سليديرمقالات

المدن المستدامة في تونس: رؤية وبرنامج وطني للتنمية

إن التحول نحو مدن ذكية مستدامة هو خطوة ضرورية لمواجهة التحديات البيئية الحضرية.

المدن الذكية تستخدم التكنولوجيا لتحسين إدارة الموارد وتقديم خدمات أفضل. على سبيل المثال، يمكن استخدام أنظمة النقل الذكية لتقليل الازدحام وتحسين كفاءة النقل، بينما تسهم المباني الذكية في تقليل استهلاك الطاقة من خلال تقنيات مثل الإضاءة الموفرة للطاقة وأجهزة التكييف الذكية.

 ماذا سيحدث إذا تُركت المدن لتنمو بشكل عشوائي؟

ستظهر مشكلات عدة، منها تزايد التلوث البيئي، تدهور جودة الحياة، وزيادة استنزاف الموارد الطبيعية.

هذه الأزمات تجعل التّحول إلى مدن ذكية ومستدامة اليوم ضرورة ملحة لضمان بيئة صحية ومستدامة للجميع.

المدن المستدامة هي تلك التي تسعى لتحقيق توازن بين النمو الحضري والحفاظ على البيئة. هذه المدن تستخدم أحدث التقنيات والإجراءات لتحقيق كفاءة استخدام الموارد وتقليل التلوث. المدن المستدامة تسعى أيضًا إلى تحقيق رفاهية سكانها من خلال تحسين جودة الحياة والحد من الأثر البيئي السلبي. من خلال التصاميم الذكية والإدارة الفعالة، يمكن لهذه المدن أن توفر بيئة صحية ومستدامة للأجيال القادمة.

معايير الاستدامة في المدن

تحقيق المدن المستدامة يعتمد على تطبيق مجموعة من المعايير التي تضمن تحسين كفاءة استخدام الموارد وحماية البيئة. تشمل هذه المعايير:

  1. إدارة الموارد بكفاءة: تشمل استخدام المياه والطاقة بشكل فعال عبر تبني تقنيات حديثة وإجراءات مبتكرة لتقليل الهدر.
  2. النقل المستدام: يتضمن تطوير أنظمة النقل التي تدعم استخدام وسائل النقل العامة وتقليل الاعتماد على المركبات الخاصة، مما يساهم في تقليل الانبعاثات الكربونية.
  3. العمارة الخضراء: تصميم المباني بطريقة تقلل من استهلاك الطاقة وتستخدم مواد بناء صديقة للبيئة، مثل الألواح الشمسية والأسطح الخضراء.

المدن المستدامة في تونس

 تسعى تونس إلى جعل مدنها أكثر استدامة عبر إنشاء برنامج وطني للمدن المستدامة، الذي يدخل في إطار الزخم الوطني للتنمية المستدامة ويعتمد على استراتيجيات قطاعية وآليات مؤسسية وتقنية متطورة.

يهدف هذا البرنامج إلى تشريك المدن التونسية في مسار التنمية المستدامة من خلال تقييم حالتها التشخيصي وتحديد الصعوبات والعوائق التي قد تعيق تحقيق مستويات الاستدامة المطلوبة، بالإضافة إلى التشخيص الدقيق لميزات الوضع التنموي لكل مدينة لتسريع انتقالها نحو الاستدامة.

تم إعداد دراسة أولية اعتمدت على عينة ممثلة من المدن التونسية لتحليل وضعها الراهن باستخدام نموذج تحليلي متعدد المعايير، ومن ثم تم وضع سيناريوهات عمل مخصصة لكل مدينة بالاعتماد على معايير ومؤشرات للرصد والتقييم تلائم السياقات المحلية.

أهداف وأهمية المدن المستدامة 

يشكل البرنامج فرصة لتطوير الحضري وتحسين جودة حياة السكان من خلال التركيز على التقليل من استهلاك الموارد، احترام البيئة، خلق مناصب عمل خضراء، وترشيد استعمالات الطاقة والمياه. كما يساهم في مكافحة التّلوث وتحسين نظافة المدن وجماليتها، ودعم الاقتصاد الأخضر كرافد قوي للتنمية في تونس.

هذا التّحول ينسجم مع أهداف التنمية المستدامة العالمية وخاصة الهدف 11 المتعلق بجعل المدن والمستوطنات البشرية شاملة وآمنة ومرنة ومستدامة.

أبرز مبادرات المدن المستدامة في تونس منذ 2015 

 في تونس، توجد عدة مشاريع ناجحة تعكس الجهود التنموية المستدامة في مدن مختلفة، منها:

  • في مدينة تونس العاصمة، نفذ مشروع نموذجي بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يركز على البناء الإيكولوجي، تحسين الإنارة العمومية وترشيد استهلاك الطاقة، مما ساهم في تحسين جودة الحياة للسكان.
  • في القيروان، تم تطبيق مشروع نموذج للمدن المستدامة يشمل تعزيز قدرات البلديات، تشجيع الطاقة المتجددة، وزيادة المساحات الخضراء مما ساهم في خلق بيئة حضرية صحية وتوفير فرص عمل خضراء للسكان.
  • في مناطق أخرى مثل سوسة وصفاقس، شهدت تطويرات في البنية التحتية للطاقة المتجددة وترشيد استهلاك المياه، مع تنفيذ مشاريع لتحسين إدارة النفايات الصلبة.
  • مبادرات صغيرة ناجحة في المدن التونسية تشمل إنشاء مغاسل التنظيف بالشاحنات التي توفر الوقت والجهد للسكان، فضاءات العمل المشتركة التي تدعم الشباب والعاملين المستقلين، ومشاريع مطابع رقمية تخدم الطلبة والمؤسسات التعليمية.
  • مشاريع في قطاع الزراعة المدعومة في الأرياف والخضراء تشمل تجفيف الطماطم وتصبير المخللات التي توسع فرص الدخول لأهالي المناطق.
  • أيضاً، مشاريع تهيئة المساحات الخضراء وإعادة تدوير مواد نفايات تتصاعد في عدة مدن، مدعومة برؤية بيئية تهدف لرفع جودة الحياة الحضرية.

هذه الأمثلة توضح تنوع المشاريع الناجحة التي تدمج عناصر الاستدامة مع الواقع التنموي التونسي مما ينعكس إيجابياً على جودة حياة المواطنين ويوفر فرص اقتصادية واجتماعية متجددة.

منذ عام 2015، شرعت تونس في تنفيذ برنامج وطني للمدن المستدامة يهدف إلى إدماج المدن التونسية في مسار التنمية المستدامة باعتبارها ركيزة رئيسية للنمو الاجتماعي والاقتصادي وحماية البيئة.

 انطلقت المرحلة الأولى من البرنامج بدراسة تقييمية شاملة لوضع المدن عبر نموذج تحليلي متعدد المعايير لتشخيص الصعوبات والميزات التنموية لكل مدينة، مما أتاح وضع سيناريوهات عمل تتناسب مع الواقع المحلي لكل منها، بهدف تسريع انتقالها نحو الاستدامة.

وفي المرحلة الثانية (انطلقت منذ 2023)، جرت المبادرة لإنشاء منصة إلكترونية تدعم البلديات في تبادل الخبرات والتعاون في مجالات الطاقة المتجددة، ترشيد استهلاك المياه، وإعادة تدوير النفايات، مع تركيز واضح على تحسين جودة الحياة وخلق وظائف خضراء جديدة.

أما المرحلة الثالثة (2024-2025)، فتتضمن مشروعًا نموذجيًا بمدينة القيروان بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لتعزيز البناء الإيكولوجي وتدعيم القدرات المحلية وترشيد الإنارة العمومية، مع خطة لتعميم التجربة على كافة المدن التونسية.

هذه المبادرات تندرج ضمن استراتيجية وطنية أوسع للتنمية المستدامة تشمل تحسين جودة الحياة، المحافظة على التنوع البيولوجي، النهوض بالاقتصاد الأخضر، ومكافحة التغيرات المناخية، ملتزمة بذلك بالأهداف العالمية للتنمية المستدامة ومنها الهدف الحادي عشر الخاص بجعل المدن والمستوطنات أكثر شمولية وأمانًا ومرونة واستدامة. كما ترافق تلك الجهود برامج لضبط التخطيط العمراني وحماية التراث الحضري، تعزيز الحوكمة البيئية المحلية، وتحقيق التنمية الحضرية المستدامة في كل أنحاء البلاد. كل ذلك يترجم الالتزام الواضح لدولة تونس في تحقيق تنمية حضرية مستدامة تسهم في تعزيز الاستقرار البيئي والاجتماعي والاقتصادي للمواطنين.

كيف يؤثر برنامج المدن المستدامة على جودة حياة المواطنين

برنامج المدن المستدامة يؤثر بشكل مباشر وإيجابي على جودة حياة المواطنين من خلال عدة محاور رئيسية.

 أولاً، يعمل على تحسين البيئة الحضرية عبر تقليل التلوث، إدارة أفضل للنفايات، وترشيد استهلاك المياه والطاقة، ما يعود بفوائد صحية من حيث جودة الهواء والماء ويقلل من انتشار الأمراض.

ثانياً، يسهم البرنامج في تعزيز البنية التحتية الذكية التي تمكن من تقديم خدمات عامة أكثر كفاءة مثل النقل العام الذكي، الإنارة الموفرة للطاقة، والاستجابة السريعة للطوارئ، ما يوفر الوقت والجهد ويزيد من راحة المواطنين وأمانهم.

 ثالثاً، يشجع البرنامج على المشاركة المجتمعية والشفافية في اتخاذ القرارات من خلال المنصات الرقمية، مما يعزز شعور المواطنين بالانتماء والمسؤولية ويدعم مواطنة فاعلة.

أخيراً، تتضمن المبادرات خلق فرص عمل خضراء وتحسين الرفاهية الاجتماعية من خلال توفير مساحات عامة خضراء ومرافق مجتمعية تعزز من التفاعل الاجتماعي والصحة النفسية. لذا، يمثل برنامج المدن المستدامة إطاراً متكاملاً يدعم التنمية الشاملة ويحول المدن إلى أماكن أكثر أماناً وراحة واستدامة لسكانها.

فتحية خذير – كوسموس ميديا 

زر الذهاب إلى الأعلى