سليديرمقالات

يدٌ في الرمل ويدٌ في البحر: نساء غار الملح في مواجهة المناخ والنسيان

راضية الشرعبي -كوسموس ميديا- بنزرت


في غار الملح، تتقدّم النساء الصفوف الأولى في مواجهة التغيرات المناخية، رغم أنّهن الأكثر هشاشة أمامها. فبين المدّ والجزر، وفي القطعاية كما في البحيرة، تتحمّل النساء عبء التقلّبات الطبيعية دون حماية أو اعتراف.

فحين ترتفع درجات الحرارة، أو تُغلق الممرات المائية بالرمل، أو تتراجع خصوبة الأرض، تكون المرأة أول من يشعر بالأثر؛ لأنّها هي التي تزرع، وتجني وتعدّ الطعام من محصولها القليل.

 ترفض فتحية الحديث إلى الكاميرا وتكتفي بالإشارة إلى زوجها الذي تعود على التصريحات ، وكأن صمتها جزء من إيقاع المكان المنسجم مع رائحة البحر وملوحة الأرض ونسيم القطاعية الذي يمر فوق الحقول الرملية. صمتها ليس مجرد رفض للكلام بل نافذة على واقعها، حيث تعبها ومجهودها يتماهى مع القطاعية الصّامدة رغم التغيرات المناخيّة. 

هنا في غار الملح،  أول مدينة عربية وشمال أفريقية تدخل قائمة  “رامسار” وهي معاهدة دولية تهدف للحفاظ والاستخدام المستدام للمناطق الرطبة  سنة 2018 ، على حافة البحر وبين حبات الرمل المالحة، تمتدّ قطع أرض صغيرة يسمّيها أهلها القطعاية، جزر من رمال خفيفة تُروى بماء البحر  ومياه  المطر  و هي من نظم التراث الزراعي  ذات الاهمية العالمية المدرجة ضمن قائمة منظمة الزراعة للأمم المتحدة سنة 2020 . حيث يعمل  زوجها علي القارصي مع أبنائه منذ الفجر، ينثر السماد الطبيعي ويعيد تثبيت  نبات القصب الذي يقوم بدور كاسر للرياح وتثبيت القطايع والفصل بينها.
إلى جانبه، تسير  زوجته فتحية في صمت دافئ، ترافقه بملامح هادئة وابتسامة تشبه رضا الأرض بعد المطر. تكتفي بتوزيع وجبة الغداء لفريق الصحفيين الذين زاروهم ذلك اليوم ضمن مشروع دعم الإعلام التونسي (PAMT2) . مع كل وجبة تختبئ حكاية صبر امرأة ، وفي كلّ رغيف تقدّمه للزوّار طعم أرض قاومت الملوحة والحرّ والمدّ  .

القطعاية… ذاكرة الأرض المهدَّدة

 يواجه هذا الإرث الزراعي الوحيد من نوعه في العالم تهديدات شتى أهمها التغيرات المناخية والأنشطة البشرية فقد أدى إنشاء الميناء الجديد وتعبيد الطريق الرابط بين المدينة والميناء إلى  انخفاض كبير لمنسوب المياه المتدفقة الى السبخة من خلال البوغاز، ذلك  الممرّ المائي  الطبيعي الذي يمكّن من تبادل المياه بين البحر والسبخة. وقد أوضح علي القارصي  أن الانخفاض الكبير في مستوى مياه السبخة أثّر سلبا على وصول المياه العذبة إلى الجذور عند هطول الأمطار.

تؤدي التيارات البحرية في المنطقة إلى تراكم الترسبات الرملية داخل المجرى المائي الذي يصل السبخة بالبحر، وهو ما يفرض على فلاحي القطايع عناء تسريحه. هذا العمل الشاق يتطلّب مجهودات جرف دائمة ومكلفة، تتحمّلها الدولة والفلاحون معا. وبحسب شهادة علي القارصي، فإنّه لا يتوانى رفقة مجموعة من الفلاحين، عن إعادة فتح هذا المجرى في كل مرة حتى لا تختنق السبخة بما فيها

تمثّل حقول القطعاية داخل سبخة سيدي علي المكّي،   27 بالمئة من مجموع الأراضي الزراعية الرملية الممتدة على 220 هكتار. وتتميز بصغر حجمها و محاصيلها الموسمية الأساسية التي تتضمن البطاطا ، البصل، الفلفل، واللوبيا، إضافة إلى مزروعات صيفية مثل البطيخ. يقول علي القارصي “ إن القطعاية تنتج محاصيل بجودة عالية جزء منها معد للتصدير والجزء الآخر يلبي احتياجات العائلة ويمثل مصدر رزقها و جزء ثالث من نصيب السوق المحلية.”   وتتم زراعة هذه المحاصيل  دون ري على تربة رملية تسمح للنباتات بتلبية احتياجاتها المائية عن طريق ملامسة جذورها لطبقة رقيقة من المياه العذبة فوق المياه المالحة

يقصّ القارصي صراعهم اليومي  من أجل الصمود مع كل موسمٍ جديد، لا يعمل وحده في هذه الأرض فزوجته بصمتها حاضرة في كل بذرة تُزرع وفي كل محصول يُجمع. هي اليد التي تلتقط البذور وتغربلها، وتعيد إلى “القطاعية” نبضها كلّما أنهكها الجفاف.

ذلك الصمت الذي يحيط بها هو ملمح من واقع أوسع في غار الملح، حيث النساء يشتغلن في صمت ويُعتبرن من الفئات المهمَّشة التي نادرا ما يُسلَّط عليهن الضوء فنشاطهنّ اليومي ومساهمتهن في الانشطة الزراعية تعتبر امتدادا لواجبها الأسري وليست عملا اقتصاديا مستقلا. هذا التهميش يجعلها خارج الحسابات الرسمية لسوق الشغل، فلا تُذكر في الاحصائيات ولا يعترف بحقوقهن كعاملات.

تقول رئيسة الاتحاد المحلّي للفلاحة والصّيد البحري زهرة نفاف إن معظم أراضي القطعاية تعمل فيها النساء مع أزواجهن وتساهم في عملية الزرع والجني والخزن وإن عمل النساء في الفلاحة غير مرئي، رغم أنه يشكّل ركيزة أساسية لاستدامة الحياة الريفية والأمن  الغذائي  وتضيف نفاف انها عنصرا مهما في الحفاظ على التراث الزراعي في غار الملح.

 قصة علي وزوجته ليست استثناء، بل هي مرآة لنساء غار الملح اللواتي يشتغلن في صمت، يواجهن تغيّر المناخ بجهد يومي لا يُقاس بالأرقام. في كل يد متشققة من الملح، وفي كل قِدر يغلي على نار هادئة، تختبئ حكاية مقاومة صغيرة لا يراها أحد.

التغيّرات المناخية هنا لا تُقاس فقط بانخفاض الإنتاج، بل بتغيّر إيقاع الحياة نفسه: في القطاعية، تتراجع مردودية المحاصيل الرملية مع كل موسم جفاف، وفي البحر أيضا ، تصطاد الصيّادة الوحيدة  في المنطقة أسماكا أقل، بينما تزداد شباكها امتلاءً بالسلطعون الأزرق الذي التهم المصائد وأربك دورة البحر.

ألفة قدّة بحارة

هناك في  البحيرة أيضا  تختبأ  ألفة قدّة،  امرأة  خمسينية وحيدة اختارت أن تصارع  أمواج البحر، اختصّت  منذ  طفولتها في صيد القرنيط بالغطس، عادت إلى البحر بعد 27 سنة من الانقطاع لتعاود  الخروج  الى الصيد ولكن هذه المرة مع زوجها حاتم المكي لتكتب وجودا آخر مقاوما .هكذا، تتشكل صورة غار الملح: نساءٌ ينسجن خيوط الحياة من تراب مالح وماء مالح، كي لا يذوب المكان في النسيان .

 ظلت صامدة حتى حين غيّر المناخ وجه البحيرة 

على قارب صغير اختارت الفة أن تتكيّف مع التغيرات المناخيّة وإن تصارع وحدها ” داعش ” او السلطعون الأزرق”، الكابوس الذي ارهق الصيادين بسبب ارتفاع درجات الحرارة في البحر المتوسط الناتج عن تغير المناخ.  سمّي هكذا لسلوكه العدواني ومهاجمته الأسماك والصيّادين. غزا داعش بحيرة غار الملح  وأثر سلبا على مصائد الأسماك التقليديّة التي تعدّ مصدر دخل أساسي للكثير من العائلات  . تقول ألفة في حديثها لمنصة كوسموس ميديا: ” في الماضي القريب كنت اصطاد ” القرنج الأخضر” و التريليا والقمبار باستعمال الشباك ، تراجعت الثروة السمكية في البحيرة  ولكن عندما أتى السلطعون الأزرق لم يبقى لنا شيئا ، وتراجع المكسب  ومنينا بخسائر كبيرة”

 قاومت ألفة كغيرها من البحارة  وحاولت التكيّف  مع هذه التغيرات  وأصبحت تصطاد ” داعش” عبر ” الدرينة” . تقول الفة في مواصلة حديثها:” تركنا وحدنا  نحن صغار الصيادين  لم يلتفت الينا أحد  فلا شيء يشجع على البقاء والمواصلة في هذا الميدان”.  فالبحر على حدّ تعبيرها مثل الحياة لا يُعطي إلا لمن يصرّ على البقاء فيه.  

 تواصل حديثها عن المصاعب التي تهدد البحيرة وحياتهم داخلها بأن “البوغاز”  الوحيد الذي يربط البحيرة بالبحر في حاجة الى تسريح  والى مزيد حفره لتغذية البحيرة  حتى يجد السمك القادم عبره من البحر مكانا آمنا وتجد شباكنا ما تصطاد” وأن الصيد الجائر بسبب انتشار الصيادين غير المرخّصين وغياب الرقابة   عرّض البحيرة للاستنزاف. 

يوما بعد يوم يُستنزف البحر فلم تعد الأسماك تجد وقتا للتكاثر، ولم تترك البحيرة لتستعيد توازنها الطبيعي. وفي ظلّ هذه الفوضى، تصبح لقمة عيشها مهددة  من الطبيعة التي تتغيّر، من البشر الذين لا يلتزمون بالقوانين.

 لا تقاوم ألفة ” داعش” فقط بل النظرة الذكورية للمجتمع أيضا، بالتغيرات المناخية جعلت البحر أكثر قسوة، والمواسم أكثر اضطرابا، والمصائد أقلّ عطاء، في حين ما زال المجتمع ينظر إليها بدهشة، كأن وجودها في  الصيد خروج عن المألوف لا استمرار للحياة.  نظرة تحاول حصرها في أدوار ضيقة لا تعترف بعملها كصيّادة. تقاوم من أجل رزقها، ومن أجل أن يعتاد البحر والناس معًا على صورة امرأة تمسك الشباك لا لتنجو فقط، بل لتثبت أن مكانها الطبيعي هو في قلب الحياة، حيث تكون.

في غار الملح، لا تنتهي الحكاية عند حدود الأرض أو البحر، قد تتراجع المحاصيل، وقد تزداد الملوحة، وقد يُغلق الممر المائي بالرمل، لكنّ هذه المدينة الصغيرة ما زالت تنبض بما يكفي من الحياة لتذكّرنا أن التراث ليس ماضيا، بل مسؤولية مشتركة. وتبقى النساء في غار الملح حارسات للذاكرة،  يكتبن بأيديهنّ حكاية الأرض التي لا تستسلم.

زر الذهاب إلى الأعلى