في ظلّ التّحديات المناخيّة المتسارعة التي تواجهها تونس والعالم، تتزايد الحاجة الملحة إلى مبادرات شبابية تعزز من الوعي البيئي وتفتح المجال أمام تفكير جماعي في حلول مستدامة. في هذا السّياق، تبرز أهمية المخيّمات البيئية كمنصات تفاعلية حيّة، تجمع بين التكوين والممارسة، بين تبادل التّجارب والإنخراط الفعلي في قضايا العدالة المناخيّة.
لعلّ مخيم المناخ ” Klima Camp” الذي احتضنته مدينة بنزرت على مدار 5 أيام، من 7 إلى 11 ماي 2025، بتنظيم من أكاديمية الحوار الوطني و جمعية أوكسيجين المسعدين، وبالشراكة مع منظمة فريدريش ناومان، خير مثال على هذا التّوجه.
تهدف هذه التظاهرة البيئية إلى توفير مساحة لتبادل المعارف والتجارب حول التغيرات المناخية والسياسات البيئية، وتمكين الشباب من أدوات التأثير الإيجابي داخل مجتمعاتهم المحلّية.
دور الشباب والإعلام في المعركة المناخية
ما ميّز هذه التظاهرة كان الحضور القوي للشباب، الذين برزوا كفاعلين رئيسيين في الحوار، حيث كانوا مبادرين بتقديم المقترحات. وقد شارك في هذا الحدث 14 شابًا وشابة من مختلف الولايات، مما أضفى تنوعًا وثراءً على النقاشات.
حيث ترى أسماء الوسلاتي كاتب عام أكاديمية الحوار الوطني أن الرهان على فئة الشباب في مثل هذه التظاهرات البيئية ليس مجرد اختيار، بل هو توجه مدروس ينبع من إيمان بدورهم المحوري في إحداث التغيير. وتؤكد في هذا السياق: “اخترنا مشاركة الشباب في هذا المخيم، لأنهم اليوم الأقدر على إيصال صوتهم إلى مختلف الفئات، خاصة عبر منصات التواصل الاجتماعي التي يتقنون استخدامها بفعالية.”
و في هذا السياق يؤكد حمدي بن بوبكر، أحد المشاركين في مخيم المناخ، أن أكثر ما لفت انتباهه هو الربط الذكي بين الإتصال والبيئة، مشيرًا إلى أن المخيم “أظهر كيف يمكن توظيف أدوات الاتصال لطرح الإشكاليات البيئية المعقدة، خاصة تلك المتعلقة بالتّغيرات المناخية”.
ويعتبر حمدي أن هذه المشاركة مثّلت فرصة لتطوير مهاراته في مجال الاتصال البيئي، ليس فقط من خلال الجلسات النظرية، بل أيضًا عبر التجارب الميدانية التي وصفها بالملهمة. فقد أتيحت للمشاركين زيارات ميدانية لعدة مشاريع بيئية، منها الزراعة المائية بأوتيك و التي تعد حلا بديلا لمجابهة شح المياه و كذلك الزراعة الرملية أو المتعارف عليها بنظام “القطعاية” في منطقة غار الملح و هو نظام بيئي فريد يعتمد على حركة المد و الجزر البحري في عملية ري الخضروات و الزراعات . و تعتبر القطعاية من بين نظم التراث الزراعي ذات الأهمية العالمية المدرجة ضمن قائمة منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO) في سنة 2020. ، بالإضافة إلى منطقة سيدي مشرق المعروفة بالسياحة الإيكولوجية.
ويضيف حمدي بن بوبكر أن هذه التجارب عززت رغبته في الاشتغال على إنتاج محتوى بيئي يلامس الواقع ويصل إلى الناس، داعيًا كل من يهتم بقضايا التغيرات المناخية إلى خوض تجارب مماثلة، “لأنها تُمثل مساحة حقيقية للتعلّم والتبادل والعمل الجماعي من أجل بيئة أفضل”.
صناعة المحتوى البيئي
أكّدت رئيسة جمعية “أوكسجين المسعدين”، ريم السعيدي، في تصريح لكوسموس ميديا، أن النسخة الثالثة من مخيم المناخ تميّزت بالتركيز على تطوير مهارات المشاركين في إنتاج المحتوى الرقمي المتصل بالقضايا البيئية. حيث قالت: “حرصنا في هذه الدورة على تعزيز قدرات الشباب في صناعة محتوى بيئي مؤثر، نظرا لما باتت تتيحه الوسائط الرقمية من إمكانيات واسعة لنشر الوعي والتأثير في السلوكيات الفردية والجماعية. فالمحتوى الهادف أصبح اليوم من بين أبرز أدوات التّغيير البيئي.”
وأوضحت ريم السعيدي أن إختيار جهة بنزرت لإحتضان هذه الدورة لم يكن إعتباطيا، بل جاء نظرا لما تزخر به من تنوع بيولوجي، إلى جانب كونها من المناطق الأكثر تضررا من التّغيرات المناخية. وتضيف السعيدي أن الهدف الأساسي من هذا المخيّم البيئي هو تمكين الشباب من أدوات التأثير، إيمانًا من الجمعية بأن التغيير الحقيقي يبدأ من الكلمة، الصورة، والقصة التي تحرّك الوعي الجماعي.
ورشات وحوارات من أجل الوعي
توزّعت فعاليات المخيم بين جلسات نظرية حول الحوكمة البيئية والتّغير المناخي و أزمة المياه في تونس، وورشات تناولت التلوث البلاستيكي وأثاره. اذ تشير المعطيات إلى أن التونسي يستهلك سنويًا حوالي 4.2 مليار كيس بلاستيكي، ويلقى في البحر نحو 500 طن من البلاستيك، ما يساهم في تفاقم التلوث البحري وتهديد التنوع البيولوجي، ويشكل خطرا مباشرا على صحة الإنسان والإقتصاد الأزرق.
كما تناولت الورشات تمارين تطبيقية، إذ تم تقسيم المشاركين إلى ثلاث مجموعات عملت على تقديم حلول للتأقلم مع التغيرات المناخية على المستوى الفردي، المحلي والمركزي. و تعتبر مشكلة شح المياه إحدى القضايا البيئية الأكثر إلحاحا و التي تم التطرق إليها مرارا خلال فعاليات مخيّم المناخ . في هذا الاطار اقترحت المجموعة الأولى، على المستوى الفردي، ترشيد استهلاك المياه في الحياة اليومية، ونشر الوعي عبر منصات التواصل الرقمي حول أهمية الحفاظ على هذه الثروة. أما على المستوى المحلي، فطرحت المجموعة الثانية مبادرات مثل جمع مياه الأمطار وتشجيع الفلاحة الذكية باستخدام تقنيات الري. فيما قدمت المجموعة الثالثة حلولاً مركزية، شملت مراجعة التشريعات و الاستراتيجيات المتعلقة بالتصرف في الموارد المائية، ودعم الشركات الناشئة المختصة في تقنيات إعادة استعمال المياه وتطوير تقنيات الري الذكي.
أبرزت هذه التمارين قدرة الشباب على التفكير الجماعي، واقتراح حلول واقعية و متكاملة للتأقلم مع أزمة تغيّر المناخ.
بين التّشريع والإبتكار
ترى الدكتورة في القانون الدولي للمياه حكمة عاشور، أن الوقت قد حان لإعادة النظر في المنظومة القانونية البيئية، سيما منها تلك المتعلقة بالتصرف في الموارد المائية، مؤكدة أن التحديات المناخية والبيئية التي تشهدها المنطقة، من تلوث واستنزاف مفرط للموارد، تفرض مراجعة شاملة للتشريعات القائمة.
وأوضّحت حكمة عاشور أن تطوير قانون المياه يجب أن يتم ضمن مقاربة تشاركية تُشرك فيها مختلف الأطراف الفاعلة، من أكاديميين ومجتمع مدني ومواطنين، لضمان نجاعة تطبيق السياسات الجديدة. وشددت على أن تحقيق العدالة البيئية والمائية يتطلب توفر إرادة سياسية حقيقية، إلى جانب آليات رقابية صارمة ونصوص قانونية مرنة تستجيب لتحولات الواقع البيئي، وتضع في صلبها مصلحة المواطن والبيئة معًا.
ولأن التحديات تتجاوز حدود الدولة، إعتبرت الدكتورة في القانون الدولي للمياه أن النماذج الدولية الناجحة يمكن أن تكون مصدر إلهام لتونس، مشيرة في هذا الإطار إلى تجربة سنغافورة الرائدة، التي نجحت في إعادة تدوير 100% من مياهها المستعملة باستخدام تقنيات متطورة جعلت المياه المعالجة صالحة للشرب. و إعتبرت حكمة عاشور أن هذا الإنجاز لم يكن ليتحقق دون استثمار طويل الأمد في التكنولوجيا، ورؤية سياسية وضعت الأمن المائي على رأس الأولويات الوطنية.
أما في السّياق المحلي، فتؤمن عاشور أن القطاع الخاص، وخاصة الشركات الناشئة، يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في إيجاد حلول مستدامة للتحديات المائية. وأشارت إلى أن عديدا من هذه الشركات بدأت فعليًا في تطوير تقنيات السّقي الذكي، وهي حلول من شأنها خفض استهلاك المياه في القطاع الفلاحي، الذي يُعد أكبر مستهلك لهذه الموارد. وترى حكمة عاشور أن تشجيع الابتكار والاستثمار في هذا المجال من شأنه تحسين كفاءة استخدام المياه، بما يعود بالنفع على الإنتاج الزراعي ويحمي الموارد الطبيعية من الإستنزاف.
حلول مستدامة
من بين الحلول التي تم استعراضها خلال المخيم، تبرز الزراعة المائية كإحدى الوحدات التي تساهم في تقليص استهلاك المياه، بينما تتميز الزراعة الحراجية بقدرتها على الإنتاج والمحافظة على التربة، مما يعزز الاستدامة البيئية في مواجهة تحديات نقص المياه.
يرى المهندس البيئي والمهتم بالشأن المناخي، حمدي حشاد، أن التغيرات المناخية الراهنة، وعلى رأسها أزمة نقص المياه، فرضت ضرورة البحث عن حلول مبتكرة وغير تقليدية. وتُعد الزراعة المائية من بين أبرز هذه الحلول، حيث تُمارس خارج التربة ضمن نظام يعتمد على مضخات كهربائية وأنابيب بلاستيكية لتوصيل الماء والمغذيات مباشرة إلى جذور النباتات. وتُسهم هذه التقنية في التخفيف من الضغط على الزراعة التقليدية التي تعاني من مشكلات متزايدة، كندرة المياه وتلوث التّربة.
مضيفا بأن الزراعة المائية تعتبر خيارًا فعالًا للحفاظ على جودة المنتجات الزراعية، إذ تمنع امتصاص الملوثات الموجودة في التربة. كما أنها لا تُسبب أضرارًا بيئية كبيرة، وتتيح إمكانيات للتطوير مستقبلاً، بما يجعلها أكثر كفاءة في مواجهة التحديات الزراعية المرتبطة بالتغيرات المناخية.
و من جهتها أكدت غادة قرطاس عن جمعية les amis de CAPTE أن الزراعات الحراجية “l’agroforesterie” “تمثل نموذجا فلاحياً مستداما يمكن تبنيه في تونس ودمجه في المستغلات الزراعية.اذ يقوم هذا النظام على تنويع الغطاء النباتي في نفس الرقعة الأرضية، حيث تتعايش الأشجار والشجيرات مع النباتات والخضروات، إلى جانب إمكانية إدماج تربية الحيوانات بطريقة تخلق تفاعلات مفيدة بيئيا وإقتصاديا.
و أوضحت غادة قرطاس أن هذا النموذج لا يساهم فقط في تنويع الإنتاج واستغلال الأرض طيلة السنة، بل يُعد حلًا فعّالًا لمجابهة التغيرات المناخية، إذ تساعد الأشجار على حماية التربة من الانجراف، وتوفير الظل، وتحسين خصوبتها، فضلًا عن دورها في ترشيد استهلاك المياه.
كما أضافت أن الزراعات الحراجية تعزز من التنوع البيولوجي، من خلال خلق نظام بيئي غني ومتوازن داخل الحقل، مما يساهم في مقاومة الآفات بشكل طبيعي، ويُعيد إحياء العلاقة المتوازنة بين الإنسان والطّبيعة.
الإهتمام البيئي: من الوعي إلى التطبيق
عبّرت سندة، طالبة في هندسة الصيد البحري، عن اهتمامها العميق بالشأن البيئي، مشيرة إلى شعورها بمسؤولية التوعية تجاه القضايا البيئية. وقد شاركت في هذا المخيم المناخي بهدف رفع الوعي والبحث عن حلول مستدامة قابلة للتطبيق. تقول: “نعلم أن الحلول موجودة، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في ضعف التطبيق. من خلال هذا الفضاء، نطمح إلى تحويل الأفكار إلى خطوات عملية تخدم البيئة والمجتمع معًا”.
و ترى سندة أن هذا الفضاء يمثل فرصة حقيقية لاكتساب مهارات في صناعة المحتوى البيئي، موضحة: “نهدف من خلال هذه الخطوة إلى التأثير الإيجابي ورفع وعي الجمهور بالقضايا البيئية. التوعية تبدأ بالكلمة والصورة، ومن موقعي أشجع كل شاب وشابة على الانخراط في مبادرات مماثلة، لأن التغيير يبدأ منّا.”
كما تحدّثت مريم بوعبسة، طالبة في مجال الهندسة الطاقية، عن تأثير المخيم على نظرتها للوضعية المناخية في تونس، قائلة: “هذا المخيم غيّر نظرتي تمامًا للوضعية المناخية في تونس. اكتسبت معارف جديدة ووعيًا أعمق بالتحديات التي نواجهها، وخاصة فيما يتعلق بأزمة الطاقة والمياه. إن شاء الله أطبّق ما تعلمته هنا في مساري المهني، حتى تكون لي بصمة حقيقية في مسار التغيير البيئي.”
ختاما يعتبر مخيم المناخ في نسخته الثالثة 2025 فرصة لتعزيز الوعي بأهمية مواجهة التغيرات المناخية بطريقة تشاركية، جماعية تتطلب تضافر الجهود من الجميع.
فمن خلال الورشات والنقاشات، تمكن الشباب من إدراك أن العمل المناخي ليس مجرد مرحلة تنتهي بإنتهاء التظاهرة، بل هو مسار مستمر يحتاج إلى التعاون الفعّال بين جميع القطاعات والافراد و الجماعات . و هو ما يدفع المشاركين نحو مواصلة العمل معًا وترجمة ما تم تعلمه خلال فعاليات مخيم المناخ إلى أفعال حقيقية لتحقيق التغيير الايجابي من أجل بيئة أكثر إستدامة .
رجاء الدريدي / كوسموس ميديا