عندما تدخل قاعة المسرح، يحيط بك الدخان كغيمة كثيفة، ويتعذر عليك تمييز كرسيك الذي ستجلس عليه، وكأنك تستعد لاستنشاق هواءً مخلوطًا بالبخار.
ساعتان من الأجواء الضبابية تنتظرك هنا في قاعة الريو وسط تونس العاصمة..ساعتان فقط من أجواء ضبابية فما بالك بمن يمضون أعمارهم منذ الولادة وسط غيمة من التّلوث. قد لا نراها لكنها تتسلل للجسد حتى يتآكل كله..
عندما تصل الإشارة بالبدء، يظهر بطل المسرحية من خلف أبواب سوداء، وينطق بكلمة المفتاح التي تلخص كل شيء: “ويني الشمس”. بعد ذلك، تتدفق الأحداث بشكل سلس، وتتصارع الأرواح فوق خشبة المسرح لمدة ساعتين من الزمن.
هذا الصراع، الذي استمر لخمسين عامًا من المعاناة، اختزنه المخرج التونسي صادق الطرابلسي في مسرحيته لتكون صرخة فنية قوية ضد التلوث البيئي. “البخارة”، مسرحية تُظهر بؤس التلوث وتأثيره على الإنسان، وتجسد معاناة أهالي قابس الذين تحولت مدينتهم من “جنة” إلى “معبد الموت” بسبب التلوث.
في ظل التحديات البيئية المتزايدة التي تواجهها عديد المناطق التونسية، تأتي مسرحية “البخارة” كصوت يصدح عالياً لتنبيه الجمهور إلى مخاطر التلوث البيئي. هذه المسرحية، التي تم عرضها في مهرجانات كثيرة تعرض اليوم في قاعة الريو في أمسية رمضانية.انها أكثر من مجرد عمل فني، فهي رسالة واضحة تستدعي التأمل في التأثيرات السلبية لأفعال البشر على البيئة وصحة الإنسان.
التّلوث البيئي: تحديات قابس في مسرحية ‘البخّارة”
في مسرحية “البخارة”، يُجسد المخرج صادق الطرابلسي معاناة مدينة قابس بشكل متعمق. رغم أن المسرحية لا تذكر ولاية قابس بشكل صريح، إلا أن أحداثها ورسائل الممثلين تكشف بسرعة عن أن العمل الفني يركز على قابس، التي تحولت من جنة ساحلية إلى معبد للموت بسبب التلوث البيئي الناجم عن الصناعات الثقيلة.
تجسد المسرحية أدوارًا لعائلة، حيث يتأثر كل فرد بالتلوث بدرجات مختلفة. يصاب البعض بالمرض، بينما يضطر آخرون إلى الهجرة بحثًا عن حياة أفضل. وفي جزء من المسرحية، يختار أحدهم الانضمام إلى المحتجين الذين يرفضون الموت البطيء. ومع ذلك، يبقى البعض الآخر متشبثًا بالمنزل، رغم كل التّحديات.

يُظهر هذا التباين في التأثيرات كيف أن التلوث ليس مجرد مشكلة بيئية، بل هو أيضًا مشكلة اجتماعية واقتصادية تؤثر على حياة الناس بشكل عميق. في النهاية، تُظهر المسرحية أن التلوث مرادف للموت، حيث يهدد ليس فقط البيئة، بل أيضًا المستقبل نفسه للمدينة وأهلها.
عند متابعة أحداث “البخارة”، تشعر مع الممثلين أن التلوث البيئي هو أزمة تهدد الحياة على الكوكب، من خلال التركيز على التأثيرات الصحية للتلوث، مثل الأمراض الناجمة عن تلوث الهواء والمياه، وتأثيره على التنوع البيولوجي. حتى كلبة العائلة لم تتحمل تبعات هواء مسموم ثم ماتت.
رغم سوداوية المشهد وقتامة واقع المدن التونسية جراء التلوث الصناعي، إلا أن “البخارة” تعزز الوعي البيئي وتحث على العمل الجماعي لمواجهة هذه التحديات. “البخارة” هو العمل المسرحي الأول للمخرج التونسي صادق الطرابلسي، الذي نشأ في ولاية صفاقس حيث كانت تنتشر حوله شركات البخارة.
في تصريح له، يُشير صادق الطرابلسي إلى أن رحلة إنجاز المسرحية بدأت في عام 2018، حيث قام ببحث ميداني متعمق، متبوعًا بكتابة النص المسرحي. تعاون مع خير الدين دبية، الممثل البارز عن حراك “أوقفوا التلوث”، وزياد ملولي من حملة “خنقتونا” في صفاقس، بالإضافة إلى المنصف الجامعي من المجمع الكيميائي بقابس، الذي زودهم بمعلومات قيمة ساهمت بشكل كبير في صياغة المسرحية. لكون المخرج نشأ و هو يعرف جيداً “البخّارة”، فقد جعل هذا العمل أكثر ارتباطًا بالواقع، مما أضفى عليه لمسة حقيقية وملموسة.
تمثلت مسرحية “البخارة” من قبل طاقم فني متميز، بقيادة الممثلين رمزي عزيّز ومريم بن حسن وعلي بن سعيد وبليغ مكي وبلال سلاطنية، مع نص مؤثر من الياس الرابحي ودراماتورجيا من تماضر الزرلي. يعتمد التصميم المسرحي على إضاءة خافتة، حيث تُستخدم الألوان الصفراء والحمراء لتحفيز المشاعر المختلفة لدى الجمهور، مما يعكس وجع الاختناق ومخاطر التلوث البيئي.
تُعد مسرحية “البخارة” تتويجًا لإدانة الجرائم البيئية في تونس عبر الفن، حيث تُظهر بشكل فني مميز تدمير البيئة والمحيط. تعمل المسرحية على إثارة الوعي لدى الجمهور حول ضرورة التصدي للتلوث البيئي، وتدعو إلى ثورة فكرية وعمليّة لإنقاذ المدن التي تعاني من التلوث. إنها رسالة قوية ضد التلوث البيئي، تستخدم الفن كأداة للتوعية والتحفيز على العمل الجماعي لمواجهة التحديات البيئية.
صادق الطرابلسي: المسرح أداة مقاومة
يؤكد صادق الطرابلسي، مخرج مسرحية “البخّارة” في حديث له مع منصة كوسموس ميديا، أن “المسرح أداة مقاومة، فهو انعكاس لقضايا الشعوب بمختلف تصنيفاتها. دوره الأساسي هو النضال والدفاع عن القضايا الإنسانية والبيئية.” تعاني قابس من تحولات بيئية خطيرة، حيث تدهورت واحتها وتلوث بحرها، وأصبح نخيلها مهددا بالتسمم. لذلك، أطلق عليها في المسرحية وصف “الجنة المسمومة”.
رمزي عزيز: صرخة شخصية
رمزي عزيز، ابن ولاية قابس، يرى أن مسرحية “البخّارة” هي عمل فني يلامس أصوله وإنتماءه لتلك المنطقة. يعتبرها الأقرب إليه من بين المسرحيات السابقة التي شارك فيها. في حوار مع منصة كوسموس ميديا، يفيد رمزي عزيز: “هذا العمل يمثلني كإنسان ومواطن قبل أن أكون فنانًا. لقد شهدت بنفسي كيف انتقلت قابس من ‘جنة الدنيا’ إلى الوضع البيئي الكارثي الذي تعيشه اليوم.”
ويعتبر رمزي عزيز ان هذه المسرحية محطة مفصلية في مسيرته المسرحية، وهي صرخته كفنان ومواطن في وجه الصمت واللامبالاة تجاه الوضع الصحي والبيئي في تونس.
في لحظة من المسرحية، طلب رمزي عزيز إيقاف العرض لتمرير رسالة شخصية، حيث يشرح: “نحن لا ندّعي قدرتنا على التغيير المباشر، لكننا نعرّي الواقع ونثير الجدل حول القضايا الجوهرية. ‘البخّارة’ هي أول مسرحية تونسية تتناول الوضع البيئي، ونحن كفنانين، سلاحنا الوحيد هو التعبير على الركح المسرحي.”
مريم بن حسن: صوت المرأة في “البخارة“
في مسرحية “البخارة”، لعبت مريم بن حسن دور “دلال”، شابة تعاني مع عائلة زوجها من تبعات التلوث الصناعي. وسط هذه العائلة التي فقدت أم زوجها بسبب السرطان، تتحمل دلال مسؤولية رعاية والد زوجها المريض. كانت مريم بن حسن المرأة الوحيدة في هذه المسرحية، مما جعلها تشعر بمسؤولية أكبر في تمثيل هموم النساء الأخريات المتأثرين بالتلوث.
لإتقان دور “دلال”، قامت مريم بن حسن بمرحلة بحث وتقصي في ولاية قابس، حيث تعايشت معانات نساء المنطقة حتى تكون وفية في أداء الدور. “دلال” هي زوجة عاقر فقدت خصوبتها بسبب استنشاق الهواء الملوث، لتصاب هي الأخرى بالمرض الخبيث.
و في حوار مع منصة كوسموس ميديا، تؤكد مريم بن حسن أن المرأة في “البخارة” تطلب ببساطة أن تتنفس هواءً نقياً، وأن تنجب مولوداً وتعيش حياة صحية مثل باقي النساء. في ولاية قابس، يتأثر ثلاثة أشخاص من كل ست عائلات بالتلوث. بالنسبة لمريم، فإن هذه المسرحية ليست مجرد عرض، بل محاولة للفت الانتباه إلى تردي الوضع البيئي الذي يؤثر على حياتنا اليومية. المخرج كان ذكياً في طرحه للمسرحية، حيث انطلق من عائلة تونسية بسيطة تحاكي الواقع التونسي.
بلال سلاطنية: تجربة فنية فريدة في مسرحية “البخّارة”
يعتبر الممثل التونسي بلال سلاطنية من الأسماء البارزة في الساحة الفنية، حيث شارك في العديد من الأعمال المسرحية والسينمائية. ومع ذلك، فإن تجربته في مسرحية “البخّارة” تعتبر الأولى له في العمل على مشروع فني مسرحي يركز على القضايا البيئية.
يعتقد سلاطنية أن هذه التجربة تختلف عن سابقاتها، حيث يُعالج موضوع المسرحية بشكل واقعي ومعاصر، مما يضمن تأثيرها على كل من يؤمن بالقضية التي تعرضها. بالنسبة له، تدخل مسرحية “البخّارة” في إطار المسرح الاحتجاجي والبيئي، حيث تعالج كارثة تؤثر على الوقت الحالي، وليست محلية فحسب، بل عالمية.
في حديثه مع منصة كوسموس ميديا بعد عرض المسرحية في قاعة الريو، صرح بلال سلاطنية: “في السينما، أستطيع التعبير عن الواقعية بشكل أكبر من خلال الكاميرا والتفاصيل التقنية. لكن المسرح يقدم تأثيرًا آخر يجمع بين الأداء الحي والتفاعل المباشر مع الجمهور. نجحت المسرحية في جذب جمهور غير متوقع، وتمكنا من إيصال رسالتنا بطريقة قوية، وحصدنا العديد من الجوائز في أيام قرطاج المسرحية، المسرح التونسي، والهيئة العربية للمسرح.”
تعتبر المسرحية في تطور مستمر، حيث تتواكب مع التغيرات السياسية من خلال كشف الحقائق المتعلقة بالأوضاع البيئية وتداعياتها. أصبحت هذه القضية جزءًا من الوعي العام، والمسرحية فتحت العديد من الأبواب للأشخاص كي يتفاعلوا مع القضية، ودفعت بهم لإجراء بحوث والمطالبة بحقوقهم والتواصل مع المجتمع المدني، ومن أبرزهم حراك “أوقفوا التلوث… نحب نعيش” لإيجاد حلول لهذا الوضع الكارثي.
مسرحية ‘البخارة’ في قابس: رسالة الأمل في ظل حراك الشارع..
وجّه فريق عمل مسرحية “بخارة” دعوة الى وزارة البيئة لحضور عرض المسرحية في تونس العاصمة ولكن يبدو ان دعوتهم لم تحض بالقبول يقول مخرج المسرحية صادق الطرابلسي في ختام حديثه مع منصة كوسموس ميديا:”كنا نأمل أن تشارك وزارة البيئة في هذا العمل. تواصلنا سابقا مع الوزارة والهياكل المعنية بملف النفايات لدعوتهم لحضور عرض مسرحية “بخارة” لكنهم تراجعوا عن موافقتهم الأولية لعلهم متخوفون من الطرح الذي نقدمه، بما أن المسرحية تتعارض مع سياساتهم.. الفن الذي ننتجه يحمل بين طياته رسالة عميقة. جميعنا نعلم أن الدولة شبه غائبة في هذا المجال، فلا توجد دراسات كافية أو مشاريع فعالة للحد من التلوث. فالوضع البيئي يتطلب اهتماما جادا من جميع الجهات المعنية.”
وتقول الممثلة مريم بن حسن في ذات السياق: “أتمنى أن تتفاعل السلطات المعنية معنا لإيجاد حلول جذرية تكافح الأزمات البيئية المتصاعدة. وأعتقد أننا بحاجة لتربية أنفسنا على التصرف السليم مع النفايات، فوعينا بالمخاطر البيئية يعد أول خطوة لتفاديها و هذه هي المسرحية الأولى في تونس تنفذ لعمق موضوع بيئي و ما حضور الجماهير في كل مرة بهذه الكثافة، و ما تتويجاتنا في عديد المناسبات الا دليل على ان موضوع المسرحية حارق و مهم و يجلب الانتباه، بل هو معيش يومي لعديد التونسيين ليس في قابس فحسب بل في كل ربوع تونس.”
في قلب ولاية قابس، حيث يترقب أهلها بفارغ الصبر العرض القادم لمسرحية “البخارة”، يعتقد الممثلون والمخرج أن تأثيرها سيكون أعمق هناك. ففي هذه المدينة، يعلق السكان آمال كبيرة على هذه المسرحية، لأنها تسلط الضوء على معاناتهم اليومية، خاصة في ظل الاحتجاجات الكبيرة التي تلت القرارات الحكومية الأخيرة في 5 مارس 2025. هذه المسرحية التي تعالج قضية التلوث البيئي، تُعد رسالة قوية للأهالي، وتعكس وجعهم وتحفزهم على التغيير.
مبروكة خذير/كوسموس ميديا