سليديرمقالات

الهجرة غير النظامية تعمّق جراح تونس البيئية (ريبورتاج)

مبروكة خذير- كوسموس ميديا

وسط غابات الزيتون في منطقة العامرة من ولاية صفاقس لم يعد المشهد كعادته شجر وتربة. لقد تحولت المساحات على امتداد البصر إلى مصب للأوساخ والفضلات وخاصة القوارير والأكياس البلاستيكية.

تحت الأشجار يفترش الأفارقة جنوب الصحراء ظل الزياتين، هنا يخيمون لأيام طويلة قبل أن يأتي خبر انطلاق رحلتهم عبر قوارب الموت نحو الضفة الأخرى من السواحل الأوروبية.

تحت الزياتين يفترشون أرضا أصبحت مفروشة بكل أنواع القمامة التي يلقونها حولهم في الخلاء حيث مقامهم تحت أشعة الشمس وسعير المطر وأتربة الرياح العاتية أحيانا.

ربما يصبح الحديث عن الوضع البيئي الكارثي ثانويا عند البعض إن كنا نتحدث عن وضع أكثر كارثية لمهاجرين من افريقيا جنوب الصحراء لا يجدون قوت يومهم ولا شربة ماء أو كوبا للاستحمام.. ولكن وجب الحديث عن هذه الزاوية، فالجانب الإيكولوجي هو الآخر مهم وخطير إذا تواصلت الأوضاع البيئية السيئة لمخيمات تجمع المئات من الأفارقة جنوب الصحراء وسط غابات الزياتين في جبنيانة والعامرة واللوزة وغيرها من مناطق الجمهورية الأخرى.

وحتى نكون منصفين في التفسير لا تقع المسؤولية برمتها على عاتق رواد المخيمات الممتدة وسط غابات الزياتين لوحدهم، فهم لا يجدون في أغلب الأحيان شربة ماء، بل أعتقد أن سياسة إدارة أزمة المهاجرين عجزت اليوم عن إيجاد حل لهم ولما يتسبب فيه وجودهم في العراء من تلوث بري وبحري.. لقد أصبحت كل عناصر البيئة ممسوسة في الصميم بشر وحجر وتربة وأرض وبحر.

بل إن حياة الإنسان، تونسيا كان أو مهاجرا من افريقيا جنوب الصحراء، أصبحت مهددة بفعل تأثير كل أنواع التلوث -التي سناتي على ذكرها على صحة الانسان- تلوث التربة والطبيعة، تلوث البحر والتلوث البصري… ولعلها صرخة قوية في وجه القائمين على السلطة للالتفات لحق الانسان مهما كانت جنسيته أو لونه أو عرقه أو دينه أو وضعيته القانونية في حياة كريمة وبيئة سليمة.

زياتين تختنق..

وانت تشق طريقك نحو غابات الزياتين حيث يسكن الأفارقة جنوب الصحراء منذ أشهر في منطقة العامرة تعترضك مصبات قوارير الجعة مرمية في كل مكان. أكداس من القوارير البلورية يلقيها شباب الجهة ممن يجدون تحت أشجار الزياتين ركنا بعيدا عن أعين أبناء جهتهم.

غابات ومساحات ممتدة أصبحت مصبا تلقى فيه القوارير بشتى أصنافها، وما من طرف هنا قادر على رفع أكداس القمامة. تتوغل أكثر وسط الزياتين لتبلغ تجمعات الأفارقة جنوب الصحراء.

مئات من الشباب والنساء وحتى الأطفال وجدوا تحت ظل أشجار الزيتون مَلْجَأً يحتمون به منذ أشهر. وفود تأتي وأخرى ترحل تاركة وراءها كل أنواع القمامة: مواد عضوية وقوارير بلاستيكية وأكياس وأواني من حديد…

الهجرة غير النظامية تعمّق جراح تونس البيئية © copyright Khedir Mabrouka

تحولت الأرض إلى زربية بشعة مفروشة ببقايا البلاستيك وبقايا الحشايا والأغطية التي يتركها مستعملوها بعد فترة إقامة تنتهي برحيلهم عن المكان في قوارب الموت.

لا أحد هنا يهتم لجمالية المكان بفعل قبح الواقع المرير الذي يعيشونه. بعضهم يمضي أشهرا هنا يستجدي شربة ماء وبعضا من الأرز يسد به رمق الجوع.

المشهد الطبيعي مشوه بكل عناصر تنوعه البيولوجي، الشجر والإنسان والتربة… كلها عناصر تتألم لفظاعة ما تجنيه الطبيعة من عبث العابرين.

كيف نأكل سمكا يتغذى من الجثث الآدمية؟

ليس البر وحده بزياتينه من يختنق فحتى المحيط البحري في ولاية صفاقس أصبح موبوءا وأصبحت أثار الهجرة غير النظامية جليّة على المعيش اليومي للبحارة في مدن صفاقس التي تقتات من البحر.

لقد كسدت بضاعة بحارة منطقة اللوزة من ولاية صفاقس من الأسماك، وأصبح صعبا عليهم بيع ما يصطادونه من الأسماك بفعل نفور السكان من شراء الأسماك التي أصبحت تتغذى من لحم المهاجرين غير النظاميين الذي يلقون حتفهم في عرض البحر أثناء رحلاتهم السرّية نحو السواحل الأوروبية.

الهجرة غير النظامية تعمّق جراح تونس البيئية © copyright Khedir Mabrouka

أصبحت جثث المهاجرين غير النظاميين من الأفارقة جنوب الصحراء المتحللة وسط عرض المتوسط تثير نفورا لدى المواطنين ويعرضون بالتالي عن الإقبال على منتوجات الصيد البحري.

لقد باتت شباكهم تصطاد جثث الموتى بدل أن يعلق فيها السمك، وهو ما أضرّ كثيرا بالتنوع البيولوجي البحري وعمّق أزمة البحر الذي يعاني بطبيعته من أزمة التلوث البلاستيكي.

فأما التلوث البصري فتلك أيضا محنة أخرى يعاني منها أهالي مدن جبنيانة والعامرة واللوزة، وغيرها أيضا من شواطئ خليج قابس حيث أصبحت مئات الجثث تطفو كل يوم مخلفة روائح كريهة ومشاهد مؤلمة ومحزنة، حيث تبقى الجثة أحيانا أياما دون رفعها بسبب نقص المعدات لدى أعوان الحماية المدنية.

عشرات القوارب الحديدية الملقاة وسط المحيط البحري..

في ميناء اللوزة بدا المشهد مختلفا هذه المرة. على امتداد البصر تطالعك أكداس مراكب من حديد.

تعد القوارب الحديدية اليوم موضة الباحثين عن الرحيل من الأفارقة جنوب الصحراء. لقد برزت في العام 2023، هذا النوع المستحدث من القوارب التي لا تكلف المهاجرين غير النظاميين كثيرا مقارنة بالقوارب الخشبية التي تعوّد البحارة على استعمالها.

إنها قوارب تخفف من تكلفة الرحلات، حيث أصبح المهاجرون الأفارقة يعتمدون بدرجة أقل على قوارب الصيد التونسية ويشترون قواربهم المعدنية المصنوعة بأسعار رخيصة والمخصصة لرحلة واحدة فقط.. رحلة واحدة كثيرا ما تفشل، فيُعاد المهاجرون إلى البرّ وتغرق مركبتهم في عمق المحيط البحري لتعمّق أزمة التلوث القديمة.

وأصبحت صناعة قوارب الموت الحديدية نشاطا مربحا للكثيرين في مناطق العامرة والمساترية حيث يستعمل كثيرون منهم منازلهم لصناعة المراكب قبل نقلها للشاطئ وبيعها للباحثين عن الإنطلاق نحو السواحل الأوروبية.

ولئن تغيب اليوم الاحصائيات بشأن هذا المصدر الملوث للمحيط البحري، إلا أن العين المجرّدة تدرك سريعا أن عددها على الشواطئ كثير، ولكن عدد المراكب الحديدية المرمية منها في عمق البحر أكثر بكثير، إذ يحدّثك البحارة عن أن شباكهم ومراكبهم أصبحت تصطدم بهذا النوع من التلوث في الأشهر الأخيرة وهو ما يسبب لهم تحديا جديدا في تجديد معدات الصيد بشكل متواتر مقارنة بالسنوات الفارطة.

قد يعتقد البعض إذا أن الحديث عن تأثيرات الوضع الإنساني المأساوي أهم من التطرق إلى الجانب الايكولوجي، ولكن الشأن البيئي مطروح اليوم بشدة وهو يحتاج معالجة وتفحصا وحلولا عاجلة لأنه يتعمّق ويعمّق أزمة الإنسان الصحية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها…

إن البيئة بشتى عناصرها تتأثر اليوم بظاهرة الهجرة غير النظامية المتفاقمة وهي تؤثر فينا بشكل مباشر، مما يجعل الوضع قابلا للاشتعال في تعميق النزاعات في مدن كان أجدر أن تكون قبلة للسياحة والاستجمام لا مقبرة مفتوحة لكل أنواع الفضلات التي يمكن أن تكون النفس البشرية أحد مكوناتها في مشاهد مؤلمة وقاسية..

زر الذهاب إلى الأعلى