سليديرمقالات

صمود المرأة القرقنية: إرادة لا تنكسر بين البحر والصنعة

اميرة تواتي -كوسموس ميديا –قرقنة

 

تقع جزيرة قرقنة، الأرخبيل الصغير قبالة سواحل صفاقس التونسية، كعلامة حية على تلاقي التاريخ والثقافة والبيئة، حيث تتشابك حياة سكانها مع ثروات البحر والأرض والحرف التقليدية.

وفي قلب هذه الحياة المتجددة، تبرز المرأة القرقنية كرمز للإصرار والقوة، تحفر بخطى ثابتة طريقها بين تحديات الطبيعة والاقتصاد، لتكون عمود النهوض الأسري والمجتمعي في جزيرة تعاني من ضغوط بيئية واجتماعية مستمرة.

المرأة القرقنية: تعدد أدوار بين البحر والبرّ

فضيلة خشارم، من سكان قرقنة، تمثل نموذجاً إنسانياً حياً يوضح الصعوبات والمتطلبات الحقيقية للحياة في منطقة القراطن، حيث تتداخل الفلاحة التقليدية وصيد الأسماك، لتشكل معاً مصدر رزق مستدام رغم التحديات البيئية والاجتماعية.

منذ أن كانت في سن 16 عاماً، اعتمدت فضيلة على البحر كمصدر أساسي للعيش. فهي فلاحة ترعى الأرض والماشية، مما يعكس خبرتها الزراعية وحياتها المرتبطة بالأرض. في الوقت ذاته، هي صيادة ماهرة تتقن استخدام “شباك الطرف” التقليدية، وهي شباك مصنوعة يدوياً، تعكس مهارتها وحرفيتها، خصوصاً في صنعها للأواني والسلال من سعف النخيل التي تمثل ثقافة وحرفية محلية عريقة. هذا المزج بين الزراعة وصيد الأسماك يعكس نمط حياة متجذر في طبيعة المجتمع المحلي، حيث يعتمد السكان على تعدد الموارد لتأمين استمرار معيشتهم.

توضح فضيلة في تصريحاتها لمنصة كوسموس ميديا الأفق الحقيقي للصيادين في قراطن، حيث تقول: “نبحر من ‘المرسى المخصص لنا ‘، وليس من الميناء، المكان صعب في الوصول ومجهد بدنياً، وخصوصاً للنساء.” هذا يبرز بعدين رئيسيين: البُعد الجغرافي والبعد الاجتماعي، حيث الصيد في هذه المنطقة ليس سهلاً ويتطلب جهداً بدنيًا كبيرًا، خاصة للنساء اللاتي يكافحن لتحقيق مورد رزق مستدام في بيئة صعبة ومتطلبة. ومع ذلك، تؤكد فضيلة أن البحر هو مصدر قوتهم الوحيد، وهذا يعكس الاعتماد الكبير على الموارد البحرية، مع وجود صعوبات لمس الحفاظ عليها وحمايتها.

تجسد كلمات فضيلة التحدي الحقيقي الذي تواجهه نساء قرقنة، اللواتي يجمعن بين الصبر والعمل الشاق في مجتمع يحافظ على أدواره التقليدية، ومع ذلك يثبتن دور المرأة الحيوي في دعم اقتصاد البحر والزراعة. هذا يؤكد على حيوية الدور النسائي وديناميكية المجتمع في مواجهة ظروف معيشية متغيرة ومتقلبة.

أما على الصعيد البيئي، فالواقع في قرقنة أوضح بكثير من مجرد نمط حياة. فالبحر الذي كان يغني بالأخطبوط وأنواع الأسماك المتنوعة يعاني اليوم من ضغط شديد نتيجة الصيد العشوائي باستخدام أدوات ممنوعة مثل الدرينة البلاستيكية والكركارة، مضافاً إليها التلوث البحري الناتج عن نفايات الشركات البترولية وتغيرات المناخ التي تؤثر مباشرةً على توازن البيئة البحرية.

ظواهر انتشار السلطعون الأزرق والدلافين بشكل مكثف تمثل أيضاً تهديداً لأنظمة الصيد التقليدية، إذ تسبب أضراراً كبيرة لشباك الصيد، الأمر الذي يؤدي إلى تقليص كبير في المخزون السمكي، أي تقليل المصادر التي تعتمد عليها العائلات في معيشتها.

في شرح أعمق لهذا الوضع، تضيف فضيلة: “في الماضي كنا نستخدم عشرة شباك فقط، أما اليوم فنستخدم ما بين 30 و40 شباكاً، لكن الأخطبوط أصبح نادراً جداً بسبب الاستنزاف الجائر.” هذه العبارة تعكس مدى تراجع أحد أهم الموارد الاقتصادية في البحر، وكيف أن تعدد الشباك يعكس محاولة مضاعفة الجهد لمواجهة نقص المخزون، لكنه مؤشر أيضاً على استنزاف غير مستدام لموارد البحر.

هذه التحديات البيئية والاقتصادية تضع الناس، وخاصة النساء في قرقنة، تحت ضغط مزدوج يتمثل في ضرورة بذل مجهود مضاعف في العمل لرزق الأسرة وحماية الميراث البحري والثقافي في وجه ندرة الموارد، إضافة إلى صعوبة المحافظة على تقاليد الصيد والعمل الزراعي وسط تغيرات بيئية واجتماعية متسارعة.

تصريحات فضيلة خشارم لمنصة كوسموس ميديا تعكس قصة صمود وتكيف اجتماعي وبيئي في قرقنة، حيث تلتقي الحرفية والمهارات التقليدية مع التحديات المعاصرة، لتسرد نموذجاً حيويًا لكفاح المجتمع في حماية مصادر رزقه وأسلوب حياته رغم صعوبات الزمان.

تقلص الدعم وازدواجية الضغوط اللوجستية

الحواجز التي تواجه سكان منطقة الصيد في القرية تتجاوز المشكلات البيئية لتشمل تحديات لوجيستية وإدارية معقدة تمثل عائقاً أساسياً أمام استدامة نشاطهم البحري. محطة الوقود الوحيدة المتوفرة في القرية تضع قيوداً قاسية على النساء تحديداً، حيث تجبرهن على قطع مسافات طويلة جداً من أجل شراء الحد الأدنى المسموح به وهو 20 لتر من البنزين، وهذا يشكل عبئاً مادياً وزمنياً كبيراً يؤثر على قدرة الصيادين على ضخ نشاطاتهم بشكل منتظم.

إلى جانب ذلك، تشهد أسعار المعدات الأساسية للصيد مثل الشباك والمحركات ارتفاعاً مستمراً، وهو ما يزيد من أعباء الصيادين الصغار الذين لا يجدون جهة دعم أو تمويل تساعدهم في مواجهة هذه التكاليف المتزايدة، ما يجعل التحديات الاقتصادية مضاعفة. صعوبة الحصول على المواد الأولية هذه، مع غياب الدعم الرسمي أو المؤسساتي، تعني أن الكثير من الصيادين الصغار يكافحون للاستمرار في مهنتهم، مما يهدد مستقبل الحرفة ومصدر رزقهم.

زينة جابر، التي تحدثت إلى منصة كوسموس ميديا، عبّرت عن قلق كبير من تدهور الوضع حيث قالت: “الدرينة والبلاستيك زادوا الطين بلّة”، في إشارة إلى المشاكل البيئية الناتجة عن تلوث البحر بالدرينة (شباك الصيد المهملة أو التالفة) والنفايات البلاستيكية التي تؤثر سلباً على البيئة البحرية وتقلل من مخزون الأسماك. وأضافت: “نشاطنا يعتمد بشكل كامل على الصيد، لكن المخزون أصبح ضئيلاً، والأعباء تتزايد”، مما يبرز التحديات المركبة بين التدهور البيئي والتحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه الصيادين في القرية.

معاناة سكان القرية لا تقتصر على صعوبات في صيد الأسماك فقط، بل ترتبط أيضًا بمشكلات بنيوية وإدارية وبيئية تجعل من الاستمرار في هذه المهنة تحدياً يومياً، داعية إلى تدخلات عاجلة متعددة الجوانب لدعم الصيادين وصيانة البيئة البحرية التي تعتمد عليها مجتمعاتهم.

الصيد بالأقدام وجمع الصدفيات: سبل بديلة للبقاء

مع انخفاض مخزون الأسماك في مناطق الصيد التقليدية مثل منطقة “الطرّاف”، تلجأ العديد من النساء، خصوصاً في جزر مثل قرقنة، إلى صيد المحار والصدفيات بالأقدام عند تراجع البحر. هذا النشاط يُعتبر من أهم الوسائل التي تعتمد عليها نساء الجزر لكسب دخل يومي مستدام، حيث يحقق الدخل ما بين 50 إلى 70 ديناراً يومياً، وهو مبلغ يشكل شريان حياة لا غنى عنه لأسرهن، خصوصاً في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تواجهها المجتمعات الساحلية.

تأكد ح.س، وهو اسم مستعار لسيدة من جزيرة قرقنة، لمنصة كوسموس ميديا أن هذا النشاط يمثل ركيزة أساسية في تلبية الاحتياجات البيتية، وتقول: “زوجي دائماً يقول لي: لولا نشاطك هذا لما استطعنا تلبية مصاريف البيت والعيش بكرامة.” تعكس هذه الكلمات مدى الاعتماد الكبير على هذا النوع من الصيد الصغير لمواجهة البطالة والفقر في المناطق الساحلية.

لكن هذا النشاط ليس خالياً من التحديات، فهو محاط بدرجة كبيرة من عدم اليقين بسبب القيود التي تفرضها السلطات المحلية بين حين وآخر. يتم أحياناً منع جمع المحار والصدفيات رسميًا، بحجة وجود تلوث في البحر أو مخاطر صحية أخرى تهدد المستهلكين. هذه القرارات تدفع بعض النساء الجرّافات إلى العمل في ظل ظروف غير قانونية، خارج إطار المراقبة الرسمية، لكي تضمن استمرارية دخلها اليومي، مما يبرز تعقيدات العيش في بيئة صيد مليئة بالتحديات القانونية والاجتماعية.

يجدر بالذكر أن هذه الظاهرة تعكس أبعاداً أعمق تعاني منها المجتمعات الساحلية في تونس وخارجها، حيث انحسار الموارد الطبيعية، وغياب الدعم الكافي لصغار الصيادين والصيادات، بالإضافة إلى التغيرات البيئية التي تؤثر على تنوع وكمية الثروة السمكية. وتبرز الحاجة إلى سياسات دعم مستدامة تضمن حماية هذه الموارد وتحسين ظروف عمل النساء العاملات في الصيد البحري التقليدي، فضلاً عن تعزيز الوعي الصحي والتشريعات التي تحمي حقوقهن الاقتصادية.

الحرف اليدوية: مواجهة التحديات بالإبداع

في الجانب الحرفي، تقف حسناء السويسي نموذجاً آخر من نساء قرقنة اللاتي يحافظن على تراثهن من خلال استغلال مواد طبيعية كالعرجون والجريد في صناعة السلال والديكورات المنزلية. إلا أن صعوبات التسويق، وغلاء إيجار المعارض، تجعل هذه الحرف عرضة لخطر التراجع.

حسناء تضيف في حديثها لكوسموس ميديا : “نجرب إعادة تدوير البلاستيك لصناعة ديكورات، لكن هذا لا يعالج مشكلة تلوث البحر الذي يؤثر مباشرة على أعمالنا.”

العزلة الطبيعية لأرخبيل قرقنة وأثرها الاجتماعي والاقتصادي

تعاني جزيرة قرقنة من عزلة جغرافية كبيرة تجعل التنقل بين الجزيرة والبر الرئيسي يعتمد بشكل شبه حصري على القوارب الصغيرة المعروفة بـ”البابور”. هذه الوسيلة البسيطة تعكس محدودية البنية التحتية للنقل، وتعوق الحركة المستمرة للسكان والزائرين، مما يؤثر على النشاط الاقتصادي والخدمات الأساسية. بالإضافة إلى ذلك، يقتصر توفر المياه على موارد قليلة وذات ملوحة مرتفعة، مما يجعل النشاط الزراعي محدوداً إلى حد كبير ويجبر السكان على الاعتماد بشكل أكبر على البحر كمصدر رئيسي للرزق.

ترمز شجرة النخلة في ثقافة سكان قرقنة إلى صمودهم ومقاومتهم للعزلة والتحديات المناخية. فهي لا توفر المواد اللازمة للحرف اليدوية التقليدية فحسب، بل تمثل أيضاً رابطاً ثقافياً واقتصادياً مع بيئتهم، حيث تسهم في دعم الاقتصاد المحلي عبر صناعة المنتجات اليدوية والسياحة البيئية المحدودة.

المطالب والتحديات: دعوة صريحة للمسؤولين

تتصدر نساء قرقنة المشهد الاجتماعي والاقتصادي، حيث يرفعن أصواتهن للمطالبة بحماية الثروة البحرية التي تمثل مصدر رزق رئيسياً، من الاستنزاف المفرط والتلوث البيئي المتزايد. كما يطالبن بوضع نظام صارم ومنظم لجمع الصدفيات لضمان استدامة المورد وضمان سلامة المصالح العامة والبيئية.

وتشمل المطالبات أيضاً الدعم المالي والفني لتطوير الحرف اليدوية التقليدية، بحيث يمكن توسيع نطاق تسويق المنتجات محلياً ودولياً، مما يسهم في تعزيز الاقتصاد المحلي والحد من هجرة الشباب. كما تؤكد النسوة على أهمية تحسين البنى التحتية في الجزيرة، خاصة وسائل النقل، من أجل تسهيل الوصول إلى الموارد الطبيعية ومراكز التسويق، وتخفيف العزلة التي تعيشها الأسرة القرقنية.

المرأة القرقنية: نبض الحياة واستمرار الصمود

تلعب المرأة دوراً محورياً في الحفاظ على التقاليد الثقافية والاجتماعية، وفي صون الموارد الطبيعية، فضلاً عن كونها القوة الدافعة في إدارة الحرف والصناعات المنزلية الصغيرة. وتعتبر النساء في قرقنة ركيزة أساسية لاستمرار الحياة الاقتصادية الاجتماعية في الجزيرة، مما يبرز الحاجة إلى سياسات داعمة تستهدف تمكينهن وتعزيز مكانتهن كعوامل رئيسية لصمود المجتمع في مواجهة التحديات البيئية والاجتماعية القاسية.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى