سليديرمقالات

من الخليج إلى المستقبل: ورشة إقليمية في تونس ترسم ملامح الانتقال الطاقي في المنطقة

مبروكة خذير – كوسموس ميديا تونس

في أجواء بحرية هادئة تُطل على خليج قربص، حيث يمتزج نسيم المتوسط بنبض الحوار، احتضنت تونس بين 19 و21 أكتوبر 2025 ورشةً إقليمية نظمها المعهد الدولي لحوكمة الموارد الطبيعية (NRGI) بالشراكة مع المؤسسة الأوروبية للمناخ (ECF)، تحت شعار: “الانتقال الطاقي العادل في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: من الرؤية إلى التنفيذ”.

جمع اللقاء ممثلين من تونس والمغرب ومصر ولبنان والعراق، ليكون مساحةً للتفكير المشترك حول كيفية العبور من مرحلة الخطاب إلى الفعل، ومن الطموح إلى التطبيق، في مسار تحوّل المنطقة نحو طاقات نظيفة تراعي العدالة الاجتماعية والتنموية.

من قمم المناخ إلى المبادرات المحلية

بعد الزخم الذي أحدثته مؤتمرات المناخ العالمية الأخيرة، من COP28 في دبي إلى COP29 في باكو، تجد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نفسها أمام مفترقٍ حاسم: كيف تتحرر من تبعيتها التاريخية للوقود الأحفوري دون المساس بأمنها الاجتماعي والاقتصادي؟

فالمنطقة التي تعتمد بشكل واسع على عائدات النفط والغاز، تواجه في المقابل هشاشة مناخية متفاقمة تهدد مواردها الحيوية، من المياه والزراعة إلى الصحة والبنية التحتية.

لقد شكلت نتائج COP28 في دبي نقطة تحول في المسار المناخي العالمي، مع التزام الدول بخفض الانبعاثات بنسبة 43% بحلول عام 2030، وتوسيع نطاق الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة. كما أُنشئ صندوق دولي جديد لتعويض الخسائر والأضرار الناتجة عن التغير المناخي، لدعم المجتمعات الأكثر هشاشة، ومنها مجتمعات منطقتنا العربية.

وفي باكو، خلال COP29، تواصلت الجهود لتفعيل هذه الالتزامات عبر وضع أهداف تمويل مناخي طموحة تتجاوز 300 مليار دولار سنويًا، تُوجّه نحو دعم التحول الأخضر وتمكين المجتمعات المحلية من بناء قدرتها على الصمود أمام الأزمات المناخية.

العدالة في قلب التحول

تُترجم هذه التحولات العالمية في منطقتنا إلى مبادرات وسياسات محلية أكثر طموحًا، تضع المواطن في قلب عملية الانتقال الطاقي.
من تطوير مشاريع الطاقة الشمسية والرياح إلى تحسين كفاءة الاستهلاك، تسعى الحكومات إلى تحقيق توازن دقيق بين النمو الاقتصادي والاستدامة البيئية، وفق منطق العدالة الطاقية الذي لا يُقصي أحدًا.

وفي هذا السياق، قالت الدكتورة أسماء عرباوي، أستاذة بجامعة محمد الخامس بالرباط:

“قدّمنا في هذا المؤتمر التجربة المغربية الرائدة في مجال الطاقات المتجددة والتنمية المستدامة، وهي تجربة أصبحت نموذجًا يُحتذى به إقليميًا ودوليًا، إذ جعلت المملكة من الطاقة المتجددة ركيزة أساسية في سياستها الوطنية عبر استثمارات استراتيجية كبرى.”

تونس على خريطة الحوار الإقليمي

لا تأتي الورشة الإقليمية في تونس حدثًا معزولًا، بل حلقة في سلسلة من الجهود المتكاملة لإرساء حوكمة عادلة للموارد وتوسيع مشاركة الفاعلين من مختلف القطاعات.

فمنظمات المجتمع المدني والإعلاميون والخبراء المشاركون في اللقاء أكدوا أن نجاح الانتقال الطاقي لا يُقاس فقط بالمشاريع التقنية أو بالأرقام، بل بمدى قدرته على ضمان حق المواطن في طاقة مستدامة وآمنة وبأسعار منصفة.

منصة للحوار والتعاون من أجل انتقال طاقي عادل

على مدى ثلاثة أيام، تحولت الورشة إلى منصة ديناميكية تجمع أبرز فاعلي التحول الطاقي من المجتمع المدني والحكومات ووسائل الإعلام.
ليست هذه الورشة مجرد لقاء تقني، بل فضاء حيّ للنقاش والتفكير الجماعي، يهدف إلى تمكين المشاركين من أدوات عملية تعزز قدراتهم في الدفاع عن سياسات انتقال طاقي أكثر عدالة واستدامة.

أشرفت على اللقاء لوري هايتيان، المديرة الإقليمية لمعهد حوكمة الموارد الطبيعية، إلى جانب فريق تونسي شاب يقوده عبير يحيى وسامي بالحاج، فيما أثْرى الجلسات نخبة من الخبراء الإقليميين على غرار عماد الزواري وهشمي عطي، إضافة إلى وجوه إعلامية وفكرية من المغرب وتونس ومصر ولبنان والعراق.

تطمح هذه الورشة إلى ترسيخ ثقافة جديدة للحوكمة الشفافة والمشاركة المجتمعية والمساءلة في قطاع الطاقة، عبر جلسات تفاعلية تنبض بروح الإبداع: عروض فنية، ورش لتصميم الحملات الوطنية، ومساحات حوار مفتوحة لبناء جسور بين الخبراء والممارسين.

في حديثها لـ كوسموس ميديا، قالت لوري هايتيان: “نحن في تونس ضمن ورشة حول المناصرة الوطنية والتعاون الإقليمي في مجال الطاقات المتجددة والتحول الطاقي. جمعنا خمس دول من المنطقة — المغرب، تونس، مصر، لبنان والعراق — لتبادل الخبرات بين المجتمع المدني وممثلي الحكومات والإعلام، بهدف إرساء أجندة وطنية وإقليمية مشتركة للتحول الطاقي.”

أما حسن معتيق، المكلف بالإعلام في الائتلاف المغربي من أجل المناخ والتنمية المستدامة، فقال: “الانتقال الطاقي مسؤولية مشتركة بين جميع الفاعلين، ولا يمكن للإعلام والمجتمع المدني أداء دورهما بفعالية دون الوصول إلى المعلومة الصحيحة ودعم الإعلام البيئي المتخصص.”

تونس: الطموح والتحديات في قلب الجنوب

تسعى تونس لرفع حصة الطاقات المتجددة إلى 35% من إنتاج الكهرباء بحلول 2030. غير أن هذا المسار يواجه عقبات عديدة: بطء الإجراءات، هشاشة البنية التحتية، ونقص التمويل.

ومن بين المشاريع الطموحة مشروع H2 Notos لإنتاج الهيدروجين الأخضر، الذي يعتمد على الطاقة الشمسية والرياح وتحلية المياه. ورغم أهميته، يثير تساؤلات حول جدواه الاقتصادية ومدى استفادة المجتمعات المحلية منه، خاصة مع التركيز على التصدير نحو أوروبا.

وفي حديثه لـ كوسموس ميديا، قال خالد الشهيبي، رئيس قسم الحوكمة بالشركة التونسية للكهرباء والغاز: “الانتقال الطاقي في تونس لم يعد خيارًا، بل ضرورة استراتيجية لضمان أمن الطاقة. لدينا رؤية واضحة، لكننا نحتاج إلى دعم مالي أقوى وتسريع تحسين البنية التحتية، فضلاً عن تبسيط الإجراءات الإدارية التي تعرقل التنفيذ.”

مصر: وفرة الموارد وتحدّي العدالة الطاقية

تخوض مصر مرحلة مفصلية في مسار تحولها الطاقي، وتعمل على رفع حصة الطاقات المتجددة إلى 42% من مزيجها الوطني بحلول 2030.
يُعد مجمع بنبان الشمسي في أسوان أحد أبرز رموز هذا التحول.

وفي حديثه لـ كوسموس ميديا، أكد الدكتور جواد الخراز، مدير الشبكة المتوسطية للطاقة النظيفة ومنسّق مبادرة “تيراميد”: “نسعى للوصول إلى قدرة مركبة تبلغ تيراواط واحد من الطاقة المتجددة في منطقة المتوسط بحلول 2030، مستفيدين من الإمكانات الهائلة لشمال إفريقيا.”

ورغم الزخم في المشاريع، تبقى العدالة الطاقية في صميم المعادلة، إذ تسعى مصر لضمان استفادة الفئات محدودة الدخل من مشاريع الطاقة المتجددة، وتعمل على تحسين كفاءة الاستهلاك وتشجيع الاستثمارات الخضراء.

المغرب: الريادة والتخطيط المستقبلي

يُعد المغرب من رواد الانتقال الطاقي في المنطقة، بمشاريع كبرى أبرزها محطة نور ورزازات للطاقة الشمسية.
وتهدف المملكة إلى أن تتجاوز نسبة الكهرباء المنتجة من مصادر متجددة 50% بحلول 2030، وصولاً إلى الحياد الكربوني عام 2050.

قال الدكتور هشام بوزيان، مدير التخطيط بجهة طنجة تطوان الحسيمة: “التحول الطاقي يمثل ضرورة استراتيجية لضمان الأمن الطاقي وتقليل التبعية للوقود الأحفوري، وتعمل الجهة على دعم البحث العلمي وخلق فرص عمل خضراء من خلال شراكات بين القطاعين العام والخاص.”

العراق بين إرث النفط وحلم العدالة الطاقية

يسعى العراق لإنتاج 12 ألف ميغاواط من الكهرباء من مصادر متجددة بحلول 2030، رغم تحديات البنية التحتية.
قال الدكتور فلاح العامري لـ كوسموس ميديا: “العراق يعيش مرحلة انتقالية حاسمة نحو تنويع مصادر الطاقة، مع تركيز كبير على تطوير المشاريع الشمسية. هذا التحول فرصة تاريخية لإعادة توزيع الثروة وتحسين نوعية حياة المواطنين.”

لبنان: بين أزمة الكهرباء وأفق التحول الطاقي

يعاني لبنان من انقطاع مزمن للكهرباء واعتماد شبه كلي على الوقود المستورد. ورغم ذلك، بدأت البلاد تخطّ مسارًا تدريجيًا نحو التحول الطاقي، بتعزيز حصة الطاقة الشمسية والرياح، وتحسين كفاءة الاستهلاك.
كما تسعى لبناء شراكات إقليمية لتطوير مشاريع مشتركة للطاقة المتجددة، بما يضمن أمنًا طاقيًا مستدامًا وعدالة اجتماعية.

الإعلام… قاطرة الانتقال الطاقي

يبرز الإعلام اليوم كقوة محركة نحو التغيير، لا مجرد ناقل للخبر، فهو الجسر بين صانعي القرار والجمهور.

قالت الصحفية مبروكة خذير، مؤسسة منصة إعلامية تُعنى بالبيئة والتنمية المستدامة: “من الضروري التوجه نحو الطاقات المتجددة في ظل التغيرات المناخية المتزايدة، ودور الإعلام يتمحور في التحسيس والتوعية بأهمية هذه الطاقات، ليكون الإعلام قاطرة لهذا التحول.”

ختامًا، تؤكد الورشة أن الانتقال الطاقي العادل ليس مجرد تحول تقني، بل مشروع إنساني وتنموي عميق، يرسم ملامح مستقبلٍ تشاركي أكثر عدلاً واستدامة في منطقتنا التي تشرق عليها الشمس 300 يومًا في السنة — بما يكفي لإضاءة طريق الجميع نحو مستقبل أخضر.

زر الذهاب إلى الأعلى