مبروكة خذير ونسرين سليمي (متربصة) /كوسموس ميديا
في قلب منطقة الزهراء، حيث تتناغم حركة الشاحنات المليئة ببقايا البناء مع صوت الآلات الثقيلة، يتجلى مشهد فريد من نوعه يعكس جهود تونس في إعادة تدوير النفايات. هذه الحضيرة الواسعة، التي تمتد على مساحة شاسعة، تشهد دخول شاحنات محملة بمخلفات البناء، لتصب في مصب كبير يجمع بين بقايا الأسفلت والحديد والبلاستيك، وكل أنواع فضلات البناء .
تتوسط هذه الحضيرة آلة ضخمة تقوم بتكسير الألواح الكبيرة لمواد البناء، حيث يتم طحنها وتحويلها إلى رمل ناعم يُعاد استخدامه في مشاريع البناء. هذه العملية لا تقتصر على مجرد التخلص من النفايات، بل تسهم في إعادة تدوير المواد بشكل فعال، مما يتيح إمكانية إعادة بيعها والاستفادة منها مجددًا.
جهود مستدامة نحو الاقتصاد الدائري..
تعتبر هذه المبادرة جزءًا من نموذج الاقتصاد الدائري الذي تسعى تونس لتحقيقه، حيث يتم تحويل النفايات إلى موارد قيمة. إن هذا المصنع، الذي يُعد الأول من نوعه في تونس وإفريقيا، يمثل خطوة هامة نحو تقليل التلوث والحفاظ على البيئة من خلال تقليل النفايات ومكباتها العشوائية.
في ظل التحديات البيئية الكبرى مثل التغير المناخي وندرة الموارد الطبيعية، أصبحت عملية إعادة التدوير أحد الحلول الفعّالة للمساهمة في حماية الأنظمة البيئية من التدهور وتقليل التلوث بجميع أنواعه، بما في ذلك التلوث الناتج عن تراكم فضلات البناء، التي باتت ظاهرة متفشية تهدد المحيط في الآونة الأخيرة.إعادة تدوير مواد البناء تلعب دورًا حيويًا في تعزيز الاقتصاد الدائري في تونس. حيث أطلقت تونس أول مشروع لإعادة تدوير نفايات الهدم والبناء، بهدف الاستفادة من 1.7 مليون متر مكعب من بقايا الأشغال والهدم التي تلقى سنويًا في الطبيعة. هذا المشروع يهدف إلى إعادة استغلال 85% من بقايا البناء والهدم بحلول عام 2040.
تعتبر إعادة تدوير نفايات البناء خطوة مهمة نحو تقليل الاعتماد على المواد الخام غير المتجددة، مما يسهم في خفض تكاليف البناء بنسبة تتراوح بين 30% و40% مقارنة بالمواد التقليدية. كما أن استخدام المواد المعاد تدويرها يساعد في تقليل انبعاثات الكربون والتلوث الناتج عن مكبات النفايات.
من خلال مشاريع مثل “RE-MED”، تهدف تونس إلى تطوير الاقتصاد الدائري من خلال تحويل نفايات البناء إلى مواد قابلة للاستخدام في إنشاء الطرق وصيانتها. هذا النوع من المشاريع لا يسهم فقط في حماية البيئة، بل أيضًا يوفر فرص عمل جديدة ويساعد على تحسين جودة الحياة في المجتمعات المحلية.
إن تعزيز ثقافة إعادة تدوير مواد البناء والتوعية بأهميتها يعد أمرًا ضروريًا لتحقيق تنمية مستدامة، ويمكن أن يسهم بشكل كبير في تحسين الوضع البيئي والاقتصادي في تونس.
وفي تصريح له لمنصة كوسموس ميديا، أكد مدير البحث والتطوير والابتكار الرقمي بوبكر بن يعقوب أن شركة REG تعمل على إعادة تدوير النفايات الموجودة في مواقع البناء وتحويلها إلى مواد صالحة لإعادة الاستعمال في تشييد البنى التحتية للطرقات، بما في ذلك طبقات الأساس وهياكل الطرق ومواد الأسفلت. وأضاف أن شركتهم قد أطلقت عدة مشاريع تجريبية بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، من بينها مشروع تشييد الطريق الوطنية رقم 3 ببن عروس، الذي يمتد على 1.2 كلم، حيث تم استخدام 100% من هياكل الطرق و20% من مواد الأسفلت المعاد تدويرها كجزء من التجربة.أظهرت الدراسات أن تكلفة بناء الطريق باستخدام المواد المعاد تدويرها انخفضت بنسبة 40%، حيث كانت تكلفة الطريق المشيد بمنتجات المحاجر تبلغ 2.5 مليون دينار، بينما لا تتجاوز التكلفة عند استخدام المواد المعاد تدويرها من قبل الشركة 1.4 مليون دينار.يمثل هذا المشروع خطوة هامة نحو تحقيق أهداف الاقتصاد الدائري وتقليل التكاليف البيئية والمالية في قطاع البناء، مما يعكس التزام الشركة بتعزيز الابتكار والاستدامة في هذا المجال.
أكد بن يعقوب أن المواد الإنشائية مثل الأسمنت والآجر والحجارة التي تُترك في البيئة تشكل تهديدًا كبيرًا للبيئة. إن التحدي يكمن في صعوبة التخلص منها، حيث تحتاج إلى وقت طويل للتحلل في الطبيعة. لذلك، تعتبر إعادة التدوير الحل الأمثل للحفاظ على البيئة، فضلاً عن الانتقال من الاقتصاد الخطي إلى الاقتصاد الدائري، وهو الهدف الذي تسعى إليه الشركة.هذا التحول يهدف إلى تقليل تكاليف البناء، والحد من استخراج المواد الخام غير المتجددة، والتقليل من التلوث، مما يؤدي أيضًا إلى تقليص حجم مكبات النفايات. إن تبني هذه الممارسات لا يسهم فقط في حماية البيئة، بل يعزز أيضًا الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية.
وكان بن يعقوب قد صرح لمنصة كوسموس ميديا أيضا انه: “في مساحة شاسعة تبلغ حوالي 6000 متر مربع، تمر نفايات البناء بأربع مراحل أساسية. تبدأ العملية بتجميع نفايات الهدم والبناء من مواقع العمل، تليها عملية الفرز اليدوي. بعد ذلك، يتم سحق هذه النفايات باستخدام كسارات مخصصة لإعادة التدوير، مما يؤدي إلى تحويل المواد المتحصل عليها إلى منتجات جاهزة للاستخدام في أرصفة الطرق والمزاريب، وفقًا لاحتياجات المهندسين.كما نقوم بإنشاء مخزون خاص بالمواد الأكثر مبيعًا في السوق. تقدر الطاقة الإنتاجية للشركة بحوالي 1000 طن يوميًا، ورغم أننا لا نعمل حاليًا بكامل طاقتنا، إلا أن تجربتنا مع بلدية الزهراء دفعتنا لمشاركة خبرتنا مع بلديات مجاورة مثل حمام الأنف ورادس، وتطوير خدمات التكسير وإعادة التدوير. نحن فخورون بتوفير 10 وظائف مباشرة وحوالي 300 وظيفة غير مباشرة.”
استعداد شركة REG للتوسع والابتكار في مجال مواد البناء المعاد تدويرها
في إطار حديثه عن مستقبل شركة REG، أعرب المدير الفني حمزة بن علي عن استعداد الشركة للتوسع والانفتاح على جميع ولايات الجمهورية، معربًا عن أمله في تعاون السلطات المحلية معهم.
و في تصريح له لمنصة كوسموس ميديا ، أكد بن علي أن الإقبال على شراء مواد البناء المعاد تدويرها لا يزال ضعيفًا، مشيرًا إلى أن هذا يعود إلى تردد المواطنين في استخدام مواد جديدة لم يعتادوا عليها، رغم النتائج الممتازة التي حققتها هذه المواد. وأكد على ضرورة تغيير العقليات وزيادة الوعي لدى المواطنين حول فوائد هذه المواد.وعلى المدى البعيد، تسعى الشركة إلى الابتكار في عمليات الهدم وإعادة التدوير من خلال استخدام كسارة متنقلة في مواقع البناء، مما سيساعد في تقليل انبعاث الغازات السامة مثل ثاني أكسيد الكربون وتقليل تكاليف الشحن. ومن المقرر استيراد هذه المعدات من خارج البلاد.
هذا وتسعى الشركة إلى تنفيذ سياسة اتصالية فعّالة على مواقع التواصل الاجتماعي بهدف توعية المواطنين بأهمية استخدام مواد البناء المعاد تدويرها الصديقة للبيئة. في إطار مشروع Re-MED، تعمل الشركة على تطوير تطبيق رقمي مبتكر يشجع الأفراد ويسهل عليهم عملية إعادة التدوير. عندما يلاحظ المواطن وجود نفايات هدم وبناء في محيطه، يمكنه ببساطة تصويرها وتحديد موقعها وإرسالها إلى الشركة عبر التطبيق. تتولى الشركة بعد ذلك جميع الخطوات اللازمة، بما في ذلك الشحن والهدم وإعادة التدوير، مما يجعل العملية أكثر سلاسة ومرونة. علاوة على ذلك، يستخدم التطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحديد أنواع النفايات المبلغ عنها والتأكد مما إذا كانت نفايات هدم يمكن إعادة تدويرها، مما يعزز كفاءة العملية ويزيد من الوعي البيئي بين المستخدمين…
إعادة تدوير نفايات البناء: ضرورة بيئية وثقافة مستدامة
رغم الأسعار الرمزية التي تقدمها الشركة للمواطنين مقارنة بتكاليف التفريغ العالية، لا يزال الكثيرون يتخلصون من فضلات البناء بطريقة عشوائية. يعود السبب الرئيسي إلى عدم وعي المواطن بأهمية الحفاظ على البيئة. لذلك، من الضروري إطلاق حملات توعوية لرفع مستوى الوعي حول أهمية حماية المحيط. في هذا السياق، تسعى الشركة إلى إبرام اتفاقيات وشراكات مع الجامعات مثل Esprit وEnit وIset Sfax، بهدف تغيير عقلية الشباب وتعزيز قيم الحفاظ على الطبيعة لدى الأجيال القادمة. يُعتبر طلبة الهندسة المدنية في مرحلة الدراسة من الفئات المستهدفة، حيث يتم تعريفهم بالمنتجات المعاد تدويرها وتدريبهم على ثقافة الاقتصاد الدائري وأهمية حماية البيئة. تظل عملية إعادة تدوير نفايات الهدم والبناء مرتبطة بمدى وعي المواطن والتزامه بالحفاظ على الطبيعة. هذه العملية ليست فقط وسيلة لتقليل التلوث، بل تساهم أيضًا في الحد من انتشار المكبات العشوائية وغير القانونية للنفايات.
تم إعداد هذا المقال كجزء من دورة تدريبية مخصصة للصحافيين في تونس، تركزت حول الاقتصاد الدائري، والتي نظمتها منظمة أفريكا 21.