نجاة فقيري/ كوسموس ميديا
يقف السيد هشام(اسم مستعار)، موظف في إحدى الشركات الدولية، في شرفة شقته بأحد العمارات الحديثة في حي الواحة بالعقبة غرب العاصمة تونس، وهو يحاول تجاهل المنظر المعهود، أكوام من الفضلات الملقاة على الرصيف المقابل في غير المكان المخصص لها بينما تبعد الحاويات بضع خطوات عنها.
يقول متذمرا “لم يكن هذا ما تخيلته عندما انتقلت إلى هنا. اخترنا هذا الحي بسبب سمعته كمنطقة راقية، لكن تراكم القمامة أصبح مشهدا يوميا. لا أفهم كيف يمكن لمنطقة مثل هذه أن تعاني من مشكلة تكدس النفايات وغياب الوعي من المواطن في الحفاظ على بيئته ومحيطه”.
ما إن تدخل إلى الحي حتى تصادف نقطة تجميع نفايات في المحوّل الدائري الأول، الذي يعدّ منطقة خضراء، أين تتناثر الأوساخ في محيط الحاويات بسبب إهمال المواطنين والبرباشة إلى جانب غياب التنسيق من الدائرة البلدية فيما يتعلق بمواعيد رفع الفضلات. وما يزيد الأمر تعقيدا بالحي تنصل les syndiques التابعين للعمارات السكنية من مسؤوليتهم في توفير حاويات مخصّصة للمتساكنين رغم أن الحي يضمّ عددا هامّا من العمارات السكنية.
بين رفاهية السكن وغياب الحلول
حي الواحة، المعروف بمساكنه الجديدة نسبيا وهدوئه مقارنة بالأحياء المجاورة إضافة إلى شوارعه الواسعة ومساحاته الخضراء المنتشرة داخل الحي وعلى أطرافه، بدأ يعاني في السنوات الأخيرة من انتشار الفضلات وتكدّسها حول نقاط التجميع وحتى في الأماكن العامة والخضراء وغابة الزيتون المجاورة.
تقول السيدة نادية(إسم مستعار)، صاحبة محل تجاري بالحي، “عندما اقتنينا فيلا في الحي في 2017 كان شبه فارغ ونظيف أما الآن فقد اكتظ الحي بالمساكن والمحلات والفضلات، فعندما أخرج من المنزل صباحا لأوصل أطفالي للمدرسة، أجد القمامة متناثرة أمام العمارات وعلى الطريق وفضلات البناء والأشجار بجانب المدرسة ما يجعل الأطفال عرضة للحوادث كما أن منظر الأوساخ يترسخ شيئا فشيئا في أذهانهم ما يجعلهم بدورهم غير مبالين بإلقاء الفضلات في غير محلها.”
رغم أن الحاويات موزعة في عدة نقاط بالحي إلى أن كل نقطة في حد ذاتها تعتبر مركز تكدّس للفضلات حول الحاويات وفي كل المساحة المجاورة لها أين أكياس البلاستيك تنتشر على امتتداد أمتار وأمتار وتشوه المنظر العام للحي وللمناطق الخضراء به لولا بعض المبادرات من المواطنين وبعض المسؤولين بالجهة بتنظيم حملات تنظيف وتشجير.
يعتبر توقيت مرور شاحنة نقل الفضلات غير محدّد ومضبوط، فعلى عكس العديد من الأحياء التي تمر فيها شاحنة البلدية ليلا ليخرج المواطنون حينها فضلاتهم، في حي الواحة إلقاء الفضلات يكون “في كل وقت ومكان “،إذا يمكن أن ترى الحاويات مملؤة والفضلات مبعثرة حولها، فضلات منزلية وفضلات بناء وتشجير وغيره في وضح النهار فما إن تجمع البلدية الفضلات الساعة العاشرة صباحا أحيانا أو الواحدة زوالا أحيانا أخرى أو ليلا في بعض الأحيان حتى يبدأ السكان في تكديس الفضلات مباشرة (منذ أسبوعين تقريبا انتظم وقت تجميع النفايات حيث تمر شاحنة البلدية ليلا لكن السكان غير ملتزمين بتوقيت اخراج فضلاتهم لغياب الإعلام والتوجيه والردع).
تحاول مجموعة صغيرة من السكان تنظيم أنفسهم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي لمناقشة المشكلة والضغط على البلدية وتحسيس بقية السكان ونشر الوعي بينهم. يقول السيد هشام “لدينا أمل أن تتحسن الأمور، لكننا بحاجة إلى جهود أكبر من البلدية. أيضا، يجب أن نتحمل مسؤوليتنا كسكان للحفاظ على نظافة الحي التغيير يتطلب تعاونا بين البلدية والسكان، النظافة مسؤولية مشتركة.”من جهة أخرى، تسعى الدائرة البلدية لتوسيع خدمات الجمع وتنظيم نقاط التجميع والتوصل لحل في تحمّل العمارات مسؤولية فضلاتها.
حي الواحة، رغم رقيه، أصبح صورة تعكس تحديات التوسع العمراني وسوء إدارة الموارد. فالقصة لا تقتصر على أكوام الفضلات، بل تمتد إلى ضرورة التوازن بين الرفاهية والمسؤولية البيئية، وذلك ينطبق على كل الأحياء التي تتطلع للحفاظ على جودة الحياة وسط التحديات الحضريّة.
تعتبر مشكلة الفضلات في الأحياء السكنية إحدى أبرز التحديات البيئية التي تواجه المدن الكبرى، خاصة ولاية تونس التي تحتل قائمة الولايات الأكثر كثافة سكانية بمليون و78 ألف و412 ساكنا. كشف التقرير السنوي لهيئة العامة لمراقبة المصاريف العمومية لسنة 2022، أن أكثر من 3.18 مليون طن من النفايات المنزلية والشبيهة تفرز سنويا في تونس، 25 بالمائة منها في تونس الكبرى، وذلك بناء على الإحصائيات المصرح بها من البلديات.
وأوضح التقرير أن ولاية تونس من أكبر الولايات التي تفرز نفايات سنويا بحوالي 13 بالمائة من المجموع الوطني للنفايات، بواقع 396 ألف طن بمعدل كلغ واحد يوميا من النفايات المفرزة للساكن الواحد. مفيدا أن مليوني طن فقط من النفايات المنزلية تودع سنويا بالمصبات المراقبة وشبه المراقبة أي ما يمثل 63.39 بالمائة، كما أظهر أن عدد المصبات المراقبة انخفض إلى 11 مصبا بعد غلق ستة مصبات، علما أن عددا منها تجاوز العمر الافتراضي إلا أنها ما تزال قيد الاستغلال. ما يجعلنا نتسآل أين تذهب قرابة 37 بالمائة من النفايات المفرزة؟.
من جانبه أكّد وزير البيئة الحبيب عبيد خلال الجلسة العامة بالبرلمان المخصصة لمناقشة مهمّة وزارة البيئة في 13 نوفمبر 2024، أن 80 بالمائة فقط من النفايات المنزلية تصل إلى المصبات في حين تبقى 20 بالمائة في الشوارع وهي نسبة يجب أن تصل إلى المصبات المراقبة وكشف الوزير خلال الجلسة، عن تصرف وزارة البئية في 16 مصبا مراقبا يعالج يوميا 7600 طن من النفايات المنزلية التي تصل إلى 15 ألف طن يوم عيد الإضحى.
وفقا لبيانات وزارة الشؤون المحلية والبيئة، يبلغ عدد الحاويات العامة داخل أحياء العاصمة حوالي 25 ألف حاوية، أي بمعدل حاوية تقريبا لكل 56.48 ساكن مع العلم أنه وفق آخر إحصائية رسمية ينتج الفرد الواحد 1 كغ يوميا من النفايات المنزلية ووفق كثافتها يمكن أن تتراوح بذلك بين 5 إلى 10 لتر، إلا أن هناك نقصا في توزيعها بصفة متساوية بين الأحياء ما يؤدي إلى تكدس النفايات في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية.
تعتمد البلديات غالبا نظام الجمع اليومي، إلا أن تأخر الشاحنات أو عطل المعدات يؤدي إلى تراكم الفضلات، خاصة في الأحياء ذات الكثافة السكانية المرتفعة ذلك إضافة إلى عدم التزام أعوان رفع الفضلات والسكان بتوقيت محدّد لإخراج الفضلات ورفعها، رغم أن الأمر الحكومي عدد 433 لسنة 2017 ينص على إخراج الفضلات من السابعة مساء إلى العاشرة ليلا ويؤكد على التعرض لخطايا في حالة مخالفته إلا أن إخراج الفضلات في الأحياء يكون في كل الأوقات.
يؤكد المختصون وخبراء البيئة أن تراكم النفايات المنزلية، خاصة النفايات البلاستيكية والعضوية، يؤدي إلى أضرار بيئية وصحية وخيمة خاصة النفايات البلاستيكية، التي تتحلل ببطء شديد، وتتسبب في تلوث التربة والمياه الجوفية، حيث تطلق مواد كيميائية سامة تؤثر سلبا على النباتات والحيوانات. أما النفايات العضوية، فعند تراكمها، تُنتج غازات مثل الميثان نتيجة التحلل اللاهوائي، وهو غاز يساهم في تغير المناخ ويزيد من مخاطر الاشتعال الذاتي في مصبات النفايات.
بالإضافة إلى ذلك، يجذب تراكم النفايات الحشرات والقوارض التي تنقل الأمراض المعدية مثل الملاريا والتيفوئيد. كما أن حرق النفايات غير المدروس يطلق غازات سامة، مثل أول أكسيد الكربون والديوكسينات، التي تلوث الهواء وتسبب مشاكل في الجهاز التنفسي وأمراض مزمنة كالسرطان. هذه المشكلات تؤثر سلبًا على الأنظمة البيئية المحلية، حيث يتم تدمير مواطن الكائنات الحية والتسبب في اختلالات بيئية تؤثر على السلاسل الغذائية.
تؤكد الدكتورة والخبيرة البيئية إميلي جرينفيلد في تقرير لها “المخاطر الصحية لتراكم النفايات وتلوث المياه” بموقع سيغماايرثSigma Earth أنه”بسبب تراكم القمامة على الأرض والمسطحات المائية، تطورت العديد من الأمراض بشكل وبائي. وتنتشر هذه العدوى عن طريق ناقلات مثل الذباب والبعوض والقوارض والحيوانات الأليفة. تعتبر القمامة بمثابة موطن لتكاثر هذه النواقل. وبالتالي، هناك حاجة ملحة لإدارة التخلص من النفايات بشكل فعال”.
وأمام هذا الوضع المتفاقم لتراكم النفايات وتشويهها لعديد الأحياء التونسية على غرار حي الواحة بالعقبة دائرة الحرايرية، فقد أصبح من الضروري زيادة عدد الحاويات العامة في الأحياء المكتظة لتجنب تراكم الفضلات، وحسن اختيار أماكن تركيزها إضافة إلى تعديل مواعيد رفع النفايات لتكون أكثر نجاعة وفعالية.
كما يجب العمل على تعزيز الوعي البيئي من خلال حملات توعية تشارك فيها الجمعيات المحلية والبلديات لتعزيز السلوكيات البيئية الصحيحة، خاصة أمام غياب الوعي الملحوظ بأهمية المحافظة على نظافة الأحياء بعد كل حملة تنظيف أو تشجير أين يعمد الأهالي في حي الواحة مثلا إلى إلقاء الفضلات عشوائيا في غير مكانها المخصص بعيدا عن الحاويات.
يقول السيد وليد (إسم مستعار) وهو ينظر بحسرة لمنزله الفاخر قبالة مساحة خضراء بحي الواحة ” اضطررت لمغادرة منزلي والحي بأكمله بعد رحلة طويلة من محاولة “تغيير العقلية” فكل صباح أستيقظ وأمسي على أكوام القمامة الملقاة هنا وهناك والروائح الكريهة المنتشرة منها، أنا حقيقة أستغرب كيف للبلدية أن تخصص نقطة جمع نفايات داخل مساحة خضراء، الأمر أصبح لا يطاق فغادرت..لكني تفاجأت اليوم وأنا أزور بيتي لأتفقده بنظافة المساحة وتشجيرها ببادرة من بعض المتساكنين المتطوعين، ليت الحاويات يتم نقلها من هنا، لربما أعود يوما لمنزلي”.