تحقيقات

تونس تواجه خطر الجفاف

مع ندرة الأمطار وتراجع منسوب السدود، تعالت في تونس أصوات الخبراء المطالبة بإعلان حالة الطوارئ المائية، خاصة وأن البلاد تصنف تحت خط الفقر المائي.

وانخفض نصيب التونسي من المياه إلى 350 مترا مكعبا في العام، وهي كمية تقل بنحو 50% عن المعدل الذي توصي به منظمة الصحة العالمية (بين 500 و700 متر مكعب).

2023.. السنة الأكثر جفافا

ويتوقع خبراء أن يكون 2023 هو العام الأكثر جفافا بالنسبة لتونس، خاصة في ظل تراجع منسوب امتلاء السدود إلى ما دون الـ28% حاليا.

ويؤكد المتخصص في التنمية والتصرف في الموارد المائية، حسين الرحيلي، في تصريح لـ”سبوتنيك” أن “هذه النسبة مفزعة ولم تشهدها تونس منذ عام 1960 على الأقل”.

ويرى الرحيلي أن “تونس باتت تعاني من أزمة مائية حادة ساهمت فيها التغيرات المناخية بدرجة أولى، وغياب سياسات عمومية تواكب ارتفاع الطلب على المياه من ناحية ثانية، وإغفال الهدر المائي خاصة في مجال الفلاحة من ناحية ثالثة”.

ويؤكد الرحيلي أن “تونس دخلت مرحلة الشح المائي منذ عام 2015، بعد أن تدنى نصيب الفرد من المياه إلى أقل من نصف الكمية المتفق عليها دوليا، منبها إلى خطورة المرحلة التي بلغتها تونس اليوم، والتي تدل عليها مؤشرات عدة من بينها مطالبة السلطات المزارعين في بعض الجهات بتجنب الزراعة في المناطق التي تروى تقليديا بمياه السدود”.

وأضاف: “الإشكال لا يتعلق فقط بندرة المياه وإنما حتى بجودتها، فتونس هي الثالثة عالميا من حيث استهلاك المياه المعلبة وهو ما يكشف تدني جودة المياه التي توزعها الدولة”.

وقال حسين الرحيلي إن “تونس مطالبة بإعلان حالة الطوارئ المائية في أقرب الآجال والمباشرة في اتخاذ اجراءات عاجلة، للحد من ندرة المياه، على غرار معالجة شبكات توزيع المياه المتهرئة، والتي تتسبب في ضياع المياه بنسب تصل إلى 50% في بعض المناطق، والتقليص من الاستهلاك الفلاحي للمياه الذي تصل نسبته إلى 77%”.

ويرى الرحيلي أن “الحلول الأخرى على غرار تحلية مياه البحر ستكون مكلفة بالنسبة لتونس، التي تعاني من عجز طاقي كبير”، مشيرا إلى أن “كلفة المتر مكعب من المياه المحلاة تصل إلى 3 دنانير، دون احتساب الارتفاعات المحتملة لأسعار الطاقة، وهي كلفة ستقع على عاتق المواطن”.

الآبار العشوائية خطر داهم

وتؤكد الخبيرة في الموارد المائية، روضة قفراج، لـ “سبوتنيك”، أن “البلاد تعاني من إشكاليات مائية حادة على أكثر من صعيد”، مشيرة إلى أن “مخزون تونس من المياه لا يتعدى حاليا 644 مليون متر مكعب، مقارنة بـ989 مليون متر مكعب في نفس الفترة من العام الماضي”.

وبيّنت قفراج أن “نسبة امتلاء أكبر سد في البلاد وهو سد سيدي سالم (شمال غرب تونس) لا تتجاوز 15% حاليا”، مشيرة إلى أن “شح المياه تسبب في جفاف الأرض وتراجع الموارد المائية السطحية للبلاد”.

وأضافت: “الإشكال الأكبر والأخطر يتعلق بنقص المياه التي تجدد المائدة المائية، فالسدود لا توفر سوى 20% من المياه المستهلكة في تونس، أما الـ80% المتبقية فهي متأتية من المائدة المائية”.

ونبّهت قفراج إلى أن “المائدة المائية أصبحت مستنزفة بعد أن تجاوزت طاقة استعمالها 134%، بسبب الانتشار الكبير للآبار العشوائية التي فاق عددها 21 ألفا، مقارنة بـ14 ألف بئر مرخصة”.

وأوضحت: “في وقت الجفاف، تعطي الدولة الأولوية لمياه الشرب وتعمد وزارة الفلاحة إلى إنقاص كمية المياه المخصصة للمزارعين، وهو ما يدفعهم إلى البحث عن مصادر أخرى للمياه مثل حفر الآبار العشوائية أو سرقة المياه من أنابيب الشركة الوطنية لتوزيع المياه أو حتى شراء الماء من مزارعين يمتلكون آبارا مرخصة”.

وقالت قفراج: “بات من الضروري أن يعلن رئيس الجمهورية حالة الطوارئ المائية، ويتخذ إجراءات عاجلة، تنطلق أولا بحصر كميات المياه المستخرجة من المائدة المائية، والحد من تبذير المياه بمنع الاستعمالات غير الضرورية مثل الزراعات الموجهة للتصدير وشطف المنازل والسيارات”.

“ماتت الأراضي عطشا ولم تعد تثمر زرعا”، بهذه الكلمات لخّص أيمن البكري معاناته ومعاناة العشرات من المزارعين الذين يبُست أراضيهم وتلُفت محاصيلهم بسبب الجفاف ونقص المياه.

يقول أيمن (36 سنة) وهو أصيل محافظة سليانة بالشمال الغربي التونسي لـ “سبوتنيك“، إن عددا كبيرا من الفلاحين هجروا الزراعة بسبب عدم توفر الماء نتيجة قلة الأمطار وجفاف السدود التي كانت تمد الأراضي الزراعية بالمياه.

يضيف بحسرة “ها نحن اليوم نستقبل موسما جديدا من الحصاد بأرض بور وقاحلة”.

الجفاف يلتهم الأراضي الزراعية

وأشار أيمن إلى أن الجفاف أصاب العديد من الأراضي في منطقته، وهو ما دفع المزارعين إلى ترك الزراعات الكبرى وزراعة الخضراوات التي تحتاج إلى المياه كي تنمو، وصاروا يعولون على ما تنتجه بعض الأشجار من ثمار أو على الغراسات الموسمية التي لا تستهلك كميات كبيرة من المياه.

يقول عادل، فلاح آخر من منطقة تازركة التابعة لمحافظة نابل لـ “سبوتنيك“: “قبل سنوات كانت أراضينا خضراء تملؤها أنواع جمة من الخضراوات والغلال من فلفل وبطاطا وطماطم وكرمب وفراولة ورمان، ولكن هذه النعم أصبحت محظورة في منطقتنا بسبب الجفاف وملوحة المياه التي تحول دون أن ينبت زرعنا”.

وأضاف عادل (41 سنة) أنه استبدل زراعة الخضراوات بزراعة الشعير على الرغم من أنها لا تدر له ربحا كثيرا ولا تغطي مصاريف البذور والآلات التي يحتاجها للحرث والحصاد، فالبذور التي يزرعها تنبت صغيرة الحجم بسبب قلة تساقط الأمطار.

وأردف: “ندعو الله دائما أن يدر علينا بالأمطار، فهي التي تبث الحياة في زرعنا وتعيد لنا الأمل في فلاحتنا.. ولكن منذ سنوات تبخر أملنا في عودة الحياة إلى هذه الأراضي”.

وأكد الفلاح منير الجيلاني (39 سنة) لـ “سبوتنيك” أن السلطات التونسية لا تستجيب إلى مطالب المزارعين المتكررة بحفر آبار ينقذون بها غراساتهم نظرا لوجودها في مناطق تصنفها وزارة الفلاحة على أنها مناطق حمراء (يمنع فيها حفر الآبار).

ولفت المزارع إلى أن بعض الفلاحين يلجؤون إلى شراء المياه لإنقاذ غراساتهم من العطش، قائلا: “لا يمكن أن تستمر هذه الحلول الترقيعية، فثمن الصهريج الواحد يتجاوز الأربعين دينارا (ما يقارب 13 دولارا) وهي لا تكفي لسقي عشرة أشجار زيتون”.

التصحر يهدد 75% من أراضي تونس!

وتنظر وزارة البيئة التونسية بعين قلقة إلى توسع محيط الجفاف الذي تقول إنه تحوّل إلى “واقع حقيقي ملموس ومقلق وجب التكيف معه وإدارته للحد من تأثيراته السلبية”.

وذكرت الوزارة، في بيانات نشرتها بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة التصحر والجفاف، أن 75% من التراب الوطني مهدد بالتصحر وأنه يتم تسجيل سنة جافة كل ثلاث سنوات خاصة بمناطق الوسط والجنوب، مشيرة إلى أن هذه الظاهرة تؤثر بصفة مباشرة على الإنتاج الفلاحي كالزراعات الكبرى والزياتين وتربية الماشية.

وأكدت الوزارة أنها وضعت هدفا وطنيا لحماية 2.2 مليون هكتار من الأراضي من التدهور بحلول سنة 2030، من خلال تنفيذ الاستراتيجيات القطاعية ذات العلاقة بالغابات والمحافظة على المياه والتربة والمناطق الرطبة وتنمية المراعي ومقاومة زحف الرمال والأنشطة الفلاحية المستدامة بمختلف المناطق والجهات.

وفي تصريح لـ “سبوتنيك“، قال المهندس البيئي المختص في الشأن المناخي حمدي حشاد، إن جل الأراضي التونسية معرضة بشكل أو بآخر للتصحر، مشيرا إلى أن هذه الظاهرة لم تعد مقتصرة على أفريقيا وجزء من آسيا بل زحفت إلى أبواب الاتحاد الأوروبي.

ولفت حشاد إلى أن المواطنين لهم بصمتهم في زحف التصحر، نتيجة تنامي السلوكيات التي تستنزف التنوع الحيوي كالقطع المفرط للأشجار والرعي العشوائي.

ونبّه حشاد إلى خطورة انتشار ظاهرة الجفاف على الإنتاج الفلاحي في ظل تواصل الشح المائي الناجم عن قلة تساقط الأمطار وجفاف السدود.

وأضاف: “أصبحت تونس مصنفة من الدول الفقيرة مائيا، فنصيب الفرد من الماء لا يتجاوز 450 مترا مكعبا، في حين أن الكمية التي حددتها منظمة الأغذية والزراعات الدولية تقدر بـ 1000 متر مكعب”.

ولفت الخبير البيئي إلى أن هذا المعدل آخذ في الانخفاض نتيجة ارتفاع عدد السكان، مشيرا إلى أن كميات المياه المتوفرة حاليا والمقدرة بـ 4.2 مليار متر مكعب لم تعد تلبي الحاجيات الكبرى للبلاد.

وقال حشاد إن الخطر الأكبر يتهدد القطاع الفلاحي الأكثر استهلاكا للمياه والأكثر هدرا لها في آن واحد، مشيرا إلى وجود مشاكل حقيقية تتعلق بضعف الحوكمة والفساد والتطاول على الدولة وانتشار الآبار غير المرخصة التي تستنزف الامكانيات المائية للدولة.

وأضاف: “من غير المعقول وجود 40 ألف مسبح خاص في بلد فقير مائيا ويواجه تحديات جدية في علاقة بنقص المياه، ومن المفترض أن تمنع الدولة الأنشطة المستنزفة للماء على غرار زراعة العشب الأخضر الذي لا قيمة انتاجية له”، مشددا على ضرورة دعم الشفافية في مراقبة وتوزيع الموارد المائية.

خطر على الرصيد الفلاحي والعقاري

وأكد الخبير في المياه حسين الرحيلي لـ “سبوتنيك” أن تونس تخسر سنويا 10 آلاف هكتار من أراضيها الخصبة بسبب الانجراف والرياح القوية والأمطار الطوفانية، مشيرا إلى أن 50.2 % من المساحة الجملية للبلاد التونسية صحراء.

وتابع: “تمسح الأراضي الصالحة للزراعة 32 % من التراب الوطني، ولكن عددا كبيرا من هذه الأراضي لحقها الانجراف أو مهددة بالانجراف بسبب غياب صيانة المياه والتربة. في حين تغطي الأراضي الاشتراكية (ملك للدولة) ما يقارب مليون هكتار ولكنها مهملة”.

ولفت الرحيلي إلى أن ثلاثي الإهمال والجفاف وقلة التساقطات المطرية أصبح يمثل خطرا حقيقيا على الرصيد الفلاحي والعقاري للبلاد التونسية.

وأضاف: “من نتائج هذا الثلاثي هو تراجع مردودية الإنتاج الوطني في الحبوب، فهي تتراوح بين 12 إلى 15 قنطارا في الهكتار الواحد، وهو دليل واضح على تفقر التربة في بلد كان يسمى مطمورة روما، ولكنه اليوم يستورد 80% من حاجياته من الحبوب وحوالي 50% من حاجياته من الأعلاف، ومن المتوقع أن تتجاوز قيمة توريد هذه المواد 2 مليار دينار هذه السنة وهو ما سيؤثر على التوازنات المالية الكبرى للدولة”.

ويرى الرحيلي أن حديث السلطات التونسية عن رسكلة المياه المستعملة أو تحلية مياه البحر بعيد عن الواقع، لأن كلفة انتاج متر مكعب من تحلية مياه البحر تصل إلى 3 دنانير، متسائلا “بكم ستبتاع الدولة المياه المحلاة للمواطن أو الفلاح؟”.

وقال الرحيلي: “قبل أن نصل إلى التفكير في الحلول البديلة والمكلفة، يجب على الدولة أن تعالج أولا مشكلة هدر المياه خاصة في قطاع الفلاحة الذي يستهلك 77% من الامكانيات المائية الوطنية، تهدر ما بين 25% إلى 33% منها في قنوات النقل، بينما يصل الإهدار على مستوى الكميات المعدة للشرب إلى 25 بالمائة”.

وشدد الرحيلي على ضرورة أن ترسم السلطات التونسية سياسة واضحة للتحكم في الماء الضائع والمقدر بحوالي مليار متر مكعب في السنة أي ما يعادل أكثر من 20 في المائة من الامكانيات المائية للبلاد.

وتابع: “الإجراء الثاني الذي يجب أن تتوخاه الدولة هو إعادة النظر في استعمال الماء في القطاع الفلاحي وعدم التشجيع على الانتاج الموجه للتصدير وتحويل تلك الكميات إلى الحاجيات الداخلية الأساسية المرتبطة مباشرة بالغذاء”.

وأشار الرحيلي إلى أن تونس “تصدر كميات كبيرة من البرتقال والتمر ولا تعي أنها تصدر في النهاية مياهها دون النظر في العواقب، فواحات التمور أصبحت مهددة بشح نهائي للموارد المائية بحلول سنة 2035 بسبب الاستنزاف الكبير لمياهها الذي يصل إلى 200% في واحة قبلي بالجنوب التونسي”.

المصدر : “سبوتنيك”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى