وجيه النمر – كوسموس ميديا
“باجة” هي إحدى ولايات الشمال الغربي التونسي التي تمتاز بأراضيها الزراعية الشاسعة والخصبة، وكانت تسمى في العهد الروماني VAGA وهو ما يعني البقرة الحلوب أو تموّجات سنابل القمح في الحقول عند هبوب النسيم، كما لقبت بمطمور روما نظراً لوفرة محاصيلها الزراعية وما كانت توفره لروما من إمداداتٍ غذائية، وعقب الفتح الإسلامي لتونس لقبها العرب بـ”باجة القمح”.
ولكن اليوم ومع انطلاق موسم الحصاد، تتفاجأ حينما تتجول في الأراضي الزراعية في “باجة” بندرة المحصول ورداءة نوعيته، حيث يقدر نقص الإنتاج هذا الموسم وفق تقديرات الاتحاد الجهوي للفلاحة والصيد البحري بـ”باجة” بنحو 80 بالمائة مقارنة بالمواسم السابقة حيث يتجاوز متوسط معدل إنتاج الولاية من الحبوب نحو 3 ملايين قنطار سنويا، ولكن لن يتجاوز محصول الموسم الحالي على أقصى تقدير مليون قنطار.
لتجنب الخسائر الإضافية.. فلاحون يقررون عدم الحصاد
هذا النقص يبدو جليا -على سبيل المثال- في منطقة سيدي اسماعيل في “باجة” فرغم شساعة المساحات المزروعة وامتدادها، إلا أن سنابل القمح تبدو يابسة لا تحوي سوى عدد قليل من الحبوب الجافة التي لا ترجى أي فائدة من حصادها، حيث إنها قابلة للتفتت بمجرد ملامستها لآلة الحصاد وهو ما أجبر عدد من الفلاحين على اتخاذ قرار بعدم حصاد المحصول حتى لا يتكبدوا خسائر إضافية، وفق ما أكده لنا محمد أمين الكوكي وهو احد الفلاحين الشباب من منطقة سيدي إسماعيل الذي روى لنا معاناة فلاحي المنطقة والخسائر التي تكبدوها.
“محمد أمين” قال إن الموسم كان واعدا في بدايته، حيث قام بزراعة “القمح والفارينة والقصيبة”، ولكن بسبب ندرة الامطار لم يكن المحصول بحجم المتوقع، مضيفا أن ما زاد من تعقيد الوضع هو قرار السلطات المسئولة في الولاية بإيقاف ري الأراضي الزراعية بالمنطقة، وأنه قرر عدم حصاد محصوله من الحبوب حتى لا يتكبد خسائر إضافية.
نقص الأمطار وقرارات المسؤولين تتسبب في أضرار كبيرة للأراضي
معاناة فلاحي ولاية باجة مع ندرة المياه هذا الموسم تفاقمت مع شهر جانفي/يناير، حيث إنه بالتوازي مع نقص الأمطار، قررت المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية إيقاف ري الأراضي الزراعية التي تعتمد على منظومة سد سيدي سالم -وهو أكبر السدود التونسية- والاكتفاء بري زراعات استراتيجية هي (الحبوب، الأعلاف، اللفت السكري) والمحافظة على ديمومة الأشجار المثمرة دون سواها، وعدم تركيز مضخات بمختلف أنواعها على ضفاف وادي مجردة.
هذا القرار تسبب في أضرار كبيرة للأراضي الزراعية في “باجة”، وفق ما أفادنا به رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحين شكري الدجبي، حيث أشار إلى أنه لم يتم الالتزام بتفاصيل هذا القرار، ومنذ صدوره تم إيقاف الري التكميلي لكافة الأراضي الزراعية في الولاية، وهو ما تسبب في تضرر نحو 70 بالمائة من زراعات الحبوب جراء الجفاف، وهو ما يعادل نحو 100 ألف هكتار من الأراضي من إجمالي 150 ألف هكتار من الحبوب تمت زراعتها بداية الموسم بنسبة إنتاجية لن تتجاوز 20 بالمائة طبقا لأفضل التقديرات.
مسؤولون يبررون: نسبة امتلاء السدود بالولاية لم تتجاوز 31 بالمائة
من جانبه، المعتمد الأول المكلف بتسيير ولاية باجة صابر البنبلي اثناء جلسة عمل انتظمت بمقر الولاية بتاريخ 14 مارس 2023 وخصّصت للنظر في مسألة ضخّ العشوائي لمياه وادي مجردة، برر قرار إيقاف الري في الجهة بتواصل انحباس الأمطار، ومحدودية المخزون المائي المتوفر بالسدود الكبرى حيث إن نسبة امتلاء السدود بولاية باجة لم تتجاوز أثناء شهر مارس 2023 نحو 31 بالمائة من طاقة استيعابها.
كما أنه أعلن عن إجراءات جديدة لمجابهة أزمة المياه من بينها إجراءات عاجلة تخص نحو 480 مضخّة عشوائية تضخّ قرابة 11 مليون مترا مكعبا من مياه وادي مجردة 50 بالمائة منها تضخّها 12 شركة كبرى، عبر تركيب عدّادات ذكية تمكّن من قياس كميات المياه والحد من الضخّ، إلى جانب إقرار تغيير عدد من المضخات، وتوجيه مراسلات لعدد آخر لحثهم على التقيّد بالقانون.
يقع سدّ سيدي سالم بالشّمال الغربي للبلاد التّونسيّة، وبالتّحديد بعمادة الصّخيرة من معتمديّة تستور التابعة لولاية باجة، ودخل طور الاستخدام سنة 1982، تلبية لاحتياجات استهلاك مياه، وبهدف توفير مياه الرّي لعدّة مناطق على ضفاف وادي مجردة ومناطق الوطن القبلي، وتلبية لاحتياجات مياه الشّرب في كل من تونس الكبرى ونابل وسوسة وصفاقس، ويعتبر سد سيدي سالم أكبر السدود بالجمهورية التونسية حيث تبلغ طاقة استيعابه الحالية بنحو 580 مليون متر مكعب وهو الشريان الاساسي لمياه الري ليس فقط في ولاية باجة بل يمثل العمود الفقري للري في الشمال التونسي ويساهم في توفير مياه الري لمناطق زراعية مهمة من ولايات تونس ومنوبة وأريانة وبنعروس وبنزرت ونابل.
وبسبب النقص الحاد في الأمطار هذه السنة، شهد سد سيدي سالم نقصا غير مسبوق في ايراداته حيث بلغت بتاريخ 21 مارس 2022، نحو 96 مليون متر مكعب بما يعادل 17% من طاقة استيعابه وفق تصريحات فيصل الخميري كاهية المدير بالإدارة العامة للسدود والأشغال المائية الكبرى بوزارة الفلاحة، والذي شدد على أنها من أدنى النسب التي يتم تسجيلها منذ بنائه، مشيرا إلى أنه في ظل النقص الكبير في إيرادات السدود لجأت وزارة الفلاحة إلى اعتماد الحوكمة في استغلال المياه بهدف ترشيد الاستخدام.
فلاح: نحن محرومون من مياه السدود التي تمر بأراضينا
شريف القصطلي فلاح من “باجة”، عبر بدوره عن استنكاره لقرار إيقاف الري في كافة الأراضي الزراعية في الولاية، خاصة أن المناطق الزراعية المحاذية للسدود الكبرى كان الهدف من إنشائها هو التصدي لمثل هذه الجوائح، لافتا إلى أنه من غير المقبول إيقاف الري عن هذه المناطق، وتحدث عن قيام السلطات بمصادرة تجهيزات الري بالإضافة لقطع التيار الكهربائي عن عدد كبير من الفلاحين رغم حصولهم على تراخيص ري، واعتبر أنهم تعرضوا لما وصفه بالتمييز، قائلا: من غير المقبول أن تمر مياه سدود الشمال ومياه وادي مجردة عبر أراضيهم ويتم حرمانهم من استغلالها في الري، وهو ما تسبب في تضرر نحو 80 بالمائة من الاراضي الزراعية هنا”.
كما أشار “القصطلي” إلى وجود تقصير من قبل الدولة التونسية ووزارة الفلاحة في معالجة مشكلة المياه، وعبر عن غياب أي جهد لتجميع مياه السيول، حيث يتم سنويا خسارة كميات من المياه تقدر بنحو 400 مليون متر مكعب تتجه نحو البحر دون أن يتم استغلالها، مضيفا أن الخسائر لن تقتصر فقط على الموسم الحالي لأن ضعف الإنتاج سيتسبب في مشاكل كبرى في توفير بذور الموسم المقبل، وأنه سيكون هناك نقص حاد في المنتجات الصيفية مثل الطماطم والفلفل والبصل، وارتفاع حاد في أسعارها.
رئيس اتحاد الفلاحين: 160 مليون دينار خسائر الفلاحين في الموسم الزراعي
لقد تسبب قرار قطع مياه الري عن الأراضي الزراعية في باجة في تكبد فلاحي المنطقة في خسائر فادحة، إذ تقدر تكلفة زراعة الهكتار الواحد من الحبوب بنحو 2000 دينار، وفق ما أكده لنا رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحين بباجة شكري الدجبي، والذي أضاف أن مساحة الأراضي المتضررة من الجفاف تقدر بنحو 80 ألف هكتار، وهو ما يعني ان الخسائر المالية التي تكبدها فلاحو ولاية باجة لوحدها في هذا الموسم الزراعي تقدر بنحو 160 مليون دينار.
هذه الخسائر الفادحة أجبرت عددا كبيرا من الفلاحين على اتخاذ قرار بعدم وجود خطط للزراعة في الموسم الصيفي حتى يتجنبوا تكبد المزيد من الاضرار. شكري الدجبي اعتبر أن الفلاح التونسي هو من يدفع ثمن فشل السياسات العمومية، وتحدث عن وجود سوء تصرف في استغلال الموارد المائية في تونس تجسد بالأساس في عدم قيام السلطات المعنية بإجراءات الصيانة اللازمة، وهو ما تسبب في ارتفاع كميات الرواسب داخل السدود التي تقدر بنحو 20% من إجمالي طاقة استيعاب السدود، مما أثر بشكل كبير على عملية تجميع مياه الأمطار، بالإضافة لوجود إشكالية أخرى تتمثل في ضياع المياه بسبب تقادم قنوات الري حيث تقدر كمية المياه الضائعة بنحو 30 %.
نعود للحديث مع فلاحنا شريف القصدلي والذي اعتبر ان معاناة الفلاحة لن تقتصر على الموسم الحالي بل ستتواصل في الموسم القادم، وبسبب النقص الحاد في صابة الحبوب الفلاحون سيواجهون صعوبات جمة في توفير البذور للموسم المقبل، وحتى لو تمكنوا من توفيرها لن تكون من النوعية الممتازة وهو ما سيكون له تأثير على صابة الموسم المقبل، وطالب وزارة الفلاحة باتخاذ الاجراءات اللازمة لمراقبة تجميع صابة الموسم الحالي وضمان توفير ما يلزم من بذور، بالاضافة لتفعيل صندوق الجوائح وتقديم الدعم اللازم للفلاحين المتضررين من ندرة المياه وتعويضهم عن الخسائر التي تكبدوها حتى يتمكنوا من الصمود واستئناف نشاطهم في الموسم المقبل.
مسؤولون يلقون باللوم على “التغيرات المناخية”
وحول مدى نجاح السياسات المائية التي تعتمدها وزارة الفلاحة، والجدوى من قرار إيقاف الري طرحنا هذا السؤال على صلاح الدين الهميسي المدير بمكتب التخطيط والتوازنات المائية التابع لديوان وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، الذي اعتبر أن دول حوض البحر الابيض المتوسط ومن بينها تونس كانت من بين أكثر الدول تضررا من التغييرات المناخية، خاصة أن السنة الحالية تميزت بنقص حاد في تساقط الأمطار.
وأضاف “الهميسي” أن نسبة النقص في إجمالي إيرادات السدود التونسية في الثلاث سنوات الأخيرة تقدر بأكثر من 500 مليون متر مكعب، مما أدى لإعطاء الأولوية لمياه الشرب، وتفادي حدوث انقطاعات في فترات الذروة أثناء فصل الصيف خاصة أن القطاع الفلاحي يستهلك وحده أكثر من 70 % بالمائة من الموارد المائية السطحية، معتبرا أن تصرف الدولة في الموارد المائية المتاحة كان حكيما وناجحا رغم الصعوبات.
مختصون: سياسات الحكومة وغياب الرؤية من بين الأسباب الرئيسة لأزمة المياه
من جانبه اعتبر حسين الرحيلي، المختص في التنمية والتصرف في الموارد المائية، أن الأزمة المائية في تونس مرتبطة بغياب سياسة عمومية حكيمة ورشيدة، فرغم أنها مشكلة مركزية إلا أنّ الأجهزة الرسمية السياسية تطرح مسألة المياه وكأنها مسألة عادية، مضيفا أنه منذ سنة 1995 تم تصنيف تونس ضمن 27 دولة تعاني الضغط المائي، بما يعتبر صافرة الإنذار الأولى، ولكن رغم هذا التحذير لم يتم تغيير السياسات العمومية في مجال الماء والزراعة، إلى أن دخلت تونس فعليا في سنة 2015 في مرحلة الشح المائي، حيث قدر نصيب المواطن التونسي من المياه سنويا بأقل من 450 متر مكعب في السنة وهو أقل من نصف المعدل المتعارف عليه دوليا الذي يتراوح بين 700 و900 متر مكعب سنويا للفرد.
وأشار “الرحيلي” إلى أنه رغم بلوغ تونس مرحلة الشح المائي فإنه لم يتم تسجيل أي تغيير في السياسات العمومية على المستوى المتوسط والبعيد، معتبرا أن السياسات العمومية المتبعة قديمة، إضافة لاعتماد نفس المقاربة والإطار القانوني منذ سنة 1975. كما تحدث الرحيلي عن كميات المياه المهدورة بسبب تقادم قنوات الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه والتي تقدر بأكثر من 100 مليون متر مكعب سنويا، حيث تقدر نسبة الضياع في بعض الجهات بنحو 50 بالمائة، إضافة الى نحو 40 بالمائة من المياه المهدورة سنويا في القطاع الفلاحي ما يعادل أكثر من 700 مليون متر مكعب.
كما تحدث “الرحيلي” عن إشكالية تراجع طاقة استيعاب السدود، بسبب ارتفاع نسبة الترسبات، واعتبر أن أغلب السدود في تونس غير مطابقة للمواصفات الدولية، حيث لم يتم إنشاء الأحواض الدافعة للماء بالإضافة لعدم التشجير وعدم إعطاء الأهمية اللازمة لحماية المياه والتربة والتي تعتبر من أهم العناصر في إنشاء السدود، وضرب مثالا بسد سيدي سالم الذي تجاوزت الترسبات به نسبة 29 بالمائة، بما يقدر بـ 230 مليون متر مكعب، وهو ما تسبب في تراجع طاقة استيعاب السد من 814 مليون متر مكعب عند إنشائه إلى 580 مليون متر مكعب حاليا.
أما عبد الله الرابحي المهندس المختص في المياه وكاتب الدولة السابق للموارد المائية، اعتبر أن المنظومة المائية الحالية في تونس قد حققت ما كان مطلوبا منها، واعتبر أن الأوضاع الحالية تعود بالأساس للتغيرات المناخية التي عاشتها تونس في السنوات الأخيرة وتوالي سنوات الجفاف منذ سنة 2015، حيث إن إجمالي إيرادات السدود التونسية لم يتجاوز بتاريخ 14 إبريل 2023 نسبة 23% ما يعادل 330 مليون متر مكعب، في حين أن المعدل السنوي يقدر بمليار و575 مليون متر مكعب.
وأضاف “الرابحي” أنه في ظل التغيرات المناخية والتطرف المناخي الذي شهدته تونس في السنوات الأخيرة، فإنه كان من الأجدر التأقلم مع هذه التغيرات والتفكير في حلول جديدة، كما أقر بأن غياب الموارد المالية يعتبر من الأسباب الرئيسية لعدم إنجاز منشات مائية جديدة، وعدم صيانة المنشات القديمة خاصة أن نسبة ضياع المياه لدى شركة استغلال وتوزيع المياه تقدر بنحو 30%، كما أشار إلى وجود سوء تصرف في الموارد المائية واستنزاف للمياه عبر نحو أكثر من ألف مضخة عشوائية مثبتة على ضفاف وادي مجردة وتستغل المياه دون أي رقابة.
كما اقترح “الرابحي” جملة من الإجراءات لتجاوز أزمة المياه في تونس عبر إحداث إطار قانوني جديد وتطوير السياسات العمومية عبر توحيد الإدارات المعنية بالمياه، وتوفير التمويلات اللازمة للانطلاق في عمليات صيانة شاملة لقنوات مياه الشرب وقنوات الري لتجنب ضياع المياه، وإنشاء سدود جديدة ومحطات تحلية مياه اضافة لتنقية المياه المستعملة عبر معالجتها وإعادة استغلالها، مع ضرورة ترشيد استهلاك المياه وإعادة هيكلة القطاع الزراعي عبر التخلي عن الزراعات ذات الاستهلاك الغزير للمياه.