مبروكة خذير / فتحية خذير -كوسموس ميديا تونس
في الوقت الذي يشكل فيه الهيدروجين الأخضر أحد الحلول الواعدة لتحقيق تحول طاقي نظيف يواكب الهدف العالمي لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، تُطرح معادلة معقدة تتعلق بخلق توازن مستدام بين إنتاج هذه الطاقة الصديقة للبيئة والمخاطر التي قد تهدد الموارد المائية المحلية بل إنها تمتد أيضا لتشمل أبعاداً اجتماعية وجغرافية.
فبينما تسعى الدول الصناعية الكبرى إلى الاستفادة من الهيدروجين الأخضر لتقوية اقتصادها وتحقيق أهدافها المناخية، تظل المجتمعات المحلية في دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط، التي تُعد من أهم مناطق الإنتاج، تعاني من الآثار البيئية الناجمة عن ضخامة هذه الصناعة، من استنزاف الموارد المائية و التحديات البيئية المرتبطة بالاستهلاك الطاقي..
يعكس هذا التباين واقعاً يتطلب مراجعة استراتيجية شاملة تدمج الطاقات الخضراء و العدالة البيئية والتنمية المستدامة لضمان أن تكون فوائد ثورة الهيدروجين الأخضر متاحة للجميع دون أن تتحمل الفئات الأضعف الأعباء الأكبر.
الهيدروجين الأخضر: طاقة مستدامة ومحرك التحول الطاقي العالمي
الهيدروجين الأخضر يُعد من أهم مصادر الطاقة النظيفة التي تعتمد على فصل جزيئات الماء عبر التحليل الكهربائي باستخدام كهرباء مستمدة من مصادر متجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، مما يجعله خاليًا من انبعاثات الكربون خلال عملية الإنتاج. ولهذا السبب، يُعتبر الهيدروجين الاخضر وقودًا مستدامًا يساهم بشكل فعّال في الحد من آثار التغير المناخي وتعزيز التّحول نحو اقتصاد أقل انبعاثًا للكربون.
توجد عدة أنواع من الهيدروجين، لعل أهمها الرمادي والأزرق والأخضر بحسب طريقة الإنتاج.
يتميز الهيدروجين الأخضر بإمكانيات واسعة للاستخدام في توليد الكهرباء من خلال خلايا الوقود بكفاءة عالية، إلى جانب سهولة تخزينه ونقله عبر شبكات الغاز الطبيعي القائمة، مما يمنحه ميزة تنافسية في مختلف القطاعات الصناعية والنقل، حيث يمكنه أن يحل محل الوقود الأحفوري التقليدي ويقلل من الانبعاثات الضارة بالبيئة.
ومع ذلك، يتطلب إنتاج الهيدروجين الأخضر كميات ضخمة من الطاقة بسبب حاجته لعملية التحليل الكهربائي، ما يؤدي إلى تكاليف إنتاج مرتفعة نسبيًا مقارنة ببعض مصادر الطاقة الأخرى. كما تستلزم مشاريعه تطوير بنى تحتية متقدمة وتقنيات حديثة لتحسين كفاءة الإنتاج وخفض التكاليف، بالإضافة إلى معالجة التحديات الأمنية المتعلقة بالتسرب والسلامة التي قد تطرأ خلال عمليات التخزين والنقل.
يتمتع الهيدروجين الأخضر بتطبيقات واسعة ومهمة تجعله محوراً رئيسياً في التحول نحو اقتصاد طاقي نظيف ومستدام . و يأتي الاهتمام المتزايد بإنتاجه نتيجة لتراكم عدة عوامل ومحركات تحفز على تسريع الاعتماد عليه كبديل للطاقة التقليدية. من أبرز هذه الأسباب وجود خطط دولية وإقليمية تهدف إلى تقليل أو إزالة انبعاثات الكربون التي تعد المحرك الرئيسي للاحتباس الحراري وتغير المناخ، حيث يمثل الهيدروجين الأخضر خياراً عملياً لتخفيض الانبعاثات خاصة في قطاعي الصناعات الثقيلة و النقل و هو ما يساعد الدول المصنّعة على تحقيق أهدافها المناخية والالتزام باتفاقيات تقليل الانبعاثات العالمية.
يشكل الهيدروجين جزءاً أساسياً من التحولات الجذرية في منظومات الطاقة الحديثة، إذ يعد بديلاً نظيفًا وفعالًا لتخزين الطاقة المتجددة ونقلها، مما يعزز من استدامة الأنظمة الطاقية. وإلى جانب ذلك، يوفر قطاع إنتاج الهيدروجين الأخضر فرصاً اقتصادية كبيرة بإمكانها خلق وظائف جديدة وتحفيز النمو الاقتصادي وجذب الاستثمارات في مشاريع البنية التحتية للطاقة المتجددة.
يلعب الأمن الطاقي أيضاً دوراً محورياً في هذا الاهتمام المتزايد، فإنتاج الهيدروجين من مصادر متجددة محلية يقلل الاعتماد على الوقود الأحفوري المستورد، مما يعزز من استقلالية الدول في مجال الطاقة ويوفر لها ثباتاً أكبر في الأسعار.
بالإضافة إلى ذلك، تسعى العديد من البلدان إلى تعزيز موقعها التنافسي عالمياً بأن تكون رائدة في سوق الهيدروجين الأخضر المتوسع، مستفيدة من الابتكار التكنولوجي وفرص التصدير المستقبلية.
يساهم الهيدروجين الأخضر في دمج مصادر الطاقة المتجددة بشكل أكثر فعالية، من خلال تخزين الفائض من الطاقة الشمسية والريحية واستخدامه في أوقات ذروة الطلب، ما يدعم استقرار الشبكات الكهربائية ويعزز الموازنة بين العرض والطلب.
كل هذه الأسباب مجتمعة تجعل من الهيدروجين الأخضر محوراً استراتيجياً للتحول الطاقي المستدام في المستقبل القريب.
الهيدروجين الأخضر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: واقع وآفاق تحول طاقي مستدام
خلال السنوات الأخيرة بدأ السباق حثيثا في دول شمال افريقيا و الشرق الأوسط في مجال انتاج الهيدروجين الأخضر . في حوار له مع كوسموس ميديا أكد جواد الخراز، منسق الشبكة المتوسطية للطاقة النظيفة والمدير السابق للمركز الإقليمي للطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة أنه “: لا بد أن ننتقل إلى الهيدروجين الأخضر كطاقة نظيفة جديدة، حيث أن الحافز الأول جاء من أوروبا وألمانيا خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية التي كشفت أزمة الأمن الطاقي”..
و إعتبر الخراز أن ميزة دول شمال افريقيا :” هي إنتاج الطاقة المتجددة بأسعار منخفضة جدًا، تتراوح بين سنت واحد إلى اثنين سنت للدولار لكل كيلوواط ساعة، وهذا يجعل الإنتاج في شمال أفريقيا وشرق المتوسط أكثر جذبًا… علاوة على القرب الجغرافي من أوروبا الذي يسهّل نقل الهيدروجين عبر الأنابيب والبنى التحتية القائمة، وهذا عامل دعم مهم لنجاح المشاريع.”
يحمل قطاع الهيدروجين الأخضر آمالاً كبيرة تمتد إلى ما هو أبعد من مجرد تحوّل طاقي، ليصبح رافدًا مهمًا للتحولات الاقتصادية والصناعية في دول شمال افريقيا . تستفيد دول مثل الجزائر، مصر، ليبيا، موريتانيا، المغرب، وتونس من إمكانيات شمسية وريحية ضخمة تُعد من بين الأعلى عالميًا، مما يساعد على إنتاج هيدروجين أخضر منخفض التكلفة. و قال جواد الخراز أنه :” و على الرغم من وجود بعض التأخر السياسي والتنظيمي، إلا أن هناك حراكاً عربيًا لتحضير خطط واستراتيجيات مشتركة لتحقيق سوق موحدة للهيدروجين الأخضر في المنطقة .”
المملكة العربية السعودية : تتصدر المملكة العربية السعودية دول الشرق الأوسط من حيث إنتاج الهيدروجين الأخضر حيث سعت في عام 2024 إلى تحقيق طموحات كبيرة في مجال إنتاج الهيدروجين الأخضر و هي تستهدف إنتاج نحو 2.9 مليون طن سنويًا بحلول عام 2030، مع خطط طموحة لرفع الإنتاج إلى 4 ملايين طن بحلول عام 2035.
تمتلك السعودية ما لا يقل عن 10 مشاريع مرتبطة بإنتاج الهيدروجين الأخضر، من بينها أكبر مصنع عالمي في مدينة نيوم، الذي يُعد من أكثر المشروعات طموحًا في هذا القطاع، ويبلغ حجم استثماراته حوالي 8.4 مليار دولار.
تأتي هذه الخطوات في إطار رؤية المملكة لتقليل الانبعاثات الكربونية وتنويع مصادر الطاقة، وتعزيز مكانتها كمركز عالمي لإنتاج وتصدير الهيدروجين الأخضر، مستفيدة من مواردها الوفيرة من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وتهدف المشروعات إلى دمج تقنيات مبتكرة تجمع بين مصادر الطاقة المتجددة ووقود مشتق من النفايات، مما يسهم في خفض تكاليف الإنتاج وتقليل الانبعاثات البيئية، وبالتالي ترسيخ مكانة السعودية كقائد عالمي في هذا القطاع الحيوي.
الإمارات العربية المتحدة : تستثمر الإمارات العربية المتحدة أيضا بشكل مكثّف في مجال الهيدروجين الأخضر، حيث تضم مشاريع بارزة مثل مشروع حديقة محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية، الذي يُعد الأكبر من نوعه في العالم. وتهدف الإمارات إلى دمج الهيدروجين الأخضر في استراتيجيتها الوطنية للطاقة، مع خطط لإنتاج 1.4 مليون طن من هذا الوقود بحلول عام 2031، وتخطط لزيادة الإنتاج إلى 15 مليون طن سنويًا بحلول عام 2050.
تمتلك الإمارات 14 مشروعًا نشطًا في مجال إنتاج الهيدروجين الأخضر، مع تركيز خاص على تطوير واحات للطاقة المنخفضة الكربون. كما تسعى الدولة للاستحواذ على 25% من حصة السوق العالمية للهيدروجين، مما يعكس رؤيتها الطموحة لتعزيز مكانتها كقوة رائدة في صناعة الطاقة النظيفة على المستوى الدولي. وتُعد هيئة كهرباء ومياه دبي من الجهات الرائدة التي تنفذ مشاريع مبتكرة تسهم في تحقيق هذه الأهداف عبر استخدام الطاقة الشمسية لتوليد الهيدروجين الأخضر، ودعم قطاعات الصناعة والنقل المختلفة.
وبحسب تقرير وحدة أبحاث الطاقة لعام 2025، تسعى دول شمال أفريقيا لإنتاج 5.2 ملايين طن من الهيدروجين الأخضر سنويًا بحلول عام 2030، مع زيادة هذه الكمية إلى 25 مليون طن بحلول عام 2050. وتستهدف مصر إنتاج 3.2 ملايين طن بحلول 2030، ويرتفع الإنتاج إلى 9.2 ملايين طن بحلول 2040.
المغرب : يُعتبر المغرب من الدول التي تتصدر مشهد إنتاج الهيدروجين الأخضر في شمال إفريقيا لعام 2025، بفضل خطط طموحة واستثمارات قياسية. إذ تعتمد المملكة المغربية على مواردها الطبيعية من الطاقة الشمسية والرياح، وتعمل على تنفيذ مشاريع عملاقة تهدف إلى جعل المغرب من أكبر المنتجين والمصدرين للهيدروجين الأخضر عربياً وإقليمياً، مع استهداف إنتاج حوالي 3 ملايين طن سنويًا بحلول 2030، مع توقعات أن تصبح من أقل الدول تكلفةً على مستوى العالم في إنتاج هذا الوقود النظيف.
أعلنت الحكومة المغربية عن تخصيص أراضٍ تتجاوز مليون هكتار في الأقاليم الجنوبية الثلاث للمملكة، تشمل الصحراء، لإنجاز 6 مشاريع كبرى للهيدروجين الأخضر، بمساحات تتراوح بين 100 و300 كيلومتر مربع لكل مشروع. هذه المشاريع تأتي بالشراكة مع مستثمرين محليين ودوليين من أبرز شركات الطاقة العالمية مثل “أكوا باور” السعودية، “طاقة” الإماراتية، و“توتال إنرجي” الفرنسية.
في أكتوبر 2025 استضافت مدينة مراكش الدورة الخامسة من القمة العالمية للهيدروجين الأخضر، التي جمعت أكثر من 1750 مشاركًا من 40 دولة، مع تعزيز التعاون الدولي والنقاش حول دور المغرب كمركز إقليمي للعلاقات التجارية وترسيخ موقعه في الاقتصاد الأخضر العالمي.
يمضي المغرب قدماً نحو تحقيق رؤية شاملة للنمو الاقتصادي المستدام عبر إنتاج الهيدروجين الأخضر الذي يعتمد على طاقة نظيفة ومتجددة.
هذه الاستراتيجية الوطنية الطموحة الى جانب تحالفات المستثمرين الدوليين على انتاج الهيدروجين الاخضر ، تجعل المغرب في مصاف الدول الرائدة قارياً وعالمياً في هذا المجال، رغم التحديات التي تحتاج إلى إدارة متوازنة وشفافية لضمان التوازن بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة.
مصر : تعتبر مصر الرابعة عربيا على صعيد مشاريع الهيدروجين الأخضر، إذ تسعى لبناء أكبر مصنع في العالم لهذا الوقود النظيف في جنوب سيناء، باستثمار يصل إلى 17 مليار دولار على مساحة 127 كيلومترًا مربعًا، ينتج 400 ألف طن سنويًا.
المشروع جزء من استراتيجية مصر الوطنية للهيدروجين الأخضر، والتي تستهدف الاعتماد على مصدر طاقة متجددة بنسبة 100% بقدرة 3.1 جيجاواط مع اكتمال مراحل البناء حتى 2035، ومن المتوقع خلق 10 آلاف فرصة عمل في المرحلة الأولى.
حتى نهاية 2024، أعلنت مصر عن 37 مشروعًا للهيدروجين، منها 19 لإنتاج الهيدروجين الأخضر و3 للهيدروجين الأزرق، مع وجود استثمارات أجنبية مباشرة تقدر بنحو 215.5 مليار دولار بين 2021 و2023، لتطوير هذه المشاريع في مناطق مثل العين السخنة والمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، حيث تحتضن أكثر من 80% من مشروعات الهيدروجين في البلاد.
مصر تحقق تقدماً في زيادة إنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة التي بلغت 11.6 ألف جيجاوات/ساعة في العام المالي 2023/2024 مقارنة بـ10.6 ألف في العام السابق، وتهدف لرفع هذا المؤشر ضمن رؤية 2035 لتغطية 42% من احتياجاتها الكهربائية. كما تعمل مصر على تطوير إنتاج الأمونيا الخضراء و الصلب الأخضر ضمن مشروعات الهيدروجين.
تُنتج الأمونيا الخضراء باستخدام الهيدروجين الأخضر المستخلص من التحليل الكهربائي للمياه باستخدام الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح، وتعتبر عنصراً أساسياً في صناعة الأسمدة التي تعد من القطاعات الحيوية للزراعة المصرية. أما الصلب الأخضر فيعتمد على استخدام الهيدروجين كبديل للوقود الأحفوري التقليدي في عمليات التصنيع، ما يقلل بشكل كبير من انبعاثات الكربون في قطاع الصناعة.
مع ذلك، تواجه مصر تحديات تشمل التمويل الكبير اللازم، حاجات تطوير البنية التحتية، نقص الكوادر الفنية الماهرة، والمنافسة التقنية الدولية والهجرة الاستثمارية المتغيرة. كما شهدت مصر في 2025 إلغاء بعض مشاريع الهيدروجين بعد سحب تمويل ضخم، مما يعكس المخاطر المرتبطة بهذا القطاع الناشئ.
تونس : تمضي تونس نحو تعزيز مكانتها في قطاع الهيدروجين الأخضر ضمن استراتيجيتها الوطنية الطموحة التي تهدف إلى إنتاج 8.3 مليون طن من الهيدروجين الأخضر بحلول عام 2050، مع تصدير ما يفوق عن 6 ملايين طن من هذه الكمية المُنتجة للسوق الأوروبية والعالمية.
تقوم الاستراتيجية التونسية على استقطاب استثمارات محلية وأجنبية بقيمة إجمالية تناهز 120 مليار يورو، وستساهم هذه المشاريع في خلق نحو 430 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة.
وتركز تونس على تطوير نسيج مؤسساتي متكامل يقوم على الكفاءات والخبرات الوطنية في مجال الطاقة المتجددة وتصنيع الهيدروجين الأخضر.
في هذا الباب قالت فتيحة العميري مسؤولة على أعداد وتنفيذ المشاريع الجماعية في حوار لها مع منصة كوسموس ميديا :” “الشركات الأجنبية تستثمر في تونس بسبب التسهيلات الإدارية وتوفر اليد العاملة المؤهلة والتكلفة المناسبة، وهذا من وجهة نظر المستثمر يحتاج أن يُناقش بشفافية ووضوح مع كل الأطراف.” مضيفة أنه :” من الإيجابيات التي اكتشفناها في تونس هو وجود مواهب علمية تبحث في كيفية استخلاص الهيدروجين الأخضر من المياه المكررة في المؤسسات المنزلية، وهو مشروع علمي مبتكر نأمل أن يجد تمويلًا لتجربته على نطاق عملي”.
وقّعت تونس مذكرات تفاهم سنة 2024 مع شركات عالمية كـ”توتال إنرجي” الفرنسية، و”فاربوند” النمساوية، وغيرها لتطوير مجمّعات لإنتاج الهيدروجين الأخضر بقيمة إستثمارية تصل إلى 8 مليارات يورو للمرحلة الأولى، بهدف إنتاج 200 ألف طن سنويًا، وتوسيع القدرة إلى مليون طن سنويًا في المراحل المتقدمة.
تسعى تونس من خلال هذه المبادرات إلى التقليص من العجز الطاقي الوطني والتحول إلى نموذج طاقي مستدام يعتمد على تنويع مصادر الطاقة، مع التركيز على استغلال الطاقات الشمسية وطاقة الرياح التي تتمتع تونس بإمكانات كبيرة فيها.
مع ذلك، تواجه تونس تحديات كبيرة اقتصادية و بيئية حيث يعتبر تمويل مشاريع الهيدروجين الاخضر الضخمة ، مكلف كثيرا و يفوق الإمكانيات المتاحة حاليًا في تونس على الرغم من استعداد مؤسسات دولية للمساعدة إضافة إلى الحاجة إلى بنية تحتية حديثة وكفاءات متخصصة، الأمر الذي يتطلب استراتيجيات تمويل مبتكرة وجهود مكثّفة لبناء القدرات الوطنية.
الجزائر : يشهد قطاع الهيدروجين الأخضر في الجزائر تحولات مهمة في 2025، حيث تبرز الدولة بخطط و استثمارات تهدف إلى أن تصبح مركزًا إقليميًا رئيسيًا لإنتاج وتصدير الطاقة النظيفة، مع دعم شراكات دولية قوية.
في أول تسعة أشهر من 2025، وقعت الجزائر العديد من الصفقات الكبرى للطاقة المتجددة، تشمل تصنيع الألواح الشمسية، محطات كهروضوئية ضخمة، وبناء منشآت لتخزين الكهرباء بالبطاريات، إضافة إلى مبادرات أوروبية لتمويل مشاريع الهيدروجين الأخضر.
مشروع “طاقاتي 2 (TaqatHy+)” هو مبادرة كبيرة تعاونية بين وزارة الطاقة والمناجم والطاقات المتجددة الجزائرية، والاتحاد الأوروبي الى جانب ألمانيا، يهدف إلى تسريع نشر الطاقة المتجددة وتطوير الهيدروجين الأخضر في الجزائر. تم إطلاق المشروع رسميًا في أبريل 2025، ويمتد تنفيذه حتى عام 2029،، بتمويل بلغ 28 مليون يورو .
أعلنت الجزائر نيتها إنتاج 1.2 مليون طن من الهيدروجين الأخضر بحلول 2040، مع تركيز على إستغلال مواردها الكبيرة من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ومساحات شاسعة من الأراضي الصحراوية غير المستغلة.
أما من خلال انضمامها إلى التحالف الأفريقي للهيدروجين الأخضر، تعزز الجزائر تعاونها الإقليمي والدولي لتطوير سوق الهيدروجين، وتنويع اقتصادها الوطني، وتسهيل الانتقال الطاقي.
يُوفر موقع الجزائر الاستراتيجي ونوعية مواردها ومناخها، ميزة تنافسية قوية لهذا البلد ، مع فرص كبيرة لجذب الاستثمارات وتعزيز الأمن الطاقي. و هو ما جعل الخبراء يتوقعون تحققها لقفزات نوعية خلال السنوات القادمة في انتاج الهيدروجين الأخضر.
المخاطر المتعلقة بالمياه في شمال أفريقيا
صناعة الهيدروجين الأخضر في شمال أفريقيا تواجه مجموعة معقدة من التحديات التي تتطلب معالجات شاملة ومتعددة الأبعاد، على الرغم من الفرص الكبيرة التي تقدمها المنطقة بصفتها من أكبر منتجي الطاقة النظيفة منخفضة التكلفة عالمياً.
تتمثل اكبر العقبات فيما يتعلق بانتاج الهيدروجين الاخضر في جول شمال افريقيا في صعوبة تأمين التمويل الاستثماري، وذلك بسبب ارتفاع تصور المخاطر لدى المستثمرين، عدم استقرار الأسواق، وتفاوت الأطر التنظيمية بين الدول، مما يستلزم سياسات تحفيزية وضمانات مالية قوية لجذب الاستثمارات.
كما يعاني القطاع من نقص كبير في الكوادر الفنية المؤهلة التي تغطي جميع مراحل الإنتاج بدءًا من التطوير التقني وحتى التشغيل والصيانة، ما يزيد من الحاجة إلى برامج تدريبية وبناء قدرات محلية.
لازالت البنية التحتية في عدة دول افريقية غير كافية، خصوصًا من حيث الموانئ وشبكات الكهرباء والمياه، فضلاً عن التحديات المتعلقة بتحلية المياه اللازمة لعمليات التحليل الكهربائي.
إشكاليات التشريعات والتنظيمات غير الواضحة أيضا تعمل على تقليل جاذبية الاستثمار في المنطقة، بينما لا تزال المنافسة السعرية مع الوقود الأحفوري تحديًا كبيرًا بسبب تكلفة إنتاج الهيدروجين الأخضر.
بيد أن بعض الدول في شمال افريقا يمكنها الاستفادة من فرصً فريدة ، مثل استبدال واردات الغاز الطبيعي بإنتاج محلي وهيدروجين مشتق يستخدم في صناعة الأسمدة والتصدير، مستفيدة من البنية التحتية الغازية القائمة فيها.
و للتغلب على هذه التحديات التي من شأنها ان تعيق مشاريع الهيدروجين الأخضر في المنطقة ، يشدد الخبراء على ضرورة تعزيز الإطار التنظيمي الحكومي، تطوير التقنيات، توسيع برامج التدريب والتعاون الإقليمي والدولي لتوحيد الجهود وتسهيل إنجاز المشاريع الطموحة.
من خلال هذه التحديات والفرص، يتحول قطاع الهيدروجين الأخضر في شمال أفريقيا إلى منصة تدفع بالبحث والابتكار وتعزيز التعاون متعدد الأطراف لتحقيق التحول الطاقي المستدام، مما يرسخ مكانة المنطقة كلاعب رئيسي في اقتصاد الطاقة النظيف المستقبلي.
لئن يعتبر الهيدروجين الأخضر طاقة نظيفة و وقودا مستداما يسهم في خفض تلوث البيئة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري. الا انه يثير جدلاً بيئياً هاماً في شمال أفريقيا بسبب استهلاكه الكبير للمياه، وهو مورد شحيح جداً في المنطقة.
وفقًا لتقارير خبراء وناشطين بيئيين، اذ ان إنتاج 1 كغ من الهيدروجين الأخضر يحتاج ما بين 18 إلى 24 لترًا من المياه. وعادة ما تُستخدم المياه عذبة في هذه العملية، ما يشكّل ضغطًا على الموارد المائية المحلية التي تعاني أساساً من ندرة وجفاف متزايد.
في هذا الباب اعتبر جواد الخراز، منسق الشبكة المتوسطية للطاقة النظيفة ” أن مشكلة شح المياه والتحديات المتعلقة باستخدام المياه في إنتاج الهيدروجين الأخضر موجودة، لكن يمكن تجاوزها عبر تقنيات تحلية المياه واستخدام المياه المعالجة، حيث تُعد تكلفة المياه نسبة صغيرة جدًا من تكلفة الإنتاج” مؤكّدا على ضرورة ” إشراك المجتمع المدني والخبراء والجامعات في صنع القرار لتعزيز فهم المشروع وضمان فوائده الاقتصادية والبيئية والاجتماعية.” فيما لم تخفِ فتيحة العميري المسؤولة على أعداد وتنفيذ المشاريع الجماعية خلال حوارها مع منصة كوسموس ميديا موقفها من مشاريع الهيدروجين الأخضر قائلة:” أنا لست مع أو ضد الاستثمار في الهيدروجين الأخضر، ينبغي دراسة الأثر البيئي والاقتصادي جيداً، وإذا كان هناك توازن بين الفوائد والآثار السلبية سأكون مع المشروع والدعم لأي طاقة نظيفة تدعم التنمية المستدامة.” واعتبرت العميري أنه من “المهم جدا قبل إعداد أي استراتيجية لطاقة جديدة أن نأخذ بعين الاعتبار رؤية المجتمع المحلي، نسمع لهم ونفهم مخاوفهم ونجيب عليها قبل البدء في أي نشاط، وهذا ما ظهر بوضوح في منطقة قابس التي ترفض الاستنزاف المائي وتطالب بشفافية وعدالة”
في المقابل يرى نشطاء بيئيون أن مشاريع الهيدروجين الأخضر ستنفع الأسواق الأوروبية بالدرجة الأولى، على حساب المجتمعات المحلية في شمال أفريقيا التي قد تواجه استنزافًا إضافيًا لمواردها الطبيعية و هاصة المياه و هو ما من شأنه ان يعمّق و يفاقم أزمة المياه في مناطق تعاني مسبقًا من شح مائي حاد .
باختصار، رغم كون الهيدروجين الأخضر طاقة نظيفة بيئيًا، إلا أن تحديات ندرة المياه وحيازتها تشكل مخاطر ينبغي إدارتها بحذر، مع ضمان إشراك المجتمعات المحلية في صنع القرار لتحقيق توازن بين المنافع الاقتصادية وحماية الموارد الطبيعية الهامة في شمال أفريقيا.
الجدل المحلي في تونس كمثال حي
تترافق مشاريع الهيدروجين الاخضر في تونس مع نقاشات مجتمعية حول المخاطر البيئية، لا سيما في الجنوب التونسي وقابس حيث يُثار جدل حول استنزاف الموارد المائية والتأثيرات البيئية لهذه المشاريع.
في هذا الباب قالت فتيحة العميري مسؤولة على أعداد وتنفيذ المشاريع الجماعية خلال حديثها مع منصة كوسموس ميديا انه: “اليوم هناك مخاض كبير ونقاش كبير حول الهيدروجين الأخضر سيما في مناطق الجنوب التونسي. نحن كمجتمع مدني نعمل على التوعية وفهم المفاهيم الصحيحة حول الهيدروجين الأخضر، لأن هناك العديد من الأشخاص لديهم فهم مغلوط عن الإنتاج أو التوزيع أو حتى تجميع الهيدروجين الأخضر.” مضيفة أن هذه “المخاوف البيئية تترافق مع غياب الشفافية وقلق من تكرار التجارب السابقة في الصناعات الاستخراجية حيث لم تكن العدالة البيئية والاجتماعية موجودة.”

يرى الخبراء البيئيون ان صناعة الهيدروجين الاخضر تتطلب كميات كبيرة من المياه، و ان تونس بلد يعاني من شح مائي يتفاقم عبر السنين حيث بلغ نصيب الفرد من المياه أقل من 420 متر مكعب سنوياً وهو أقل بكثير من عتبة ندرة المياه التي تُحدد بألف متر مكعب للفرد سنوياً و هو ايضا ما يضع تونس تحت خط الفقر المائي .
إعتمدت تونس تقنية تحلية المياه للحد من أزمة شح المياه و تزويد السكان خاصة في الجنوب الشرقي بالماء الصالح للشراب . اقترح عدد من الخبراء الطاقيين استعمال المياه المحلات لتطوير مشاريع الهيدروجين الاخضر و هو ما عارضه عدد من النشطاء البيئيين الذي يعتبرون أن هذا الحل في حد ذاته يرفع من تكلفة الإنتاج ويشكل خطرًا على النظام البيئي البحري بسبب إعادة المياه المالحة الى البحر بعد عملية التحلية.
في سياق استراتيجية وطنية لنقل تونس إلى مركز إقليمي للطاقة النظيفة وقّعت الحكومة في شهر ماي 2024 اتفاقية بين تونس وشركة توتال للطاقات Total energies وشركة فاربوند Vernund النمساوية من أجل تطوير مشاريع الهيدروجين الأخضر، ونَقلِه إلى أوروبا عبر الأنابيب، بغاية إنتاج 200 ألف طن سنويّا من الهيدروجين الأخضر، إلى جانب توقيع مذكرة تفاهم بين تونس والمجمع السعودي “آكوا باور” لتطوير إنتاج الهيدروجين الأخضر، في 31 ماي 2024، بقدرة إجمالية تناهز 12 جيغاواط من الطاقات المتجددة، مع الرفع من معدلات إنتاج الهيدروجين الأخضر لتتجاوز 600.000 طن سنويا. ومن بين أهداف هذه الاتفاقية تركيز وحدة لإنتاج الأمونيا وأخرى لتصديرها في قابس أو الصخيرة في مرحلة اولى، اعتمادًا على فرص السوق المباشرة.
و في ديسمبر 2023 أعلن كاتب الدولة المكلف بالانتقال الطاقي وائل شوشان عن إنشاء مجمع تونس للهيدروجين المتجدد ومشتقاته في ولاية قابس وذلك على هامش ملتقى دولي موضوعه “الهيدروجين الأخضر ومشتقاته” ، مما أثار جدلاً واسعًا متجددًا في علاقة بهذه المشاريع ومخاطرها المحتملة.
حملة “أوقفوا التلوث” نفذت في قابس و ف أمام مقر زوارة الطاقة و المناجم وقفات احتجاجية كثيرة طالبت فيها الدولة التونسية بالتخلي عن مشاريع انتاج الهيدروجين الاخضر و دراسة مؤثراتها البيئية قبل انجازها . وفي هذا الإطار قال خير الدين دبية ممثل حملة “أوقفوا التلوث” في حوار له مع منصة كوسموس ميديا أن مشاريع إنتاج الهيدروجين الأخضر في تونس ” في غالبيتها موجهة للتصدير الى اوروبا مما يعكس تراجع الأولويات المحليّة ” و أضاف دبية أن :” مشاريع الهيدروجين الأخضر في تونس تحتاج إلى 248 مليون متر مكعب من المياه المحلاة سنويًا بحلول سنة 2050، أي ما يعادل استهلاك 5 ملايين تونسي في بلد يُعتبر من بين البلدان الأكثر ندرة في المياه، ليمثل هذا الاستخدام ضغطًا إضافيًا على الموارد المائية”.
يعتبر نشطاء حملة “أوقفوا التلوث” ان قابس المدينة “المنكوبة” بيئيا لا تحتمل اراضيها مشاريع تستنزف مواردها المائية ايضا . و في حديثه عن زيارة سفيرة فرنسا لقابس قال خير الدين دبية لكوسموس ميديا “أن فرنسا و المانيا يريدان ان تكون تونس و غيرها من ذول شمال افريقيا بطارية أوروبا لحل ازمة الطاقة في دولها” و أضاف دبية أن” إشراف سفيرة فرنسا على “مشروع إنشاء مجمع تونس للهيدروجين الموجه للتصدير، في حين أن بلادها قررت أن يكون إنتاج الهيدروجين الأخضر موجهًا فقط لسد حاجياتها المحلية ورفضت الإنتاج المعد للتصدير”.
و انتقد ممثل حملة “أوقفوا التلوث” بشدة مواصلة الدولة التونسية اعتماد منوال التنمية الصناعي الاستخراجي و اعتبر ان هناك استهداف لمدينة قابس التي أصبحت تسمى بمدينة التلوث خاصة مع تواصل عمل الوحدات الصناعية بالمجمع الكيميائي رغم الاحتجاجات المتكررة من الأهالي والمجتمع المدني إضافة إلى عدم مشاركة المجتمعات المحلية وناشطي البيئة في اتخاذ القرار.
و من نفس الزاوية اعتبر المرصد التونسي للمياه ان البصمة المائية لمشاريع الهيدروجين الأخضر مرتفعة و هو ما يدفع الحكومة التونسية الى استعمال المياه المحلاة معتبرا ان هذا استنزافً للموارد الطبيعية حيث تعتبر مياه البحر من المياه الرمادية التي يمكن ان يّعاد استعمالها سواء للشرب او للري الزراعي بدلا عن استعمالها في انتاج طاقة معدة للتصدير في الوقت الذي مازالت فيه محطات تحلية المياه في صفاقس و الزارات عاجزة عن توفير الماء الصالح للشرب لكل سكان الإقليم الجنوبي بالبلاد .
في الختام لا بد من القول أن إدارة التحديات التي تواجه مشاريع الهيدروجين الأخضر تتطلب حكمة ورؤية شاملة تدمج بين التطور التكنولوجي والعدالة الاجتماعية والبيئية، مع إشراك فاعل وشفاف للمجتمعات المحلية في صنع القرار. فثورة الهيدروجين الأخضر لن تكلل بالنجاح ما لم تُبنى على أسس متينة تحمي المياه وتحقق رفاهية الجميع دون استثناء.
و عليه، يتوجب على الدول المنتجة للهيدروجين الأخضر في شمال أفريقيا والشرق الأوسط العمل بتنسيق وبتكاتف مع الشركاء الدوليين لتعزيز البحث العلمي و تطوير تقنيات مبتكرة و تنفيذ سياسات طاقية تراعي الاستدامة وتحمي البيئة و تُرسخ آمال الشعوب في طاقة نظيفة تحيي الأرض وتحمي حق الأجيال القادمة في طاقة نظيفة و موارد طبيعية غير مستنزفة و بيئة سليمة و مستدامة.
مبروكة خذير/ فتحية خذير – كوسموس ميديا
يمكنكم مشاهدة المزيد :“الهيدروجين الأخضر: فاعليته وآفاقه في تونس؟!”






