانت هذه الأساليب، التي أثبتت فعاليتها في المحافظة على الأمن المائي خلال أزمات الجفاف، جزءًا لا يتجزأ من ثقافة سكان العديد من المناطق التونسية. ومع التغيرات المناخية الراهنة، أضحى من الضروري إعادة إحياء هذه التقنيات التقليدية ودمجها مع الاستراتيجيات الحديثة لضمان استدامة مواردنا المائية لفائدة الأجيال القادمة.   

التراث المائي التونسي: استراتيجيات فعالة لإدارة المياه

صرّح خميس الزياني، الخبير في هندسة المياه، لمنصة كوسموس ميديا أن أغلبية المناطق التونسية تخضع لمناخ جاف وشبه جاف،  يتميز بندرة التساقطات المطرية وعدم انتظامها. وانطلاقا من هذا المعطى، فإن ندرة المياه عامل قار توجّب التعايش معه بحكمة تأسّيا بأجدادنا. 
وأشار خميس الزياني إلى أن التغيرات المناخية التي يشهدها العالم جرّاء انبعاثات الغازات الدفيئة فاقمت من أزمة المياه ببلادنا حيث سجلنا سبع سنوات متتالية من الجفاف تخللتها فيضانات كبرى ببعض الجهات.
 وأمام هذه المستجدات، أصبح المواطن التونسي أكثر حرصا على متابعة الوضع المائي بالسدود واهتماما بالتكنولوجيات التي توفر المياه بصفة مستدامة. وفي هذا الصدد، ذكّر خميس الزياني، الخبير في هندسة المياه ، أن أجدادنا عاشوا دون شبكات مياه صالحة للشراب أو الريّ حيث كانوا يقومون بحفر ماجل أو فسقية تؤمن لهم حصاد مياه الأمطار وخزنها في جوف الأرض للشراب وللاستعمالات المنزلية.  
وأشاد الخبير في هندسة المياه ، بعبقرية سكان مطماطة الذين حفروا خزانات جوفية لحصاد مياه الأمطار التي تتجاوز بالكاد 100 مم/سنة بعد تصفيتها من الشوائب والأتربة. وقد مكّنت هذه الخزانات من تلبية حاجيات السكان والمواشي من الماء الصالح للشراب فضلا عن ريّ بعض الخضروات. كذلك، شيّد سكان هذه المناطق جسورا ترابية على مجاري الأودية تسمح بخزن مياه السيلان في باطن الأرض مما أتاح نموا وإنتاجا منقطعي النظير للزياتين بالجهة.
وبعملية حسابية بسيطة، يتّضح أنه يمكن تعبئة 80 متر مكعب من مياه الأمطار من سطح منزل يمسح 200 م2 في منطقة تبلغ فيها كمية الأمطار 400 مم/سنة.  وتسمح الكمية المعبّأة من تأمين الحاجيات المائية لعائلة متكونة من أربعة أنفار على مدى أربعة أشهر ونيف مما يضمن استقلاليتها في حال انقطاع التزود بالمياه.
بناء المواجل: إرث حضاري في تونس

وأكد الخبير خميس الزياني أن تونس تزخر بإرث حضاري ثري في مجال التصرف في المياه حيث نلاحظ الحنايا الرومانية لنقل المياه من زغوان لقرطاج ونظام الفقارة أو القطارة بجهة القطار من ولاية ڨفصة والذي يتمثل في حفر نفق منحدر انطلاقا من الواحة في اتجاه الجبل. وتتميز أرضية النفق بنفاذية ضعيفة تتيح سيلان مياه الأمطار بعد رشحها لري الواحة. وقد كان الأهالي يزوّدون العمال الذين يحفرون الفقارة بالماء والطعام عبر فوهات عمودية تربط النفق بسطح الأرض وتسمح بإجلاء التربة أثناء عملية الحفر. وفي هذا الصدد، أشار إلى ضرورة تعهد هذا المعلم بالصيانة الدورية ليكون رافدا لتطوير السياحة بالجهة. كذلك أشار إلى إبداع أجدادنا في فرش مياه الفيضانات لريّ الزراعات الكبرى بالسهول باستعمال تقنية المقود (Mgoud) على ضفاف الأودية (وادي الفكة بسيدي بوزيد وغيره). أما في الساحل، فقد طوّر أسلافنا تقنية المسقاة لتجميع مياه السيول لري الزياتين وبقية الأشجار.

بناء المواجل عبر الحضارات المتعاقبة على تونس 

من جهته، أبرز حسين الرحيلي، الخبير في التنمية والموارد المائية، أنّ المواجل لعبت دورًا بارزًا في تاريخ تونس حيث يعود الاهتمام بها إلى العهد الحفصي. آنذاك، كانت تهيئة الموارد المائية تحت إشراف الدولة الحفصية التي تبنتّ سياسة مركزية لضمان توفير المياه. وأشار أن أحد الأمراء الحفصيين كان يبني ماجلا يوميًا بصفاقس ما مكّن من إنشاء 365 ماجلا في عام واحد.

وفي الوسط والجنوب التونسي، تعامل السكان بعبقرية مع الطبيعة وندرة الأمطار عبر إنشاء الفسقيات والمواجل. وقد شهدت البلاد تغيّرًا في العقلية بعد الاستقلال سنة 1956 حيث تراجعت مكانة الماء كمورد ثمين. وتجلىّ ذلك من خلال مجلة المياه التي بنيت على قاعدة العرض بدل الطلب، ما أسهم في غياب ثقافة مواطنية تقدّر أهمية المياه كمورد ناد ر. وقد آن الأوان لإصدار مجلة المياه في صيغتها الجديدة بعد إدخال التعديلات الضرورية عليها لإحكام التصرف في مواردنا المائية.

دعا خميس الزياني إلى تعميم تجربة الماجل وفرضها في كل رخص البناء الجديدة لاستثمار كل قطرة ماء سيّما وأن الدولة خصصت تشجيعات لتركيز هذه المنشآت المائية. من جهته، أكد الخبير حسين الرحيلي أن الحديث عن المواجل أصبح يستأثر باهتمام الرأي العام والخبراء على حد السواء كحلّ مستدام في ظل استفحال الشحّ المائي. وفي عام 2023، خصّصت وزارة التجهيز والإسكان اعتمادات مالية بقيمة 2 مليون دينار من موارد الصندوق الوطني لتحسين المسكن عبر إسناد قروض لا تتجاوز 20 ألف دينار للقرض الواحد يتم سدادها على مدّة أقصاها 7 سنوات. كما خصّصت وزارة التجهيز والإسكان اعتمادات إضافية بقيمة مماثلة في إطار قانون المالية لسنة 2025 لتمويل بناء المزيد من المواجل حتى نهاية عام 2027. 

بناء المواجل: إرث حضاري في تونس

وأكد الخبير خميس الزياني أن تونس تزخر بإرث حضاري ثري في مجال التصرف في المياه حيث نلاحظ الحنايا الرومانية لنقل المياه من زغوان لقرطاج ونظام الفقارة أو القطارة بجهة القطار من ولاية ڨفصة والذي يتمثل في حفر نفق منحدر انطلاقا من الواحة في اتجاه الجبل. وتتميز أرضية النفق بنفاذية ضعيفة تتيح سيلان مياه الأمطار بعد رشحها لري الواحة. وقد كان الأهالي يزوّدون العمال الذين يحفرون الفقارة بالماء والطعام عبر فوهات عمودية تربط النفق بسطح الأرض وتسمح بإجلاء التربة أثناء عملية الحفر. وفي هذا الصدد، أشار إلى ضرورة تعهد هذا المعلم بالصيانة الدورية ليكون رافدا لتطوير السياحة بالجهة. كذلك أشار إلى إبداع أجدادنا في فرش مياه الفيضانات لريّ الزراعات الكبرى بالسهول باستعمال تقنية المقود (Mgoud) على ضفاف الأودية (وادي الفكة بسيدي بوزيد وغيره). أما في الساحل، فقد طوّر أسلافنا تقنية المسقاة لتجميع مياه السيول لري الزياتين وبقية الأشجار.

و وفقًا للإحصائيات الصادرة عن الإدارات الجهوية لوزارة التجهيز والإسكان، بلغت القيمة الإجمالية للمطالب المقدمة حوالي 2.9 مليون دينار. ومع ذلك، لم يتجاوز عدد المستفيدين الفعليين من القروض 30 مواطنًا بحلول عام 2024، بقيمة إجمالية قدرها 600 ألف دينار. وكشف الخبير أن ضعف الإقبال هذا يعزى إلى عدة عوامل منها نقص التوعية بأهمية المواجل وتعقيد الإجراءات الإدارية وضعف الإمكانيات المادية لبعض الفئات الاجتماعية.

 المقاربة الشاملة لإدارة المياه: الدمج بين الحلول التقليدية  والحديثة

كما أشار السيد خميس الزيّاني إلى أهمية أشغال المحافظة على المياه والتربة و التشجير ودورهما في المحافظة على أديم الأرض من الانجراف وتغذية الموائد الجوفية والحد من الفيضانات ومن ترسبات التربة بالسدود مما يمدد في آجال استغلالها. وذكّر بأن المقاربة التي اعتمدها الراحل عامر الحرشاني، الملقب بأب السدود في تونس، والمتمثلة في بناء السدود الكبرى والسدود التليّة والبحيرات الجبلية أمّنت لتونس عبور فترات قاسية من الجفاف بأقل الأضرار. 

أمّا المقاربة التي توخاها الراحل صلاح الدين العمامي والمتمثلة في تعبئة الموارد المائية بواسطة الأشغال المائية الصغرى فقد مكنت من صمود الفلاحة المطرية وحماية المياه والتربة على مساحات شاسعة من ربوعنا. وقد بيّنت التغيرات المناخية أن مزج هاتين المقاربتين في استراتيجية مندمجة لإدارة الموارد المائية على مستوى مجمعات المياه هي المقاربة المثلى.   

وأوضح الخبير أن مواردنا المائية لا تسمح بمزيد توسع المناطق السقوية سيّما وأن قطاع الفلاحة يستأثر بنصيب الأسد من الموارد المائية (بين 75 و80%). وفي هذا الصدد، أكّد على ضرورة تطوير الفلاحة المطرية والنهوض بالفلاحة الإيكولوجية كممارسة سليمة تسمح بالتأقلم مع التغيرات المناخية. كما ركّز على الآبار العشوائية بالجنوب الغربي والوسط والتي وإن خلقت الثروة في الوقت الراهن فهي تستنزف الموارد المائية الجوفية وتطرح بجدية موضوع التنمية المستدامة بهذه الربوع. لذلك، أكد على مراجعة مخططات تهيئة المحيط وإيلاء كل جهة منوال تنمية خاص بها يثمّن مواردها الطبيعية والحضارية استئناسًا بالمقاربة اليابانية OVOP (One Village, One Product) أو ” لكل قرية منتوج . “

تثمين الموارد المائية غير التقليدية والحد من التسربات  والمراهنة على حلقات المعرفة

وختم الخبير خميس الزياني تدخله مشيرا إلى أن معضلة المياه لا يمكن حلها بتعبئة المزيد من الموارد المائية بواسطة السدود ومحطات تحلية المياه المالحة ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي فحسب بل يكمن في غرس الوعي لدى المواطن بندرة المياه حتى يقلع على هدرها أو استعمالها في غير مجالها كريّ الحدائق المنزلية ورشّ الأرصفة بالمياه الصالحة للشراب لتكييف الجو بواجهات المقاهي في الصيف.

وأكد على ضرورة تكثيف استعمال المياه المعالجة لري الحدائق العمومية وبعض الزراعات كالأعلاف مشيرا إلى أن المعالجة الثلاثية للمياه سمحت للعديد من البلدان باستعمال المياه المعالجة في مجالات شتىّ في إطار النهوض بالاقتصاد الدائري. وأشار أن تحلية المياه الجوفية المالحة لها كلفة مادية أقل من تحلية مياه البحر. ومع التوعية والتحسيس، توجّب توخّي الصرامة الشديدة والردع مع كل من يهدد أمننا المائي أو استدامة مواردنا المائية.   

وأشار الخبير خميس الزياني أن البحث العلمي يلعب دورا محوريّا في الحد من آثار الجفاف عبر:

  • استنباط أصناف جديدة من النباتات ذات دورة خضرية قصيرة تتمتع بالقدرة على التأقلم مع التغيرات المناخية ومع الآفات الحشرية.
  • تطوير نظم قيادة الري بالاعتماد على الاستشعار عن بعد والمجسات الإلكترونية.
  • التخفيض في كلفة معالجة المياه المالحة والمعالجة.  و لاستثمار نتائج البحث العلمي على أوسع نطاق ممكن توجّب توثيق أواصر التعاون بين سلاسل المعرفة (مراكز بحث علمي، مراكز فنّية، خلايا ترابية للإرشاد الفلاحي، مراكز تكوين مهني فلاحي) لنشر مستجدات البحث العلمي للفلاحين والمتكونين على حد السواء والعمل على تبنّيها من طرفهم.

و بالتوازي مع ذلك، يتوجّب مراجعة الخارطة الفلاحية وذلك عبر تركيز الزراعات بالجهات حسب نوعية التربة  والمناخ والموارد المائية مع إيلاء الأولوية للزراعات الاستراتيجية والتخلي على الزراعات التي تستهلك كميات كبيرة من المياه. إنّ إدارة الموارد المائية في تونس  تحديًا كبيرًا يتطلب تكاتف الجهود بين القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدني والمواطنين. 

 ومن خلال تعزيز الوعي بأهمية المياه وتطبيق الحلول التقليدية والحديثة على حد سواء، يمكن تحقيق استدامة مائية تلبي احتياجات الأجيال الحالية والمستقبلية. كما أن التوجه نحو استراتيجيات مائية شاملة تتسم بالمرونة والتكامل بين القطاعات البيئية والاقتصادية يعد خطوة أساسية نحو ضمان استدامة الموارد المائية في تونس.

صور مبروكة خذير

زر الذهاب إلى الأعلى