في خطوة استراتيجية نحو ترسيخ الزراعة المستدامة وتعزيز قدرات التأقلم مع التغيرات المناخية، احتضنت مدينة تونس، يوم الثلاثاء 8 أفريل 2025، الورشة الختامية لمشروع “ProSol” المعني بحماية وإعادة تأهيل التربة المتدهورة في تونس.
ترأس الفعالية رئيس ديوان وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، هيكل حشلاف، نيابة عن الوزير، بحضور ممثلين عن مختلف الأطراف الوطنية والدولية، أبرزهم المسؤول الألماني عن المشروع، توم إيكهوف، سفيرة ألمانيا بتونس، إليزابيث ولبرز، والمديرة الإقليمية لوكالة التعاون الدولي الألماني، أريانا برونستد، إلى جانب ممثلين عن القطاع الخاص، المجتمع المدني، إطارات الوزارة، وعدد من المزارعين المستفيدين من المشروع.
عرض ميداني للتقنيات الحديثة
انطلقت الورشة بجولة ميدانية داخل مقر الحدث، تم خلالها عرض أبرز التقنيات والتجهيزات التي تم اعتمادها خلال فترة المشروع، والتي تمثلت في أكثر من 200 آلة وتجهيز فلاحي من بينها المخبر المتنقل لتحاليل التربة، وطائرتان دون طيار، ومعدات فلاحية متطورة ساهمت في تحسين الإنتاجية ومراقبة حالة الأراضي والتغيرات البيئية بفعالية. وقد شكّل هذا العرض محطة حيوية لتعريف المشاركين بالابتكارات العملية التي مكّنت المشروع من تحقيق نتائجه الايجابية على أرض الواقع.
هذا الركن العملي لم يكن مجرد استعراض، بل مثّل تجربة حية بيّنت كيف ساهمت هذه الحلول التكنولوجية في إحداث نقلة نوعية في أساليب الزراعة المستدامة، مما رسّخ قناعة الفلاحين المستفدين بأهمية الابتكار في تحقيق تنمية فلاحية متأقلمة مع التغيرات المناخية، ومقاومة للشحّ المائي.
نحو فلاحـة مرنة ومستدامة في مواجهة الأزمات البيئية
وفي كلماته الافتتاحية، شدد رئيس الديوان، هيكل حشلاف، على أهمية المشروع في دعم جهود الدولة التونسية واستراتيجيتها للتّهيئة والمحافظة على الأراضي الفلاحية التي أُطلقت في 2017. وتهدف هذه الاستراتيجية إلى تطوير مناطق ريفية مستدامة تدير مواردها الطبيعية بكفاءة بحلول 2050. موضّحا أنه استلزم تنفيذ المشروع دمج مقاربات مبتكرة، وخبرات فنية، ومعارف استشارية متعددة التخصصات، بالإضافة إلى حوكمة تشاركية بين مختلف الأطراف المعنية على المستويين الوطني والدولي، فضلا عن مشاركة الفئات المستهدفة في المناطق المتضرّرة خصوصا في ولايات الشمال والوسط الغربي التي شهدت تدهورا حادا في جودة التربة والموارد الطبيعية. مؤكدا أن المشروع مكّن من تعزيز الأمن الغذائي عبر حماية التربة وتحسين مردودية الإنتاج الفلاحي.
وفي تصريح لمنصة كوسموس، أكد محمد شمس الدين الهرابي، المدير العام بالنيابة للإدارة العامة للتهيئة والمحافظة على الأراضي الفلاحية، أن مشروع Prosol يندرج ضمن رؤية وزارة الفلاحة لإرساء شراكات فعالة في مجال المحافظة على الموارد الطبيعية، خاصة المياه والتربة، وتطوير الإنتاج في المناطق المعروفة بزراعاتها الكبرى. وبيّن أن إعادة تأهيل أكثر من 12 ألف هكتار من الأراضي المتدهورة في 7 ولايات و75 معتمدية، تمثل إنجازا حقيقيا سيساهم في رفع الإنتاج الوطني وتحقيق الأمن الغذائي، مشيرا إلى أن المشروع لم يقتصر على الجوانب التقنية، بل شمل أيضا تنمية قدرات الفلاحين وتكوين إطارات الوزارة في مجالات التكيّف مع التغيرات المناخية وتعزيز الحوكمة البيئية.
وفي إطار حديثه مع منصة كوسموس ميديا، أشار الخبير الفني للمشروع، هيثم الدالي، إلى أن أحد التحديات الجوهرية التي استهدف المشروع معالجتها كان تحسين واقع الزراعة في تونس عبر إدخال ممارسات زراعية مستدامة وتعزيز الوعي البيئي بين الفلاحين، خاصة فيما يتعلق بأهمية حماية التربة من التدهور. وأوضح الدالي أن النجاح الذي تحقق يعود بالأساس إلى العمل الميداني المباشر مع الفلاحين، الذي أسهم في نشر مفاهيم الزراعة البيئية وتعريفهم بالممارسات السليمة. هذا التوجه لم يقتصر على التدريب والتوعية فقط، بل شمل أيضا تقديم حلول عمليّة لتفعيل التحول نحو الزراعة المستدامة، وهو ما ساعد في بناء قاعدة من الفلاحين المدركين لأهمية الحفاظ على التربة والموارد الطبيعية في إطار عملية إنتاجية أكثر توافقا مع البيئة.
مقاربة تشاركية لتعزيز الاستدامة الزراعية
من جانبها، أوضحت رفيقة الجمل، رئيسة وحدة بالمشروع، أن المشروع ساهم في تحسين أداء التربة بنسبة قاربت22% مقارنة بالأراضي غير المعالجة. كما ساهم في دعم 7 مشاريع صغرى.
بالاضافة إلى ذلك، استفادت من المشروع أكثر من 13 ألف فلاّح و فلاحة، من بينهم 22% من النساء ، مما انعكس إيجابا على وضعهن الاجتماعي والاقتصادي. كما نُظّمت دورات تدريبية شملت 5500 شخص من العاملين في القطاع الفلاحي، بينهم 970 امرأة.
واعتمد المشروع مقاربة تشاركية جمعت بين الإدارات العمومية والجمعيات المحلية والمزارعين، ما ساهم في تعزيز الإحساس الجماعي بالمسؤولية تجاه الموارد الطبيعية وضمان فعالية التدخلات الميدانية. كما أنتج أكثر من 50 وثيقة توعوية وتوجيهية نُشرت على منصة مرصدONAGRI الالكتروني، بهدف نقل المعرفة وتوسيع دائرة التكوين في مجالات الزراعة الإيكولوجية.
تعزيز استدامة المبادرات البيئية: تجربة فلاحية رائدة
خُصّصت الورشة لخلق مساحة تفاعليّة لتبادل الخبرات، مع التركيز على استشراف آليات تضمن استدامة المبادرات البيئية التي تم إطلاقها خلال فترة المشروع. وقد تم التأكيد على أهمية دمج نتائج ProSol ضمن السياسات الفلاحية والبيئية الوطنية، من خلال تعزيز التنسيق بين الهياكل الحكومية، والجهات المانحة، والقطاع الخاص، بما يضمن استمرارية الجهود ويُعزز من فاعليتها على المدى الطويل.
وفي هذا السياق، شارك الفلاح الرائد نجيب العمري من ولاية القصرين تجربته الشخصية، مؤكدا في تصريح لمنصة كوسموس ميديا أن مشروع ProSol استجاب فعليّا للتحديات الميدانية التي يواجهها الفلاحون، وفي مقدّمتها الجفاف وتدهور خصوبة التربة.
وأشار إلى أن المشروع ساعدهم على تبني سلوكيات أكثر وعيا ومسؤولية فيما يتعلق بترشيد استهلاك الموارد والحفاظ على التربة كعنصر أساسي في ديمومة الإنتاج. كما ثمّن بشكل خاص دور المخبر المتنقل لتحاليل التربة، الذي مكّنهم من الحصول على بيانات دقيقة حول حالة التربة، ما ساعد في اتخاذ قرارات إنتاجية أكثر فاعلية. وعبّر عن رغبته في مواصلة العمل على تحفيز الفلاحين الآخرين للاستفادة من هذه الاستراتيجيات، نظرا لما أثبتته من جدوى عالية في تحسين المردودية وتعزيز الاستدامة.
من ProSol إلى Soil Matters: نحو استدامة طويلة المدى
اختُتمت الورشة بالإعلان عن إطلاق مشروع “Soil Matters“، الذي يُعد امتدادا لمشروع ProSol، لكنه يأتي بطموحات أكبر وأدوات تنفيذ أكثر تقدما. فقد لعب ProSol دورا محوريا في مرحلة التأسيس، من خلال رفع الوعي بأهمية حماية التربة وتكوين الفلاحين حول الممارسات الزراعية المستدامة والتكيّف مع التغيرات المناخية. هذا التوجه ساهم في ترسيخ ثقافة بيئية لدى الفلاحين وتعزيز قدراتهم، خاصة في المناطق التي تعاني من التدهور والتصحر. أما مشروع Soil Matters، كما أوضحت رفيقة الجمل، يسعى إلى توفير خدمات أوسع للفلاحين، مثل تمويل المشاريع المستدامة، دعم الابتكار في التقنيات البيئية، وتعزيز مشاركة القطاع الخاص في سلاسل القيمة الزراعية. بذلك، يتحول المشروع الجديد إلى رافعة حقيقية لاقتصاد دائري قائم على الزراعة الإيكولوجية، ويعزز مسار التنمية الفلاحية المستدامة في تونس.
تمثّل هذه الورشة تتويجا لمسار طويل من العمل المستمر في مجال حماية التربة وتحقيق الاستدامة البيئية والفلاحية.
وقد أبرزت أهمية بناء شراكات استراتيجية قوية بين مختلف الأطراف المعنية. كما شكّلت فرصة للتأكيد على ضرورة تعزيز التعاون المستدام من أجل ضمان استمرارية هذه الجهود وتحقيق أثر ملموس في تحسين الظروف البيئية والمعيشية للمجتمعات الريفية التونسية. ورشة العمل هذه ليست فقط نهاية مرحلة، بل بداية لمرحلة جديدة من التعاون والتطوير المستدام، مما يعزز قدرة هذه المجتمعات على مواجهة التحديات البيئية المتزايدة وضمان مستقبل أكثر ازدهارا.
كوسموس ميديا / ميساء زعيره