مبروكة خذيير–كوسموس ميديا
سألتُ أحدَ محرّكات الذكاء الاصطناعي عن أبرز الانتفاضات البيئية في العالم، فذكر لي «غريتا تونبرغ» و«حركة إكستينكشن ريبليون» في أوروبا، و«المدافعين عن الأمازون» في أميركا اللاتينية… لكنه توقّف أيضًا عند تونس…عند قابس تحديدًا…
ذلك لم يكن صدفة…فقابس، المدينة التي تخنقها المصانع منذ نصف قرن، خرج أهلها إلى الشوارع لا بدافع السياسة ولا الأيديولوجيا، بل بدافع الألم — ألم من فقدوا أحبّتهم لأن الهواء صار سامًّا، والماء صار ملوّثًا، والحياة ضاقت حتى عن التنفّس.
تحركهم ألم الماي — ذاك الماء الذي صار مرًّا، والهواء الذي صار عبئًا، فصار الناس يختنقون بصمتٍ لم يعد يُحتمل.
هذه الانتفاضة لم تكن فقط صرخة محلية ضدّ وضع بيئي خانق، بل درسًا عالميًا في العدالة البيئية. لقد أكدت أن القضايا البيئية ليست قضايا تقنية أو هامشية، بل قضية بقاءٍ وعدالةٍ وكرامةٍ إنسانية.

عندما توحّدنا الأرض بعدما فرّقتنا الانتماءات
في زمن التشتّت والانقسام، جاءت قابس لتعيدنا إلى الجذر المشترك الذي يربط الجميع: البيئة.
قد نختلف في السياسة أو الانتماءات أو المعتقدات، لكننا نتّفق جميعًا على أن التنفّس حقّ، والماء حقّ، والحياة حقّ. انتفاضة قابس البيئية أثبتت أن الإنسان، حين تُمسّ حياته، يمكن أن ينسى كل ما يفرّقه. خرج الناس من كل الأعمار والفئات والمناطق، من الأحياء الصناعية إلى الأحياء الشعبية، من النشطاء إلى العمّال، في مشهدٍ لم تعرفه المدينة من قبل. لقد تحوّل الغضب إلى ملحمة جماعية تُعيد تعريف معنى النضال المدني في تونس.
تلك المسيرة التاريخية التي جمعت آلاف المتظاهرين كانت حدثًا غير مسبوق في الذاكرة البيئية التونسية. لم يحدث أن خرج هذا العدد الهائل دفاعًا عن قضية بيئية، رافعًا شعار “قابس ليست منطقة تضحية”، ومعلِنًا أن الصحة والحياة ليست ثمناً يُدفع مقابل التنمية.

من تراكم الوجع إلى نضج الوعي
مشاكل قابس البيئية تمتدّ لعقود طويلة. منذ ستينيات القرن الماضي، حين تمّ تركيز المركّب الكيميائي، بدأ مسلسل التلوث الذي دمّر البحر والهواء والتربة، وهدّد صحة آلاف السكان. لكن الجديد هو الوعي الذي نضج في السنوات الأخيرة.
وعيٌ لم يهبط من السماء، بل تراكم بفعل الحراك الحقوقي، والنضال المدني، والعمل الإعلامي، الذي جعل الناس يرون العلاقة بين البيئة والعدالة الاجتماعية، بين التلوث والحق في الحياة.
لقد لعبت وسائل الإعلام المستقلة، وعلى رأسها «كوسموس ميديا»، دورًا أساسيًا في هذه اليقظة. منذ تأسيسنا، كانت البيئة في صلب اهتماماتنا: لا بوصفها موضوعًا تقنيًا، بل كمسألة وجود.
أعطينا الكلمة للمناضلين البيئيين، للعلماء، للضحايا، للنساء اللاتي يعشن قرب المصانع، وللشباب الذين رفضوا الصمت. و مع الوقت، صار الصوت الجمعي أقوى، وصار الاحتجاج فعلًا من أفعال الوعي، لا فقط الغضب.

قابس… الرقم الذي هزّ الصمت
في سابقة تاريخية، شهدت قابس تجمّعًا بيئيًا يُعدّ الأكبر في تاريخ تونس وربما في المنطقة. آلاف المواطنين خرجوا دفعة واحدة، في مشهدٍ لم يتحقّق حتى في القضايا الاجتماعية والسياسية الكبرى. ذلك الرقم لم يكن مجرّد عددٍ في الشارع، بل مؤشرًا على تغيّر عميق في الوعي الجماعي: أن الناس لم يعودوا يرون البيئة رفاهية، بل معركة من أجل الحياة نفسها.
درس لنا جميعًا
لقد أثبتت قابس أن الإنسان سئم مناويل تنموية مجحفة في حق الطبيعة والإنسان. النماذج الاقتصادية التي تقدّس الربح وتهمّش الحياة لم تعد مقبولة.
الناس اليوم يريدون نموذجًا جديدًا يقوم على العدالة البيئية، على التوازن بين الإنتاج والحماية، بين التنمية والحياة.
إن ما حصل في قابس ليس مجرد حادثة احتجاجية، بل تحوّل ثقافي عميق. الناس استعادوا إحساسهم بأنهم أصحاب حق، وأن الدفاع عن الأرض والماء والهواء هو شكل من أشكال المقاومة. وهذا التحوّل لا يمكن إلا أن يُحدث أثرًا متسلسلًا في بقية المناطق التي تعاني ظلمًا بيئيًا مشابهًا — من صفاقس إلى الحوض المنجمي، ومن البحيرة إلى بنزرت.

نحو مستقبل يعترف بالبيئة كحق إنساني
ما نراه اليوم هو بداية مرحلة جديدة في الوعي التونسي والعالمي:مرحلة تدرك أن البيئة ليست مجرد “قطاع” بل “قضية عدالة”، وأن الدفاع عنها هو دفاع عن الإنسان نفسه. لقد كانت قابس، رغم ألمها، منارة أمل.
أثبتت أن الوعي يمكن أن يغيّر المعادلة، وأن الناس حين يجدون منابر تعبّر عنهم، يصبحون أكثر قدرة على الحلم بالفعل لا بالكلام.
وفي زمنٍ تتصارع فيه المصالح، تبقى البيئة آخر ما يمكننا الاتفاق عليه جميعًا — لأننا ببساطة نعيش منها.
الخلاصة اذا حسب اعتقادي،انتفاضة قابس ليست فقط احتجاجًا على التلوث، بل علامة على تحوّلٍ تاريخي في وعي التونسيين. إنها تقول للعالم إن الإنسان حين يختنق، لن يسكت. وأن الأرض، حين تنزف، ستجد دائمًا من يدافع عنها.
جيل الاستدامة يولد في قلب قابس
الحراك البيئي في تونس، وخصوصًا في قابس، ليس مجرد ظاهرة عابرة، بل ثمرة سنوات طويلة من الجهد المتواصل والعمل الدؤوب، الذي قاده الصحافيون ونشطاء المجتمع المدني والمناضلون البيئيون على حد سواء ، قاده أيضاً فنانون و مبدعون و يكفي أن أذكر منهم صديقي و ابن المدينة المرحوم ياسر جرّادي .هذا الوعي لم يأتِ بين ليلة وضحاها، بل تشكّل بهدوء وثبات، وشارك فيه الجميع: جمعيات، أفراد، مؤسسات، وصحافيون،
عندما ترى كبار السن والشيوخ و العجائز يتقدمون الصفوف و هم يعلمون أن النتائج الفعلية قد لا تسعفهم الحياة للاستفادة منها تدرك بالفعل أن الأمر يتعلق بوعي بيئي تشكل في البنية الذهنية و الاجتماعية للتونسيين ،
قابس، التي واجهت التلوث الصناعي لعقود، تحتاج إلى أكثر من مجرد تنظيف سطحي؛ التربة والطبقات الجوفية والمياه وحتى صحة السكان تحمل آثارًا عميقة، قد تتطلب عقودًا للتعافي الكامل. ومع ذلك، فإن كل خطوة يقوم بها الشباب والشيوخ اليوم هي مسمار أمل يُدقّ في صرح المستقبل. هؤلاء ليسوا فقط ناشطين لحاضرهم، بل مهندسون لجيل جديد، جيل التنمية المستدامة، الذي سيتعلّم من تجاربهم ويواصل العمل من أجل بيئة نظيفة وصحية.
الحراك في قابس يثبت أن الوعي البيئي ليس شعارات فحسب، بل ممارسة يومية وثقافة تتشكل بالتعاون، وبالقدرة على رؤية ما وراء اللحظة الراهنة. إنه دعوة لكل تونس لتدرك أن حماية البيئة مسؤولية مشتركة، وأن كل جهد مهما كان صغيرًا اليوم، يبني غدًا أكثر أمانًا واستدامة.
لقد حان الوقت لأن نجعل من العدالة البيئية حجر الأساس لكل مشروع تنموي، وأن ندرك أن مستقبلنا — جميعًا — يبدأ من الهواء الذي نتنفسه.



