أمل الصامت – كوسموس ميديا
تخيّل أن تحلم بعالم جميل فيه خير لك ولكل البشر، وفجأة تأكل النيران كل ذلك العالم ويتحول الحلم إلى كابوس. حكيم الرويسي واحد من بين كثر عاش ذلك الكابوس ذات صيف 2023.
“120 بيت نحل تحوّلت إلى رماد.. كنت أرى النيران تأكلها وتأكل حلمي معها.. لم أستوعب حينها ما الذي يحصل معي.. خسائر مادية فاقت الـ150 ألف دينار.. كنت يومها في حيرة من أمري هل أنقذ حلمي أم عائلتي وأطفالي.. وفي النهاية تحولت أرضي ومشروع تربية النحل خاصتي إلى رماد”. هكذا لخص مربي النحل حكيم الرويسي ما حصل معه خلال شهر جويلية من سنة 2023، بسبب اندلاع الحرائق بعمادة ملولة من معتمدية طبرقة.
يتذكر حكيم المأساة التي عاشها، في حديثه لكوسموس ميديا، والحزن مازال يعتصر قلبه، فهو لم ينفك يكرر في كل جملة أنه خسر حلمه الذي بدأ في تحقيقه منذ سنة 2013، والذي هو عبارة عن مشروع في تربية النحل وبعض الأنشطة الفلاحية المرافقة، اختار له قريته الصغيرة المحاذية لجبال ملولة لما تتميز به من تنوع بيولوجي وثراء في الغطاء النباتي والأشجار العاسلة.
الغابات والنحل: أي علاقة؟
بات الحديث عن خطر زوال الغابات (la déforestation) في تونس خلال السنوات الأخيرة متواترا، خاصة بالتوازي مع التغيرات المناخية التي تشهدها البلاد على غرار بلدان العالم جمعاء، إلى جانب الكوارث الطبيعية المتكررة في المناطق الغابية وعلى رأسها الحرائق.
وحسب آخر المعطيات التي قدمتها الإدارة العامة للغابات فقد مثلت المناطق الغابية المحروقة ما مجموعه 56 ألف هكتار بين عامي 2016 و2023، أي ما يعادل 4.7% من إجمالي مساحة الغابات في تونس. وفي صائفة 2023، تم تسجيل 436 حريقا غابيا مما أدى إلى تدمير 5687 هكتارا.
صائفة واجهت خلالها عمادة ملولة وحدها ما وُصف بكارثة بيئية تمثلت في سلسلة من الحرائق التي أضرت بشكل كبير بالنظم الإيكولوجية الغابية في تلك المنطقة. ووفقا لتقديرات الحماية المدنية التونسية دمرت هذه الحرائق حوالي 400 هكتار بما في ذلك المنازل والأراضي الزراعية ومناطق الغابات.
تؤدي إزالة الغابات إلى العديد من العواقب على النظم البيئية الطبيعية، وأكثر هذه العواقب شهرة هي تهديد التنوع البيولوجي. فالغابة هي موطن غني بالتنوع البيولوجي، سواء كانت ثدييات أو طيور أو حشرات أو برمائيات أو نباتات.
لا يمكن الحديث عن أهمية الغابات في التنوع البيولوجي دون الإشارة إلى دور النحل الحيوي في هذه المنظومة. وفقًا للأمم المتحدة، تمثل الغابات “شبكة الحياة” التي نعتمد عليها في العديد من الأمور مثل الغذاء والماء والطب والمناخ المستقر والنمو الاقتصادي. منذ عام 2018، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 20 ماي يومًا عالميًا للنحل، نظرًا للانخفاض الكبير في أعداد النحل والملقحات الأخرى، مما يستدعي تعزيز الجهود لحماية هذه الكائنات الصغيرة التي تلعب دورًا كبيرًا في البيئة.
وتدرك الدولة التونسية جيدا هذا الدور الحيوي للغابات والنحل على حد سواء. وتعمل منذ سنوات طويلة على مجابهة الكوارث الطبيعية وعلى رأسها الحرائق إضافة إلى القيام بحملات تشجير سنوية إلا أنه في دراسة علمية حديثة أصدرتها جمعية “كلام” بعنوان “حرائق الغابات في ملولة” تم استعراض ما وصفه الباحثون بـ”أوجه القصور التي يعرفها الإطار القانوني والمؤسساتي التونسي في مجال حماية الغابات من الحرائق. وانتقدت الدراسة تراجع دستور 2022 عن بعض المكاسب البيئية التي جاء بها دستور 2014 وفي مقدمتها التنصيص على هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة.
في المقابل لم ينكر الأستاذ الباحث بمعهد الغابات والمراعي بطبرقة فؤاد الحسناوي ما تشكله الحرائق من تهديد لديمومة الغابات التونسية، مشيرا إلى التأثير السلبي لذلك على التنوع البيولوجي وخاصة النحل لأهميته كملقح للنباتات. جاء ذلك في تصريح خص به الحسناوي كوسموس ميديا على هامش أسبوع الغابات المنتظم بين يومي 19 و21 نوفمبر 2024، بمدينة العلوم تحت إشراف وزارة الفلاحة.
تؤكد الدراسات العلمية أن خدمات التلقيح التي يقدمها النحل ضرورية لإنتاج الغذاء وسبل العيش. حيث يعتمد حوالي 75% من أنواع المحاصيل الغذائية العالمية على الملقحات، مما يبرز أهمية النحل في تنوع إمداداتنا الغذائية. ومع ذلك، تواجه هذه الكائنات تهديدات كبيرة، حيث تشير التقارير إلى أن معدلات انقراض النحل الحالية تتراوح بين 100 إلى 1000 مرة أعلى من المعدل الطبيعي بسبب الأنشطة البشرية. كما أن حوالي 40% من أنواع النحل معرضة لخطر الانقراض (منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة “الفاو”).
إذن فإن فقدان النحل لا يؤثر فقط على التنوع البيولوجي، بل يهدد أيضًا الأمن الغذائي العالمي. فدون النحل، ستنهار العديد من الأنواع والعمليات الحيوية داخل النظام البيئي، مما يؤدي إلى نقص حاد في المحاصيل الغذائية وزيادة الأسعار. وبالتالي، فإن حماية النحل وموائله تعد أمرًا حيويًا لضمان استدامة النظام البيئي وصحة الإنسان.
أوجه متعددة لعملة واحدة؟!
لئن أتت حرائق ملولة على حلم حكيم وجعلت المنظومة البيئية تخسر الآلاف من النحل، فإن خطر زوال الغابات والمشاكل التي يواجهها مربو النحل ومن ورائها التهديدات الموجهة للتوازن الإيكولوجي لا يقتصر على حرائق الغابات.
التقت كوسموس ميديا عددا من مربي النحل في مناطق مختلفة من الجمهورية لاستقراء مدى تأثير إزالة الغابات على القطاع. لقاءات كشفت النقاب عن عديد العوامل المساهمة في الخسائر التدريجية لأعداد النحل في تونس وتراجع مردودية قطاع يقتات منه أكثر من 13 ألف مربي نحل وفق آخر الإحصائيات الصادرة عن وزارة الفلاحة سنة 2023.
فطومة بن مختار نحّالة مبتدئة انطلق مشروعها في تربية النحل منذ سنة 2022، ببيتي نحل وصلا اليوم لـ12 بيتا ركزتها في أرضها الفلاحية الصغيرة بمنطقة شرفش 1 من منطقة سيدي ثابت بالعاصمة تونس. تحدثت فطومة عن الصعوبات التي تواجه مشروعها بصوت مرتعش أحيانا وبنبرة تفاؤل أحيانا أخرى، وهي التي تعمل كل يوم لجعل “نحلاتها” تقاوم الظروف المناخية الصعبة بفعل قلة التساقطات ونقص المرعى.
بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للنحل يوم 20 ماي الفارط، أفادت وزارة الفلاحة بأن 75% من مربي النحل يعانون من تراجع إنتاج العسل خلال السنوات الأخيرة بفعل التغيرات المناخية. وقال المهندس الأول بديوان تربية الماشية وتوفير المرعى حسان بن سالم، وفقا لما نقلته وكالة تونس افريقيا الأنباء عنه، إن المتوسط الوطني لإنتاج العسل لم يتجاوز خلال الموسم الفارط 4 كيلوغرامات للخلية الواحدة بسبب موجات الحر، لافتا إلى الأضرار التي لحقت بخلايا النحل وقطاع تربية النحل بشكل عام في تونس، خصوصا، بسبب الطفيليات والأمراض المستشرية والاحتباس الحراري وكذلك استخدام المبيدات الحشرية، التي لا تضر التنوع البيولوجي، فحسب، بل تعرض إنتاج العسل للخطر، وفق تقديره.
من جانبه شدد مربي النحل والمستشار الدولي في المجال نزار جباري، في تصريح لكوسموس ميديا، على أهمية مربيي النحل في المحافظة على التوازن البيئي بوصفهم أصدقاء للطبيعة ويساهمون في حماية النحل كنوع أساسي من أنواع الملقحات التي تساهم في تأمين 75% من الغذاء حول العالم، من الانقراض، معددا المشاكل التي يواجهها القطاع والتي تتوزع إلى جانب إزالة الغابات والتغيرات المناخية إلى الاستعمال المفرط للمبيدات الحشرية في الأراضي الزراعية والتلوث بأنواعه.
ينقل برنامج الأمم المتحدة للبيئة تقريرا عن المنبر الحكومي الدولي للعلوم والسياسات في مجال التنوع البيولوجي وخدمات النظم الإيكولوجية، يثبت أن “التغير في استخدام الأراضي، والإدارة الزراعية المكثفة واستخدام مبيدات الآفات، والتلوث البيئي، والأنواع الغريبة الغازية، ومسببات الأمراض وتغير المناخ”، جميعها تهديدات رئيسية لوفرة الملقحات وتنوعها وصحتها.
لا تساهم الغابات في توفير المرعى للنحل فحسب، بل هي أيضا مصدر للظل ومخفّض للحرارة لهذه الكائنات خاصة في فصل الصيف. يقول الخبير الدولي في تربية النحل نزار جباري إن ما بين 10 آلاف إلى 40 ألف نحلة في بيت النحل الواحدة (حسب حجم البيت) تتجند خلال موجات الحر للتخفيف من شدة الحرارة حتى لا يذوب الشمع ويؤدي ذلك إلى هلاكها، لافتا إلى أهمية وجود الأشجار المحيطة ببيوت النحل في هذه الحالة.
ولئن أطلق الجباري صيحة فزع تجاه خطر زوال الغابات في تونس مما يهدد بتحويلها من “تونس الخضراء إلى تونس القاحلة”، فإن عددا من مربي النحل ممن التقيناهم على هامش يوم إعلامي نظمه المعهد الوطني للبحث والتحليل الفيزيائي الكيميائي (INRAP) بالشراكة مع الشركة التعاونية الفلاحية “حلم أخضر”، يرون في العمل المشترك بين مختلف الأطراف من دولة ومجتمع مدني ومراكز بحوث وأبناء القطاع الحل الوحيد في وجه كل المشاكل سواء التي تلك التي تواجهها الغابات أو تلك التي تهدد بقاء النحل.
استطاع حكيم الرويسي تخطي الصدمة والخسائر المادية، وأبى أن يستسلم لليأس، إذ بدأ مشروعا جديدا في تربية النحل، ولكن في مكان آخر بعيدا عن منطقة ملولة التي يؤكد أنها مازالت تعاني إلى اليوم من آثار الحرائق التي لحقت بغاباتها وجبالها.
وفي حين يأمل حكيم أن يوفق هذه المرة في تحقيق حلمه، تسعى فطومة ونعيمة وريم وأنس ونزار وغيرهم من مربي النحل إلى إيجاد حلول بديلة لتوفير المرعى والظل لبيوت النحل خاصتهم، من خلال زراعة بعض النباتات العاسلة في انتظار أن يأتي هذا الشتاء بأمطار كفيلة بجعلها تنمو.
إن حرائق الغابات والتغيرات المناخية والمبيدات الحشرية والتلوث ليست مجرد تهديدات للبيئة، بل هي تهديدات مباشرة لحياة النحل، الذي يعد أحد أعمدة النظام البيئي. وإذا كان فقدان النحل يعني فقدان جزء أساسي من سلاسل الغذاء، فإن استمرار كوكب الأرض هو رهين استمرار هذه الكائنات الصغيرة، وبالتالي كل خطوة نخطوها نحو حماية هذه الكائنات الصغيرة تعني حماية البشر من الزوال.
تجدر الإشارة إلى أن الهدف الرئيسي من اعتمادنا على هاشتاغ #النحل_حياة ضمن هذا العمل الصحفي هو الإشارة إلى أهمية هذا الكائن في استمرار البشرية على هذا الكوكب.
فريق العمل:
-
عمل صحفي: أمل الصامت
-
تصوير: وسيم جرايدي وأمل الصامت
-
مونتاج وغرافيك: صبرين النخيلي