تحقيقاتسليدير

مصنع الأمونيتر بقابس: قنبلة موقوتة تهدد الأمن القومي

في المنطقة الصناعية في ولاية قابس، جنوب شرقي البلاد، ينتصب منذ عقود مصنع الأمونيتر الذي بات يشكل هاجسا يوميا يقض مضاجع مواطني الجهة بسبب ما يمثله من خطر كبير على البيئة والأنشطة الفلاحية وسلامة المتساكنين.

قد يبدو التحذير من تكرار سيناريو انفجار ميناء بيروت الذي جدّ يوم 4 أوت 2020 ضربا من ضروب الخيال للوهلة الأولى لدى عموم التونسيين بيد أنّ خبر الحريق الذي وقع صباح يوم السبت 13 مارس 2021 بالمنطقة الصناعية بقابس بمصنع “الزفت” يعزّز المخاوف بخصوص مصنع الأمونيتر بالمجمع الكيميائي يوما بعد آخر، فالخوف الآن وارد من إمكانية حصول تطورات كارثية أضحت تتراءى بوادرها للعيان.

تمّ إنشاء مصنع الأمونيتر بقابس منذ 1983، وهو موجود على بعد كيلومتر واحد من مركز المدينة وعلى بعد بضعة أمتار عن أحياء سكنية. وتعدّ مادة الأمونيتر من المواد الخطيرة، وشديدة الانفجار فهي ليست ملوّثة فقط، بل يكمن خطرها في كذلك في استعمالات أخرى قد تصل إلى أعمال تفجيرية أو إرهابية. وقد يكفي مجرّد بحث على الانترنت لمعرفة طريقة تحويل هذه المادة إلى قنبلة، وهو ما يعيه أهل الاختصاص وغيرهم مما تسوّل لهم أنفسهم إلحاق الضرر بالبلاد باختلاف غاياتهم.

فساد ينخر جسد القطاع الطاقي

يفرّق الخبراء بين الأمونيتر النفيذ وبين الأمونيتر الزراعي. وقد اشتبه استعمال بعض هذه المواد في عمليات إرهابية في تونس سنتي 2012 و2013، الأمر الذي عقد الوضع الأكثر خصوصا لدى تناول إشكاليات مصنع الأمونيتر بقابس ومحاولة حلّها، خصوصا بعد تسجيل نقص في مادة الأمونيتر.

وقد عبّرت منظمات المجتمع المدني في تونس، إلى جانب نقابات مصنع الأمونيتر، عن خوفها وهلعها مما يحدث في القطاع عموما وبشكل خاص داخل المصنع الذي يشهد نقصا فادحا في الكميات المنتجة. ويتساءلون عن مآل الكميات المنقوصة.

موقع “الكتيبة” تحصّل، في هذا الصدد، على وثائق تفيد بأنه تمت، في 21 ديسمبر 2019، معاينة نقص فادح في مخزن الأمونيتر الزراعي السائب بعد التعبئة في الأكياس لكامل الكمية المتواجدة في نصف المخزن جهة الغربال. إذ قدّرت الكمية المتبقية في النصف الآخر من المخزن من جهة البحر بحوالي 6000 طن بينما كان الرقم المدوّن بجدول المعطيات الأولية للإنتاج 12862 طن.

المخزن يقسم إلى نصفين بواسط حائط خرساني، نصف جهة الغربال (coté crible) ونصف جهة البحر (coté mer).

وكشفت عملية جرد مخزون الأمونيتر الزراعي، يوم 31 ديسمبر 2019، أن نصف المخزن جهة الغربال كان فارغا، رغم أن التقرير السنوي لسنة 2019 يشير إلى وجود كميات “وهمية” جهة الغربال. وقدّرت كمية الأمونيتر الزراعي المنقوص بـ6451 طن.

تم، في سياق ذي صلة، عقد جلسة عمل بتاريخ 29 جانفي 2020، تحت إشراف العقيد غسان فرحي رئيس الفرقة الوطنية لمراقبة المتفجرات والمواد الخطرة (التابعة لإدارة مراقبة ومرافقة المتفجرات والمواد الخطرة بالإدارة العامة للأمن العمومي)، وبحضور المدير الجهوي للمجمع الكيميائي التونسي بقابس الصادق الصويعي ومدير معمل الأمونيتر بالمجمع الطاهر الغويل، وذلك إثر ضبط الفرقة الوطنية لعدم تطابق كميات الأمونيتر النفيذ بنقص قيمته 7.6 طن خلال الـ6 أشهر الأخيرة تحديدا، ومعاينة ذات الوحدة لعدم نجاعة إجراءات التأمين وسهولة اختراق واستهداف منشآت حيوية منتجة ومستعملة للمواد الخطرة والمواد الرئيسية لصنع المتفجرات لأغراض مدنية.

وتم الاتفاق، وفق محضر الجلسة الذي تحصلت “الكتيبة” على نسخة منه، على جملة من النقاط أهمها تخصيص مكتب خاص بالفرقة الجهوية لمراقبة المتفجرات والمواد الخطرة للإشراف على عمليات الوزن والشحن النهائي للأمونيتر النفيذ وإسداء بطاقات المسلك حينيا في الغرض تنص على كمية الأكداس والوزن الفعلي للكمية المشحونة لضمان نفقد الوحدات الأمنية الأخرى للكميات الحقيقية للأمونتير النفيذ لدى الحرفاء وتفادي خروج فواضل التسامح عن دائرة المراقبة الأمنية مستقبلا، فضلا عن تقليص هوامش التسامح إلى أقصى الحدود الممكنة عند الوزن النهائي وشحن الكميات من قبل الحريف وتسجيل الهوامش ببطاقات المسلك إجباريا إن وجدت ومهما كان حجم الكمية.

واتفق الحاضرون كذلك على تركيز كاميرات مراقبة إضافية استعجاليا بالبوابات الرئيسية لخروج العملة والشاحنات وبوحدة الوزن النهائي ووحدة الأمونيتر النفيذ.

وبعد قرابة 7 أشهر، وتحديدا في 07 أوت 2020، انعقد اجتماع ثاني للأطراف المخوّل لها النظر في وضعية المصنع للنظر في تقدم سير أشغال الإجراءات التي تم الإعلان عنها في محضر الجلسة الأول، وهي القرارات التي اعتبرها البعض ذرا للرماد على العيون خاصة أن الانتقال من النظري إلى التطبيقي لا يتم بالجدية اللازمة حسب البعض، رغم أن إدارة المصنع كانت قد أعلنت أنها قيد الإعداد للشروع في انجاز شبكة مراقبة بالكاميرا وإقامة حاجز آلي ذكي بالمداخل لتسجيل البيانات والمعطيات الخاصة بالوسائل والأشخاص وأنها في انتظار صفقات عمومية لزيادة أربعة أمتار في عُلوّ السور المحيط بالمصنع.

اجتماعات متتالية وقرارات ظلت في مجملها حبرا على ورق، ولكن في الواقع فإن كل القرارات بعيدة عن جوهر القضية وفق عديد المتابعين لهذا الملف الخطير.

ويقول خير الدين دبية، ممثل حملة يكفي تلوث قابس، في سياق متصل، إنه في 6 أوت 2020، تم الحديث عن نقص ثابت في الأمونيتر بين مرحلة المواد الأولية ومرحلة المنتج النهائي بكمية تقدّر بـ2000 طن، مرجحا أن تكون الكمية أكبر من ذلك بكثير ويمكن أن يتجاوز 12 ألف طن، وهو رقم مخيف. وخلص إلى القول إن هناك فسادا وإهدارا للمال العام وخطورة في التعامل مع مادة يمكن استعمالها في الإرهاب والحروب.

قابس على كف عفريت

يقول مالك العزوزي، مدير مشروع تأهيل مصنع الأمونيتر بالمجمع الكيميائي بقابس، إن الوضع بمصنع الأمونيتر بقابس ينذر بالكثير من المخاطر.

ويبيّن أن هناك كمية تقدّر بـ4500 طن فاسدة وموجودة بالمعمل منذ فترة دون التصرف فيها ما يمثل خطرا على المواطنين وعلى البلاد. ودعا الى استغلال المستودعات الخاصة بالخزن الاستراتيجي الموجودة بقبلاط من ولاية باجة التي تقدر طاقة خزنها بـ 135 ألف طن يتم فيها تخزين 100 ألف طن من الأمونيتر وهي بعيدة عن المناطق السكنية من جهة ولا توجد مواد ملتهبة أو خطيرة أخرى في محيطها.

من جانبه، يعتبر كاتب عام نقابة معمل الأمونيتر، لطفي الزيدي، أن غياب إجراءات السلامة صلب المصنع أصبح في فترة معينة مقصودا، وذلك نتيجة وجود رغبة في الإنتاج دون القيام بالصيانة الضرورية وذلك بهدف التغطية على النقص المسجّل في الأرقام وفي مادة الأمونياك.

ويحمّل الزيدي مسؤولية ما يحصل في المصنع إلى جميع المديرين بدءا من بمدير المؤسسة مرورا بالمدير الجهوي وصولا إلى مختلف كبار المسؤولين بالمجمع، متهما إياهم بالتواطؤ في التسيّب المسجّل في المصنع.

ويؤكد رفض عمال المعمل المس بأي إجراء من إجراءات منظومة السلامة مهما كان بسيطا، محذرا من أنه إذا تم تشغيل المصنع بالطريقة التي يريدها البعض فسيقع انفجار ضخم لن يطال المعمل فقط بل المؤسسات المجاورة له.

ويشير إلى أن المدير الحالي للمعمل، الذي استلم مهامه منذ أكثر من سنة ونصف، دخل في حالة هستيرية نتيجة النقص المسجّل في مادة الأمونيتر، مما دفعه إلى تغيير الأرقام.

ويلفت محدثنا كذلك إلى وجود رغبة “للقضاء على المعمل”، وفق قوله، بهدف فتح المجال أمام “أباطرة الفساد” الذين لا يمكن لهم التمعش إلا من خلال استيراد الأمونيتر. وقد تم استيراد 60 ألف طن من الأمونيتر في الوقت الذي يستطيع فيه المصنع إنتاج 80 ألف طن، إلى جانب إنتاج ما يتطلبه الموسم الفلاحي بتونس والمقدر بـ180 ألف طن.

ويشدد لطفي الزيدي، من جهة أخرى، على أنه لم يقع استعمال الأمونيتر النفيذ في أي عملية إرهابية لا في تونس فقط بل في مختلف أنحاء العالم، مبينا، في المقابل، أنه يتم استخدام الأمونيتر الزراعي لتنفيذ عمليات إرهابية.

شهدت التجربة في الصناعات الكيميائية منذ بداية استغلال هذه المواد الخطرة عديد الانفجارات. ورغم وجود معايير سلامة كبيرة في مصانع أمونيتر عالمية، إلا أن ذلك لم يحل دون وقوع انفجارات خلفت نتائج كارثية مثل انفجار تكساس سنة 1947 الذي خلف مئات القتلى وآلاف الجرحى وانفجار تولوز سنة 2001 وهو الأشهر من نوعه وطبعا الانفجار الأخير في بيروت.

يرى عمال مصنع الأمونيتر بقابس أن الوضع أصبح يتسم بالتّسيب وغياب الصرامة، مما تسبب في أكثر من مرة في اندلاع عدد من الحرائق داخل المصنع لكنها حرائق لحسن الحظ تم تطويقها بسرعة ولم يتم الإعلان عنها للرأي العام وهي مدونة في دفاتر التوثيق داخل ملفات المصنع.

ولعلّ ما يزيد الأمور خطورة هو تكدس كميات من مادة الأمونيتر داخل أروقة المصنع. كمية تقدر بحسب الأرقام الرسمية بما يعادل 4500 طن وهي مواد إضافة إلى كونها خطيرة فإنها ملوثة وتشكل خطورة على العمال والمناطق السكنية المجاورة.

وقد فتحت السلطات القضائية تحقيقا أحيل على القطب القضائي المالي.. إلا أن عمال مصنع الأمونيتر وأعضاء النقابة الأساسية للمصنع يشعرون أن هناك محاولات لتعطيل المسار القضائي لهذا الملف.

ويقول، في هذا الصدد، فيصل نجيمة، المختص في الكيمياء والذي يعمل منذ سنوات في المعمل، إن اندلاع حريق داخل المصنع يشكل خطرا كبيرا نظرا إلى قربه من مخزن الأمونياك ومن معمل إنتاج الأمونيتر، موضحا أن الخطورة تكمن في عدم استكمال عملية الإنتاج نتيجة نقص مادة معينة تغلّف بواسطتها حبة الأمونيتر.

وقد تم في بداية سنة 2020 صنع مادة الأمونيتر دون استعمال هذه المادة العازلة، وفق تصريحات نجيمة الذي أشار إلى وجود نقص حاد في المادة المذكورة دون أن يقع طرح طلب عروض، مما أجبر المصنع على الاشتغال دون استعمال هذه المادة اللاصقة.

ورغم تسجيل إخلالات في عملية الجرد التي تم القيام بها بداية 2020، فقد وقع استغلال ظرف الحجر الصحي الشامل والعمل داخل المصنع دون استعمال المادة العازلة.

وعلى الرغم من أن المخبر الموجود بالمجمع الكيميائي يعدّ من أفضل المخابر التونسية، إلا أن سياسة التهميش والإغراق حالت دون تطوره، وفق فيصل نجيمة الذي يعتبر أنه لم يقع تطوير منظومة السلامة وتحسين الرقمنة المتوفرة حاليا.

لم يقع العمل على تطوير مصنع الأمونيتر بقابس، والذي تأسس منذ الثمانينات، لذلك مازال المعمل إلى اليوم يعمل وفق منظومة معلوماتية عادية يعتبرها البعض بدائية، ولم يتم التوجه نحو منظومة معلوماتية الكترونية ما يثير حفيظة عملة المصنع الذين يتبرمون من مركزية القرار ويتهمون وزارة الطاقة والمناجم بعدم مراقبة ما يحصل في قابس بعيدا عن أعين السلطات الرسمية.

ويفيد، في هذا الإطار، خير الدين دبية، ممثل حملة يكفي تلوث قابس، أن حريقا وقع يوم 29 مارس 2020 بالمعمل إلا أنه لحسن الحظ لم يصل إلى منطقة الجمع، ذلك أن وصول الحريق إلى تلك المنطقة كان سيؤدي إلى انفجار أقوى من انفجار بيروت بعشرات المرات لأن كمية الأمونيتر الموجودة هناك تفوق تلك التي انفجرت في بيروت. علاوة على أن الانفجار كان سيؤدي أيضا إلى انفجار مادة الأمونياك، وهي أخطر من الأمونيتر وقد يصل مدى انفجارها إلى 20 كم، بالإضافة إلى إمكانية انفجار للغاز قرب معمل الأمونيتر.

ويذكر دبية أن نشطاء المجتمع المدني والمواطنين بقابس كانوا يطلقون نداءات استغاثة من معمل الأمونيتر الذي كان عماله وأعضاء النقابة بالمصنع يصدرون البيانات المحذرة من خطورة الوضع والمنبهة إلى إمكانية وقوع كارثة قبل حصول انفجار بيروت.

كما يعدّ كلّ من المجمع الكيميائي بقابس ومصنع الأمونيتر مصدر تلوث كبير له تأثير على صحة السكان بالمنطقة وسلامتهم، مما يجعل من هذا الملف خطرا على الأمن العام.

ويؤكد فؤاد كريم، عضو اللجنة الوطنية للشفافية في الطاقة، وجود مخاوف من وقوع انفجار في المصنع منذ تأسيسه، مبينا أن مدى الانفجار، في حال حدوثه، سيبلغ حوالي 40 كلم أي أن ولاية قابس بأكملها مهددة، مستدركا بالقول إنه لم يخطر ببال أحد أن يقع انفجار لبنان الذي فتح أعينهم على الخطر المحدق بالولاية.

ويعتبر أن مشكلة الأمونيتر عويصة نظرا إلى قرب المصنع من معمل الأمونياك ومن مشروع نوارة أين يقع تخزين الغاز الطبيعي، مشيرا إلى وجود تهاون كبير في حفظ السلامة الصناعية.

ويشدد، في الآن ذاته، على أن المجتمع المدني بقابس ونقابات معمل الأمونيتر واعون بخطورة الموقف، مذكرا بالدعوات إلى بناء جدار عازل حول المنطقة الصناعية على الرغم أن انفجار بيروت أثبت أنه حتى الاسمنت المسلّح لن يستطيع الحد من خطورة الانفجار.

استبعاد إمكانية حدوث كارثة

في المقابل، يؤكد مسؤول مهتم بالسّلامة بالمجمع الكيميائي التونسي بقابس لـ”الكتيبة” أن “معمل الأمونيتر يلتزم بإجراءات السلامة. والمجمع لا ينتظر كارثة عالمية لتطبيق إجراءات السلامة، والمؤسسة مصنّفة كمؤسسة مزعجة ومخلة بالصحة وتطبق عليها القوانين في الغرض. وتمت دراسة المخاطر والدراسة مصادق عليها من طرف إدارة السلامة بوزارة الصناعة للحفاظ على سلامة المكان والعاملين والتسربات لغاز الأمونياك عند التدخل فقط”.

ويبرز أن مادة الأمونيتر غير قابلة للاشتعال ولكنها تشكل خطرا عند وجود مصدر طاقة خارجي أو حريق بجانبها أو تسرب غازي. مشيرا إلى أنه يتم تطبيق كل آليات الحماية في تخزين مادة الأمونيتر وأنه للشركة إمكانيات التصدي للحرائق سواء البشرية أو التقنية، إضافة إلى وجود فرق من الحماية المدنية قريبة، ومخططات للتدخل الداخلي ومخطّطات الإنذار والإجلاء، علاوة على التنسيق الكامل مع الحماية المدنية إذ يتم تنظيم عمليات بيضاء مرة في السنة وزيارات ميدانية للمعمل وزيارات للحرس الوطني سنويا.

وراسلت الكتيبة كذلك في أكثر من مناسبة وزارة الصناعة والطاقة والمناجم طلبا لتوضيحات حول حقيقة الوضع في مصنع الأمونيتر لكن الوزارة لم تجب على استفساراتنا.

نُشر هذا المقال بموقع الكتيبة بتاريخ 25 مارس 2021

بقلم الصحفية المصورة، والخبيرة الدولية والمدربة في مجال الإعلام مبروكة خذير.

زر الذهاب إلى الأعلى