كوسموس ميديا/ ميساء زعيره
في أجواء مليئة بالنقاشات التفاعلية، انطلقت ورشة عمل حول السيادة الغذائية ضمن فعاليات الدورة الثانية لمهرجان 27/20، الذي يحمل شعار “عدالة إنسانية، كرامة للجميع!”. أقيمت الفعالية من 24 إلى 26 جانفي 2025 في فضاء الريو بتونس، تكريمًا للمناضلة الراحلة لينا بن مهني وللاحتفاء بمسيرتها وعملها الدؤوب من أجل العدالة الاجتماعية. وقد شهدت الورشة حضور مختصين ونشطاء من مجالات متنوعة، حيث تم تناول قضية السيادة الغذائية التي تؤثر بشكل كبير على الحياة السياسية والاجتماعية والبيئية في تونس.
و تعتبر السيادة الغذائية أحد المفاهيم الحيوية التي تكتسب أهمية متزايدة في تونس، حيث تواجه البلاد تحديات متعددة تؤثر على قدرتها على تأمين غذاء آمن ومستدام لمواطنيها. في ظل الأزمات الاقتصادية والبيئية المتلاحقة، يبرز السؤال حول كيفية تعزيز هذا الحق الأساسي الذي يضمن للناس اختيار غذائهم وإنتاجه بطرق تتماشى مع ثقافاتهم واحتياجاتهم.
ليست السيادة الغذائية مجرد مفهوم اقتصادي، بل هي دعوة لإعادة التفكير في أنظمة الإنتاج والاستهلاك، وإعطاء الأولوية للزراعة المحلية التي يقودها الفلاحون.
الزراعة والبيئة: معركة السيادة الغذائية في تونس تحت المجهر
في إحدى الزوايا الهادئة داخل القاعة، انطلقت نقاشات حيوية حول السيادة الغذائية في تونس، حيث استعرض المشاركون التحديات الراهنة التي تواجه هذا القطاع الحيوي.
الدكتورة ليلى الرياحي، المهندسة المعمارية والباحثة، تناولت في مداخلتها العلاقة الوثيقة بين الفلاحة والمعمار، مشيرة إلى كيفية تداخل الأنماط الزراعية مع العادات الثقافية المحلية في مناطق مثل ورغمّه من ولاية تطاوين. وأوضحت أن سكان الجنوب الشرقي قد طوروا تقنيات معمارية مبتكرة، مثل بناء “الڨصور” لتخزين المحاصيل الأساسية كزيت الزيتون والقمح، والتي صُممت بطرق تحافظ على جودة المحاصيل لفترات طويلة، مما يعكس ذكاء الفلاحين في التكيف مع الظروف القاسية.
وأكدت الدكتورة أن “الفلاح يمثل كل شخص يسهم في إنتاج الغذاء من الطبيعة، بما في ذلك الصيادين”، مشددة على أن هذه الفئة تتأثر بشكل مباشر بالتغيرات المناخية وندرة الموارد الطبيعية. و أن هذه التحديات تدفع منتجي الغذاء إلى تبني نهج تضامني للحفاظ على الإنتاج وتعزيز الدخل المحلي، مما يسهم في تحقيق السيادة الغذائية في مواجهة الأزمات المتزايدة.
لكن النقاش سرعان ما انتقل إلى قضية أكبر تهدد الأمن الغذائي في تونس: التحديات البيئية المتزايدة، حيث كشفت منار بتيتة، طالبة ماجستير في قانون الأعمال بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس، عن تأثير التلوث على الحياة البحرية في ڨابس. وأشارت إلى أن التخلص غير المسؤول من الفوسفوجيبس في البحر قد دمّر الموارد البحرية، بينما أدّى التلوث الهوائي إلى تحويل أشجار الرمان، التي كانت رمزًا للخصوبة في المنطقة، إلى مجرد حطب. كل هذه التحولات تبرز الحاجة الملحة لتبني استراتيجيات فعالة لضمان الأمن الغذائي وحماية البيئة في تونس.
دور المرأة التونسية في تعزيز السيادة الغذائية: تجارب ملهمة من مجمع بيت المونة
تلعب المرأة التونسية دورًا محوريًا في تعزيز السيادة الغذائية من خلال تجارب ملهمة مثل تلك التي قدمها مجمع “بيت المونة” في تستور. خلال إحدى الورشات عرضت كل من أسماء الرويسي وعفيفة قراوشي من مجمع “بيت المونة” بتستور، تجربتهما الغنية في مجال الصناعات الغذائية التقليدية. كانت المنتجات الطبيعية المعروضة، مثل الزبيب المصنوع من قشر الرمان والمربى المعد يدويًا، تجسّد براعة المرأة التستورية في ابتكار منتجات غذائية محلية. هذه المنتجات تم تعبئتها في أكياس صديقة للبيئة، مما يعكس التزام المجمع بالوعي البيئي.و أبرزت أسماء وعفيفة أن تحقيق السيادة الغذائية في تونس يستدعي العودة إلى البذور التونسية الأصيلة، والتقليل من الاعتماد على البذور المستوردة والمهجنة. هذا التوجه يتماشى مع الجهود الأوسع التي تهدف إلى تعزيز الزراعة المستدامة والمحافظة على التنوع البيولوجي.
من الجدير بالذكر أن العاملات في “بيت المونة” بتستور انطلقن في الترويج لمنتجاتهن عبر مواقع التواصل الاجتماعي منذ عام 2018، مما ساهم في زيادة الوعي بمنتجاتهن وتعزيز مبيعاتهن.
هذا النموذج يعكس كيف يمكن للمرأة التونسية أن تكون رائدة في مجال الأعمال التقليدية ويعزز دورها كعنصر فاعل في الاقتصاد المحلي.
تستفيد التجربة أيضًا من السياحة الزراعية، حيث تم افتتاح مشروع يهدف إلى تثمين شجرة الرمان، وهو منتج مميز لتستور. يهدف هذا المشروع إلى خلق تنمية سياحية وثقافية واجتماعية، ويشمل أنشطة متنوعة مثل ورش العمل وفعاليات تذوق المنتجات المحلية.
في الختام، تُظهر هذه التجارب كيف أن المرأة التونسية ليست فقط حامية للتقاليد الغذائية، بل هي أيضًا رائدة في تعزيز السيادة الغذائية والتنمية الاقتصادية المستدامة.
العودة إلى الجذور: تعزيز الانتماء للأرض من أجل أمن غذائي مستدام
وسط النقاش تضمنت الورشات أيضا تسليط الضوء على أهمية تعزيز الانتماء للأرض كخطوة حيوية نحو تحقيق أمن غذائي مستدام.
كما ناقش المشاركون ضرورة العمل التضامني لتحرير الفلاحين من التبعية للأسواق العالمية، مشددين على أهمية تشجيعهم على استخدام الموارد المحلية وتطوير تقنياتهم الزراعية بشكل مستقل.
وتُعتبر تجربة واحة جمنة في الجنوب الغربي نموذجًا ملهمًا في هذا السياق، حيث تمكن المجتمع المحلي من استعادة الأرض التي انتزعت منهم خلال فترة الاستعمار. فقد نجح هؤلاء الفلاحون في بناء نموذج اقتصادي تشاركي يضمن استفادة الجميع من الموارد الطبيعية.
ضمن هذا السياق،تشير البيانات إلى أن واحات النخيل في تونس تمتد على أكثر من 40 ألف هكتار، وتنتج حوالي 289 ألف طن من التمور سنويًا، مما يعكس الإمكانيات الكبيرة التي يمكن استغلالها لتحقيق السيادة الغذائية.
سنية بوعزيزي، إحدى المشاركات في الورشة، عبّرت عن اهتمامها الشخصي بقضية السيادة الغذائية، واشارت في تصريح لها لمنصة كوسموس ميديا، إلى دورها الحيوي في ضمان استدامة الموارد الطبيعية للأجيال الحالية والقادمة.
هذا ولفتت “بوعزيزي” أيضًا إلى عودة الشباب للاهتمام بالمنتجات الغذائية الطبيعية، مما يعكس أهمية تعزيز حب الانتماء للأرض واستثماره لتحقيق التنمية المستدامة.
كما دعت سنية بوعزيزي إلى إعداد رؤية استشرافية لتحديد الزراعات المستقبلية التي تتلاءم مع التغيرات المناخية.
في سياق متصل، أكد الصحفي غسان رقيقي في تصريح لمنصة كوسموس ميديا أن الورشة الأخيرة تمثل دعوة مفتوحة لتعزيز الوعي الجماعي حول أهمية السيادة الغذائية في تونس. وأوضح رقيقي أن غياب الهوية الزراعية يشكل تحديًا كبيرًا، حيث لم يتمكن من العثور على صور تعكس الخصائص المتميزة للأصناف المحلية في الأسواق. وبهذا، شدد الصحفي غسان رقيقي على الحاجة الملحة لصياغة سياسات شاملة تعيد الاعتبار للمنتجات المحلية وتستعيد هوية الزراعة التونسية، مما يسهم في تعزيز الأمن الغذائي والاستدامة في البلاد.
اختتمت الورشة بتأكيد المشاركين على أهمية تعزيز السيادة الغذائية في تونس من خلال تفعيل دور الفلاحين ودعمهم لمواجهة التحديات الراهنة. كما تم التأكيد على ضرورة إعادة رسم الخارطة الفلاحية بشكل تشاركي يتماشى مع التغيرات المناخية ويأخذ بعين الاعتبار جميع المستويات الاجتماعية.
والجدير بالذكر ان هذه المبادرات والتجارب المحلية مثل واحة جمنة تعكس أهمية التعاون والتضامن بين المجتمعات لتحقيق التنمية المستدامة وضمان الأمن الغذائي.