أميرة التواتي_كوسموس ميديا-تونس
في وقت تتسارع فيه مؤشرات التدهور البيئي في البحر الأبيض المتوسط، وتتعاظم الضغوط المناخية والبشرية على أحد أكثر البحار هشاشة في العالم، احتضنت تونس ورشة عمل إقليمية حول حماية البحر الأبيض المتوسط والإدارة المستدامة للموارد البحرية، بمبادرة من جمعية أفريقيا 21 وبالشراكة مع برنامج دعم الإعلام في تونس (PAMT2) وأكاديمية دويتشه فيله، وبمشاركة صحفيين وخبراء من ضفتي المتوسط.
الحدث استمر ثلاثة أيام، جمع بين التحليل العلمي، التوعية الإعلامية، ومقترحات السياسات، في محاولة لبناء شبكة صحفية متخصصة قادرة على نقل الصورة الحقيقية للتهديدات التي تواجه البحر، وتقديم حلول ملموسة لصانعي القرار والمجتمع المدني.
جوليان شامبول: «المعركة اليوم هي معركة معرفة»
منذ الجلسة الافتتاحية، وضع جوليان شامبول، الكاتب العام لجمعية أفريقيا 21، الإطار العام للورشة بنبرة واضحة لا تخلو من التحذير، حين قال إن «البحر الأبيض المتوسط لم يعد قضية بيئية فقط، بل أصبح رهانا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا». وأضاف أن الرهان الأساسي اليوم «هو تمكين الصحفيين من الفهم العميق للملفات البحرية المعقدة، حتى لا يبقى النقاش حبيس التقارير العلمية المغلقة».
وأكد شامبول أن اختيار تونس يعكس «موقعها الاستراتيجي في قلب المتوسط، وتعرضها المباشر لتداعيات التغير المناخي والصيد الجائر والتلوث»، مشددا على أن الصحفي «مدعو اليوم إلى لعب دور الوسيط بين العلم والمجتمع وصانع القرار».
وأشار شامبول إلى أهمية التعاون الدولي، قائلا: «التلوث البلاستيكي لا يعرف حدودًا، والأسماك والكائنات البحرية تتنقل بين الدول. هذا يجعل الاتفاقيات الدولية، مثل بروتوكول برشلونة، ضرورة ملحة للحفاظ على التنوع البيولوجي البحري».
سيرين بن سعد: صحافة تستنهض الوعي وتواجه المخاطر
من جهتها، اعتبرت سيرين بن سعد، المكوّنة بأكاديمية دويتشه فيله، أن الورشة جاءت في لحظة حرجة، قائلة إن «الصحافة البيئية لم تعد ترفًا أو تخصّصًا ثانويا، بل أصبحت شرطًا من شروط الحق في المعلومة». وأضافت أن البحر الأبيض المتوسط «يتعرض لضغوط غير مسبوقة، في حين ما يزال حضوره الإعلامي دون مستوى الخطر الحقيقي».
وشددت بن سعد على أن الهدف من هذا النوع من التكوين «هو إنتاج صحافة تطرح الأسئلة المزعجة، وتربط المعطيات العلمية بحياة الناس اليومية، دون تهويل ولكن أيضا دون تمييع». وأوضحت أن «التحدي الأكبر هو جعل المواطن يدرك أن كل قطعة بلاستيك أو كل ممارسة صيد غير قانونية اليوم تؤثر مباشرة على غذائه ومستقبله».
سامي بدر الدين: «تونس في قلب العاصفة المناخية»
بدوره، ذكّر سامي بدر الدين، خبير برنامج دعم الإعلام في تونس (PAMT2)، بأن تونس تُصنّف ضمن أكثر الدول هشاشة أمام التغيرات المناخية، قائلا إن «ما يحدث في البحر ينعكس مباشرة على الأمن الغذائي، وفرص العمل، واستقرار المجتمعات الساحلية».
وأضاف أن دعم الصحفيين في هذا المجال «ليس خيارا، بل ضرورة»، معتبرا أن الإعلام «شريك أساسي في إنجاح السياسات البيئية أو فضح فشلها». كما حذّر بدر الدين من أن «غياب الوعي الصحفي يؤدي إلى انتشار معلومات مضللة، وتقليل الضغط على المسؤولين، وبالتالي فقدان فرص إنقاذ المتوسط».
معطيات علمية صادمة: المتوسط تحت ضغط غير مسبوق
رسمت المداخلات العلمية صورة قاتمة لوضع البحر الأبيض المتوسط. فحسب منية البور، رئيسة لجنة C4 باللجنة الدولية للاستكشاف العلمي للبحر الأبيض المتوسط (CIESM) وعضو MedECC، فإن «المتوسط هو من أكثر البحار تأثرا بارتفاع درجات الحرارة»، محذّرة من أن «موجات الحر لم تعد سطحية، بل بدأت تؤثر حتى على المياه العميقة، وهو مؤشر بالغ الخطورة».
وقالت البور إن التغيرات المناخية «تسرّع اختلال التوازن البيئي، وتضاعف حالات نفوق الكائنات البحرية، وتهدد مستقبل الصيد والسياحة معا». وأضافت أن المحميات البحرية الساحلية، رغم أهميتها، لم تعد كافية وحدها، «لا بد من استراتيجية شاملة تشمل الصيد المستدام، الحد من التلوث، وتوعية المجتمعات الساحلية».
أما سناء بن إسماعيل، الباحثة في المعهد الوطني للعلوم والتكنولوجيا، فقد دقت ناقوس الخطر بخصوص التلوث البلاستيكي، مؤكدة أن «البلاستيك لم يعد مشكلة شواطئ فقط، بل أصبح مكوّنا خفيا في السلسلة الغذائية البحرية». وأضافت أن الخطر «يمتد مباشرة إلى صحة الإنسان، عبر استهلاك منتجات البحر».
وفي السياق ذاته، حذّر نور الدين زعبوب، الخبير في الكيمياء الجيولوجية والتلوث الكيميائي، من أن التلوث الصناعي «يترك آثارا تراكمية طويلة المدى يصعب رصدها بالعين المجردة، لكنها مدمّرة للمنظومات البيئية».
الصيد الجائر: استنزاف يتجاوز الخط الأحمر
وفي ملف الصيد البحري، قال ياسين إسكندراني، الخبير بوزارة الفلاحة، إن البحر الأبيض المتوسط «بلغ مستويات حرجة من الاستنزاف»، مشيرا إلى أن «عدم احترام الراحة البيولوجية واستعمال وسائل صيد غير قانونية يهددان بانهيار المخزون السمكي». واعتبر أن المعركة اليوم «ليست فقط تقنية، بل تتعلق بفرض القانون وتغيير العقليات».
وأوضح إسكندراني أن «الصيادون التقليديون يحتاجون إلى دعم، لكن الصيد الجائر من بعض الأطراف الخاصة يتطلب مراقبة صارمة، وإلا سنفقد الثروات البحرية بشكل نهائي خلال العقد القادم».
السياحة البحرية بين الوعي والبدائل
أما في محور السياحة البحرية، فقد دعا الفنان التشكيلي حمادي سنين إلى مقاربة مختلفة، قائلا إن «العلم وحده لا يكفي لإقناع الناس، والفن قادر على لمس الوجدان وتحويل المعلومة إلى سلوك». وأضاف أن إدماج العمل الفني في حملات التوعية «يساعد على بناء علاقة وجدانية جديدة بين الإنسان والبحر».
وأشار إلى أن «السياحة المستدامة ليست رفاهية، بل ضرورة للبقاء الاقتصادي والبيئي معا»، مؤكدا أن دمج الفنون والتعليم والتوعية يجعل الرسالة أقوى من الحملات التقليدية.
الصحفيون أمام مسؤولية تاريخية
من جانبهم، عبّر صحفيون مشاركون، من بينهم الصحفية المغربية نعيمة الشرعي، عن وعيهم بحجم المسؤولية، معتبرين أن «المشاكل التي يعيشها المتوسط لم تعد قابلة للتأجيل»، وأن الصحفي «مطالب اليوم بتجاوز الخبر السريع نحو التحقيق والتحليل والمتابعة».
وأكد المشاركون أن التحدي لا يكمن فقط في نقل الأخبار، بل في خلق خطاب إعلامي قادر على الضغط على صناع القرار، ومساءلة الأطراف المسؤولة عن التدهور البيئي.
المتوسط… إنذار مفتوح
هكذا، لم تكن ورشة تونس مجرد لقاء تكويني، بل مساحة إنذار جماعي. إنذارات علمية مدعّمة بالأرقام، ورسائل واضحة بأن البحر الأبيض المتوسط يقترب من نقطة اللاعودة، في وقت تبقى فيه الصحافة إحدى آخر أدوات الضغط الممكنة للدفاع عن هذا الفضاء الحيوي المشترك.
و أُختتمت الورشة بدعوة جميع المشاركين إلى تشكيل شبكة إعلامية مستدامة للمتوسط، تجمع بين الصحفيين والخبراء والمجتمع المدني، لضمان متابعة مستمرة، وتحقيق أهداف حماية 30% من المناطق البحرية بحلول 2030، كما نصت الاتفاقيات الدولية.








